ما مات الزحيلي !! إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ؛ وقد حازها وهبة الزحيلي جميعاً ، فلم يمت !!
ما مات الزحيلي !! هل مات الشافعي ، وأبو حنيفة ، وابن حنبل ، ومالك ، والطبري ، وابن كتير ؟! لقد اجتمعوا لديه ، وزاد عليهم موسوعة فقهية معاصرة اختزلت كل ما قدموه ، وتفسيراً منيراً قدم لمعاصريه كل ما يشحذ أفكارهم ، ويجدد لهم دينهم الذي ارتضاه الله لهم، وعشرات الكتب في كل ما يهم المسلم في دينه وأخلاقه ومجتمعه !!
ما مات الزحيلي !! مازلت أحس دفء حديثه ، وحرقته على رفع مستوى مجتمعه ؛ هدفاً نذر له نفسه ، وقضية توجه إليها بكل طاقاته ، تظل محور أحاديثنا كلما اجتمعنا ، وهماً يأخذ بمجامع قلبينا فلا يتيح لنا فرصة لفك تقطيب الجبين ، وجداً يحسبنا المرء من شدته غضاباً .. ها أنا ذا الآن أحاوره وجهاً لوجه ، في ثوابت الدين ومتغيراته ..في تحديث الفقه وتحريره من قضايا الماضي التي فات أوانها ومصطلحاته .. في نمو المعارف الإنسانية المتواصل على مر العصور وضرورة مواكبته .. في استمرار عجلة التقدم الإنساني ، منذ أن أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن فيه شيئاً مذكوراً ، إلى أن دخل في عصر المعلومات والاتصالات الذي فجر المعارف حتى سالت بين يديه كما يسيل الماء والكهرباء .. في ارتقاء الخطاب القرآني فوق متغيرات الزمان والمكان ليستوعبها جميعاً .. في إقامة النظام الكوني كله على الازدواج والتعدد والاختلاف والحوار مع الآخر وسيلة للتكاثر والنمو والارتقاء .. والكثير الكثير من القضايا الشائكة.. لم ينته الحوار بيننا ولن ينتهي ، كيف لي أن أصدق مايقال : لقد مات الزحيلي ؟!!
هل قد اعتراني ما اعترى عمر بن الخطاب يوم وفاة الرسول ، فلم يصدق الخبر وأنكره ؟!
هل أنا بحاجة إلى أبي بكر الصديق ؛ يصيح بي صيحته بعمر : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ؟!
لن يعود أبو بكر !! لقد عهد بالمهمة إلى العصر الافتراضي الذي نعيشه معاً !! لم تعد المعلومات والاتصالات محكومة بقيود الزمان والمكان وتعاقب الأجيال ، حتى الأشياء أصبحت تنتقل افتراضياً بسرعة الضوء ؛ مثل عرش بلقيس الذي أحضره عفريت من الجن بين يدي سليمان !! والصورة باتت تنقل الحدث حياً لحظة وقوعه بين المشرق والمغرب !! والأجيال قد رفعت الحواجز بينها، وتداخلت بعضهاببعض كيوم الحشر ، فولدت الأمة ربتها ، ولم يعد الأب معلم ابنه ؛ بل أصبح الابن يقول قولة إبراهيم لأبيه ( يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني)!!
مات تربي الزحيلي حقاً .. لقد ولدت وإياه معاً عام 1932، وسبقني إلى رحمة الله وغفرانه ، وسيوارى جسده التراب ، ويبقى علمه الذي أودعه كتبه ومحاضراته ومشاركاته العلمية في المجامع الفقهية والمعاهد الشرعية العالمية، بين أيدي الأجيال الصاعدة ، تضيف ما يجب أن تضيفه إليه؛ بحسب اجتهادها وطاقاتها الاستثنائية التي أمدها بها العصر الرقمي ، ورحابة العصر الافتراضي !!
رحمه الله تعالى كفاء مابذل واجتهد وقدم ، ونفع الأجيال بعلمه وإخلاصه ، وإنا لله وإنا إليه لراجعون !!