تظلّ المكتبات العامّة واجهة أساسيّة لصناعة فعل القراءة وتعزيزه، على الرغم من صعود أسهم الكتاب الإلكترونيّ والمكتبات الخاصّة، المحمولة في الجيب عبر الموبايل أو الأجهزة اللوحيّة، ومع تطور المكتبات التجاريّة وتنامي أدواتها التسويقيّة.
لكن المكتبات العامة في العراق تعرّضت كما باقي مفاصل الحياة إلى تحدّيات هدّدت وجودها. فمع دخول البلاد نفق الحروب المظلم، تحوّل الإنفاق الحكومي من مجالات التنمية الثقافية إلى تدعيم الترسانة الحربية، فتقلّص تدفّق الكتب إلى حد كبير. كما أن سياسة الحاكم الواحد الشمولية لم تتفق مع تنوّع الآراء وتقاطع الرؤى، مما جعل رفوف المكتبات تتعرّض إلى عمليات تفريغ واستبدال ممنهجة، فأبعد كلّ كتاب "مشبوه" يتحدّث عن قيم التعددية والحرية والديموقراطية خارج المفهوم البعثي الحاكم.
ثم جاء غزو الكويت، والحصار الاقتصادي، ليفاقم عزلة المكتبات العامة عن العالم، ويحرم روادها من التواصل مع ما يحدث خارج الحدود من تغيرات مضطردة علميا ومعرفيا. هيمنت العزلة التي فُرضت على البلاد على واقع الكتب والمجلات المستوردة، وصار الكتاب الجديد والأعداد الحديثة من الدوريات العلمية والثقافية والترفيهية حلما للقرّاء الذي استعاضوا عنها بما ظلّ يعبر الحدود خلسة من طريق التهريب أو المسافرين. وهي كميات لا تكاد تذكر، ولا تسدّ النقص الحاصل، على الرغم من لجوء العراقيين إلى استنساخ الكتب ثم بيعها في شارع المتنبي لسدّ النقص فيها، حتى راج ما سُمّي لاحقا بِـ"ثقافة الاستنساخ"، ومن ثم "أدب الاستنساخ". لكنها ظلت محصورة في بؤر تأثير محدودة وتحت مراقبة النظام ومضايقاته المستمرة.
حصار وعزلة
ثلاث عشرة سنة من الحصار والعزلة خلّفت فجوة ثقافية لا مراء فيها، مثلما صنعت تراجعا في معدلات القراءة واقتناء الكتاب. اتجه النشء العراقيّ إلى العمل في مهنة أو مهنتين ليعوّض ضيق الحال وصعوبات المعيشة. هكذا صارت القراءة شأنا للمترفين، وتوارت المكتبات العامّة خلف النسيان.
كانت لحظة الاحتلال الأميركي قاسية على البشر والحجر في العراق، ودفعت المكتبات العامة كما باقي مباني البلاد جزءا من ثمن الأخطاء الفادحة، فتعرّض العديد من أبنيتها في المحافظات والأقضية إلى النهب والتخريب، بل طال بعضَها الحرقُ والتجاوز. وقد وقف بعض العراقيين مواقف خالدة في الدفاع عن مكتباتهم أمام هولاكو الجديد.
في أيام الغزو الأولى، كانت مكتبة البصرة العامة في شارع السعدي، وسط المدينة، في عهدة دورية تابعة للجيش البريطاني، غير أنها انسحبت فجأة من المبنى الذي يحوي أكثر من 50 ألف كتاب، من ضمنها كتبٌ يرقى عمرها إلى 1300 سنة، وعدد من المخطوطات النفيسة. لكن عراقية تدعى عالية محمد باقر أصرّت على الذهاب إلى مبنى عملها في المكتبة العامة ونقلت - بمعاونة بعض الأهالي - أكثر من 30 ألف كتاب من أقسام المكتبة إلى أحد المباني المجاورة، ثم إلى بيتها بواسطة شاحنة كبيرة، وانتظرت. لم يطل الأمر بعد الانسحاب المريب لدورية الجيش البريطاني حتى اندلعت النيران في أجزاء واسعة من المبنى. خسرت المكتبة ما يصل إلى 40%من مقتنياتها.
بعد انتهاء الحرب، وسكون البركان، أعادت باقر ما حفظته من الكتب في بيتها إلى المكتبة العامة من جديد، وطافت قصتها الملهمة العالم بعدما كتبت جانيت وينتر، الصحافيّة في "نيويورك تايمز" مقالة عنها، ثم كتابا هو "أمينة مكتبة البصرة: قصة حقيقية من العراق" عام 2005، أعقبه كتاب مارك آلان ستاماتي ((2010: "مهمة عالية: إنقاذ كتب العراق".
