تخطي إلى المحتوى
حصاد 2023: سنة ثقافية لبنانية بطعم التحدي حصاد 2023: سنة ثقافية لبنانية بطعم التحدي > حصاد 2023: سنة ثقافية لبنانية بطعم التحدي

حصاد 2023: سنة ثقافية لبنانية بطعم التحدي

سنة صعبة أخرى على اللبنانيين، لكن الحياة الثقافية لم تتوقف، ولم تتباطأ، بل شهدت الأنشطة كثافة ملحوظة. ويمكن القول إن ثمة رغبة في استمرار الحراك، دون أن يكون ذلك دائماً على مستويات إبداعية عالية. وكأنما يطبّق المثقفون المثل القائل: «في الحركة بركة»، دون ضمان لنتائج هذه الحيوية، أو الحرص على أن تكون الثمار نضجة.

فمن ناحية الإصدارات، توالت من دور النشر، رغم الشكوى المتصاعدة للناشرين، وقولهم إن الأزمة لم تعد في لبنان وسوريا والعراق، والدول التي عاشت خضّات أمنية كبيرة، بل امتدت إلى معارض الدول الخليجية.

هذا لم يمنع أن الكتّاب يجاهدون، وينشرون ورقياً وإلكترونياً، حين يستعصي الأمر، كما حال المفكر علي حرب، الذي أصدر كتاباً إلكترونياً عنوانه «ما الشيء المسمى إنساناً»، لأول مرة وهو في الثانية والثمانين من العمر، على «أمازون»، رغم أنه بعيد عن التكنولوجيا، ولا نعرف إن كان هو نفسه يعرف الوصول إلى كتابه على الموقع، أم لا.

كتاب جديد عن «النكبة المستمرة» لإلياس خوري من «دار الآداب»، ورواية لينة كريدية «العرجون اللجين» عن «دار النهضة»، وإيمان عبد الله كتبت عن «مقهى فيصل»، ورواية جديدة لرشيد الضعيف «ما رأت زينة وما لم ترَ» عن «دار الساقي». لسنا في معرض ذكر كل الإصدارات، لكنها متنوعة جداً. واللافت حقاً، أننا ما عدنا نجد كتاباً يحدث صدى. فأن ينخفض عدد القراء، يعني أن تتضاءل الحوارات، وتتراجع فرص النقاش. ولعل الفسحة التي تتيحها معارض الكتب التي يجتمع لها عدد من الزوار، باتت من أفضل المناسبات لهذا النوع من النشاطات، بعد انطفاء الحماسة لحضور الندوات.

 

بالحديث عن الكتب لا بد أن نتذكّر أننا في عام احتفالات مئوية كتاب «النبي» لجبران خليل جبران، الذي استنفر، حافظ متحفه في بلدته ومسقط رأسه بشري، جوزف جعجع، وكذلك محبوه لاستعادة الاهتمام بكتابهم الأثير. وبهذه المناسبة، أصدر الشاعر هنري زغيب ترجمة جديدة لكتاب «النبي»، أثارت بعض الأخذ والرد، باعتبار أن ترجمات عدة كانت قد أنجزت، فما الذي يمكن أن يقدم من جديد؟

المسرح يشهد فورة لافتة حقاً، لكن المسرحيات التي يمكن القول إنها ستبقى في الذاكرة، ليست بكثيرة؛ بينها مسرحية «بليلة فيا ضو قمر» لفؤاد يمين وسيرينا الشامي، جمعت تحت سقف الرومانس حكاية الحبيبين ودلالة القمر كبطل رابع في العمل بكل ما يحمل من معاني الكشف والغموض، إلى جانب الممثل والركن الثالث طوني داغر.

لا بد من ذكر يحيى جابر، كظاهرة يصعب تجاهلها، فقد بقيت أعماله المسرحية تعاد في مسارح بيروتية عدة طوال السنة، ومنها ما أكمل رحلته آتياً من العام الماضي. كلها تسير بالتوازي، وتستقطب جمهوراً يملأ الصالات. «مجدرة حمرا» مع انجو ريحان، «هيكلو» مع عباس جعفر، و«طريق الجديدة» مع زياد عيتاني. وإذا كان المسرح الغنائي الرحباني غائباً من مدة، بسبب الأوضاع العامة، فإن حماس الشباب، لم يتوقف، وجاءت المسرحية الغنائية «شيكاغو»، وهي معربة عن واحدة من أقدم المسرحيات الغنائية في القرن العشرين، وتقدم في «برودواي» دون انقطاع منذ عام 1975، أي منذ ما يناهز 50 سنة، مع ذلك لا تزال طازجة ومثيرة، حيث إن المشكلات التي تثيرها بقيت عصرية، وموسيقاها الجميلة تنال استحساناً من الجمهور. وهي بعد أن قدمت بلغات كثيرة، وجدت طريقها إلى العربية للمرة الأولى، بعد حصول مخرجها على الترخيص الخاص بذلك، وباللهجة اللبنانية. هي من كتابة وتصميم وإخراج اللبنانيّ الموهوب روي الخوري. وبعد عروض محدودة، نفدت بطاقاتها في كازينو لبنان، شاهدها الجمهور لمرة جديدة في بيت الدين، وهي ستنتقل قريباً إلى السعودية.