غير أن الحال ما بعد 2003 لم تحمل للمكتبات العامة في العراق ما يحلم به مثقفوه ومحبو القراءة فيه. فمعروف أن التخصيصات المالية لوزارة الثقافة في الموازنة هي الأقل بين نظيراتها. وقد خلّف ذلك إهمالا فادحا لواقع المكتبات العامة، فالمباني قديمة، متهالكة، بلا ترميم، ما خلا حملات صبغ الجدران الداخلية والأسوار الخارجية. والمباني تفتقر إلى الكهرباء مما يجعل الصالات غير صالحة للقراءة مع ارتفاع درجات الحرارة لفترات طويلة في البلاد. والمصادر شحيحة، ولا كتب جديدة تضاف إلى مخازن المكتبات. كما أن الكوادر العاملة في الغالب تفتقر إلى السياقات الحديثة في التسويق للمؤسّسة، وتفعيل برامج الدعاية والإعلان، والاختلاط الفعّال مع المجتمع، حتى أن بعض المدن والمحافظات لا يُعرف بوجود مكتبات عامّة فيه أساسا.
أهداف استثمارية
لكن المفصل الأشد أسفا هو تحول مباني المكتبات العامة إلى أهداف لجهات استثمارية ومتنفذين يضغطون بوسائل شتى للاستحواذ على المباني وتحويلها إلى مراكز تجارية، أو قاعات مناسبات، خاصة أن غالبية المباني تحتل مواقع استراتيجية في المدن. مثل ذلك ما حدث لمكتبة المأمون العامة التي تحول مسرحها بموقعه المميز ومساحته الواسعة إلى جامعة أهليّة.
كان آخر فصل حزين من سلسلة الاعتداءات على مباني المكتبات العامة في العراق، الحريق الغامض الذي التهم مبنى المكتبة العامّة في سوق الشيوخ بمحافظة ذي قار في يوليو/تموز المنصرم، وقد عزته مصادر الدفاع المدني إلى تماس كهربائي. ناشطون في المدينة تظاهروا وقتذاك مفيدين أن الحادث قد يكون مفتعلا لأن البناية مغلقة منذ سبع سنوات لحاجتها إلى ترميم، وأن هناك أحاديث عن الرغبة في تحويل مبنى المكتبة التاريخي إلى مركز تجاريّ بسبب موقعه المميز. تتمتع المكتبة بخصوصيّة عاطفيّة عند أبناء المدينة، فقد تأسّست عام 1957، وتردّد عليها ألمع أدباء المدينة المعروفة برفدها الأدب العراقيّ، الفصيح والشعبيّ، بمجموعةٍ من ألمع الأسماء.
من المؤسف أن واقع المكتبات العامّة يعاني إداريا من السياقات البيروقراطية، المملة والرتيبة، التي لا تتناسب مع الأشواط الكبيرة التي اجتازها العالم في قطاع حيوي كهذا.
بعض كوادر المكتبات يعاني من ضعف فني، وهذه الكوادر تحتاج إلى دورات وورش عمل في الفهرسة والتصنيف ونظم المعلوماتية والمكتبات الرقمية. يمكن لمؤسّسات مختصّة مثل "دار الكتب والوثائق الوطنيّة"أن تسدّ هذا النقص، وهذا ما لم يحدث بعد. كما تشتكي غالبية المكتبات من ضعف الإقبال الشعبيّ الذي يمكن معالجته بتنظيم زيارات مدرسية وطالبيّة إلى المكتبات العامّة في عموم المحافظات من أجل غرس القيم المعرفيّة وتذوق الفنون والآداب وإقامة المعارض والنشاطات، خاصّة مع بدء العام الدراسي الجديد، مع ملاحظة حاجة المكتبات إلى أجنحة متخصّصة بكتب الأطفال، وتوفير المستلزمات المطلوبة لإقامة فعاليات تستقطب هذه الشريحة من المجتمع فضلا عن ذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن.
مؤتمر المكتبات
وقد يأمل المتابع بشيء من التغيير في واقع المكتبات العامة بعد بارقة اهتمام رسمي، فقد رعت الحكومة العراقية، أخيرا، مؤتمرا أقامته دار الشؤون الثقافية خاصّا بالمكتبات العامّة في العراق وسبل النهوض بواقعها. وشهد المؤتمر تمثيلا حكوميا كبيرا، فضلا عن مديري أقسام المكتبات في المحافظات كافة.
وأشار الدكتور الشاعر عارف الساعدي، المستشار الثقافيّ لرئيس وزراء العراق، إلى أهمية تعزيز دور المكتبات العامّة وانتشالها من واقعها الحالي "باعتبارها ركيزة مهمة في تعزيز الأمن المجتمعي وإحدى وسائل القوى الناعمة للوقوف في وجه القوى الظلامية".
وأضاف الساعدي لـ"المجلة" أن رئيس الحكومة، محمد شياع السوداني، وجّه المحافظين "بالاهتمام بواقع المكتبات من حيث إعادة بنائها وإقامة النشاطات والفعاليات الثقافيّة والنظر إليها نظرة جادة، إذ يمكن عدّ المكتبات العامة بابا واسعا لتعزيز الهوية الوطنية".
وعبّر الساعدي عن أسفه تعليقا على الحريق الذي طال مكتبة سوق الشيوخ التي "تعتبر جزءا من ذاكرة أبنائها وساهمت بشكل فعال في بناء المدينة سواء على مستوى المثقفين أو المتعلمين جميعا".
من جانبها، أشارت السيدة إشراق عبد العال، مديرة دار الكتب والوثائق الوطنية، إلى "ضرورة الاهتمام الخاص بالمكتبات، فهي هويتنا الثقافية، ورفوفها لا تحمل أوراقا وغلفاً بل هي خلاصة حضارات وعهود وقرون من التفكير والإبداع وينابيع معارف تأبى أن تجف".
وأضافت عبد العال: "إن الوقت حان لتحقيق الحلم بمكتبات مثالية تلبي طموحنا المعرفي، فالشعب العراقي مجبول على المعرفة والقراءة. الخطوة الأولى لذلك تحديث المكتبات وتنويع محتوياتها وفقا للسياقات العلمية الحديثة على المستويين الورقيّ والرقميّ مما يتيح للمستفيدين من الباحثين والقراء الوصول إلى المصادر بيسر بما يلائم التقدم العلمي في هذا المجال حول العالم".
من جانب آخر، تحدث السيد مراس عبد السلام، أمين المكتبة المركزية في محافظة البصرة عن "وجود مشاكل كبيرة وجراح عميقة تطال المكتبات العامة، والسبب الرئيس لهذه المشاكل هو نظام المكتبات العام لسنة 1996 الذي ربطت المكتبات العامة على أساسه بوزارة الداخلية".
وأكد عبد السلام أنه "من الأهمية بمكان إعادة النظر في المستوى الإداري للمكتبات العامة وفق الهيكلية الإدارية للمحافظات، والعمل على إصدار نظام تشريعي جديد للمكتبات العامة لعدم مواكبة النظام الحالي لمتطلبات المكتبات خاصة في ما يتعلق بالمستوى الإداري والمكتبات الرقمية".
وعن ظروف تطوير المكتبات العامة قال: "من الضروري إدخال الجانب التقني فـي عمل المكتبات العامة وإيلاء مباني المكتبات اهتماما خاصا من حيث التصميم العمراني عند إنشائها".
في الجانب الحكومي، أشار طالب عيسى، مدير قسم الشؤون الثقافية والتنمية البشرية في محافظة بغداد، إلى أنه قدّم الى المؤتمر ثلاثة مقترحات تعجل النهوض بواقع المكتبات العامة، منها: "إزالة التجاوزات بكل أشكالها وفق مدة زمنية معينة، وتوفير التخصيصات المالية اللازمة للنهوض بالمكتبات مع تخصيص عدد من الدرجات الوظيفية من متخرجـي قسم المعلومات والمكتبات، بالإضافة إلى إعادة النظر في الهيكل الإداري للمكتبات".
وكانت أعمال المؤتمر اختتمت بجملة من المقترحات والتوصيات التي رُفعت الى الجهات المعنية، وطالب المؤتمرون بتعديل التشريعات التي تنظّم عمل المكتبات وجعلها تواكب التطورات الحاصلة في مجال المعلوماتية والمكتبات الرقمية، ورفع كل التجاوزات وإزالتها عن مباني المكتبات العامة بكل أشكالها للحفاظ على الهوية الثقافية للمكتبة. كما تضمنت التوصيات توجيه المحافظين بضرورة توفير التخصيصات المالية اللازمة لإعادة بناء المكتبات العامة وشراء الكتب والمصادر الحديثة في مختلف العلوم والآداب، والبدء بإنشاء المكتبات الرقمية واستخدام تكنولوجيا المعلومات وإقامة الندوات والمهرجانات والمعارض والمؤتمرات لمحاربة التطرف والإرهاب ونشر الثقافة والمعرفة.