معارض الفن التشكيلي من ناحيتها، هي حركة دائمة، ثمة غاليريات جديدة، وهو ما يدعو للتساؤل حقاً حول سبب هذه الغزارة التي تحتاج إلى شيء من الغربلة. وكان انفجار المرفأ عام 2020 قد أودى بغاليريات رئيسية في المناطق التي تضررت، لكنها استعادت في غالبيتها الساحقة الحياة، وأضيف إليها. وما لا بد من تذكره والعام يشرف على نهايته أن «قصر سرسق» ببهائه، عاد إلى الحياة، باحتفال كبير، وبإدارة حيوية. وقد كان افتتاحه حدثاً حمل كثيراً من الأمل للعاصمة اللبنانية، خصوصاً أن مشهده بلا زجاجه الملون، مغبراً مسوداً كان مما يدمي القلب. القصر بحدائقه وردهاته استعاد رونقه، ورممت اللوحات المتضررة، وعرض جزءاً من مجموعته الدائمة، كما أنه بات في صيغته الجديدة، يستقبل الندوات وعروض الأفلام وورش العمل، في رغبة من مديرته بأن يندمج بلوحاته ورسومه بمحيطه الاجتماعي، ويصبح جزءاً من الحركة الحياتية اليومية.

ولربما أن أطول المعارض التشكيلية عمراً لهذه السنة كان معرض «ألو بيروت» الذي امتد من العام الماضي، وبقي إلى الشهور الأولى من سنة 2023، نظراً للإقبال والنجاح اللذين لقيهما. والمعرض كان تجميعاً ذكياً، لأغراض عرفها اللبنانيون طوال ما يقارب القرن من حياتهم، بعضها اندثر والبعض الآخر لا يزال يصارع: من الأثاث المنزلي، إلى أدوات المطبخ، المكاتب الإدارية، جزء من أرشيف رسمي، صالون لتصفيف الشعر بروح ستينات القرن الماضي، وأشياء أخر. وأهمية المعرض أنه كان مزوداً بشروحات وافية مكتوبة، وصوتية، وأفلام مرئية.

الحيوية الأبرز كانت في الصيف مع عودة حقيقية للمهرجانات الفنية، بعد غياب كلي أو جزئي لـ3 سنوات، مرة بسبب حجر كوفيد، ومرات بسبب الانهيار الاقتصادي. مع توافد نحو مليوني شخص بين مغترب وسائح، قررت إدارات المهرجانات أن تعيد أنشطتها إلى سابق عهدها. إلا أن ما كان يطالب به الفنانون اللبنانيون لسنوات تحقق بسبب الظروف القاسية، وهو الاستغناء عن التكاليف الباهظة التي كانت تدفع للفرق الأجنبية وإعطاء الفرصة للفنانين المحليين، من شباب ومخضرمين. واكتفت بالفعل إدارات المهرجانات الكبيرة، مثل «بعلبك» و«بيت الدين» و«بيبلوس»، أن تستقطب بشكل أساسي فنانين من لبنان، نادراً ما كانت تفكر باستضافتهم، على اعتبار أنهم موجودون طوال العام. هكذا فإن «مهرجانات بيبلوس» على سبيل المثال، التي كانت تميل لاستقبال كبريات الفرق الغربية الشبابية استقبلت هذه السنة؛ الموسيقي والعازف غي مانوكيان، وهبة طوجي وأسامة الرحباني، وعازف البيانو ألـف أبي سعد، وكذلك جوقة فيلوكاليا بالاشتراك مع فرقة عشتار للغناء بقيادة مارانا سعد، وضيفة الشرف الفنانة كارلا رميا، وآخرين.

لم تكن السينما هذه السنة في أوجها، يبدو أن جهود الإنتاج تنصبّ أكثر على مسلسلات تعرض على المنصات، وتجد رواجاً أكبر. لكن مهرجانات السينما الكثيرة التي تنظم في بيروت، هي على نشاطها، لا بل لا تزال تجتهد قدر الممكن لإتاحة أفضل الأفلام لروادها. واحتفل «مهرجان طرابلس للأفلام» أحد أكثر المهرجانات مواجهة للتحديات، ويستحق تقديراً لصموده، بسنته العاشرة بكثير من الاعتداد والفرح.

أكثر ما أسال الحبر في أحداث هذه السنة الثقافية، هو معرض الكتاب الذي انقسم، وقسم معه الناشرين وضيّع القراء، ولم يرضِ أحداً.

معرضان للكتاب، شهدتهما بيروت في عزّ الحرب التي اشتعلت في غزة، وطالت جنوب البلاد. البعض رأى أنهما دلالة صحة وحيوية، وبعض آخر رآهما مزيداً من التشرذم، والكيدية ووصول الانقسامات السياسية إلى عالم الكتب والنشر والثقافة. انعقد «معرض لبنان الدولي للكتاب» الذي نظمته «نقابة اتحاد الناشرين اللبنانيين» في «الفوروم دو بيروت»، تبعه بعد شهر تقريباً «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» نظمه «النادي الثقافي العربي» في «البيال» وسط بيروت، في دورته الـ65. والخلاصة أن الناشرين في غالبيتهم، لم يروا في استقلالية نقابتهم بمعرض منفرد، مشروعاً ناجحاً ومفيداً، وهناك محاولات حثيثة، لإعادة جمع الشمل.

بالمختصر، يعرف المثقف اللبناني، الذي هو مواطن أولاً، أنه يعيش حالة استثنائية، مع أن لبنان غالبية سنواته مضطربة واستثنائية، لذا عليه ألا يتوقف، وإن بدت الثمار أقل مما يتمنى. لكن الجميع يرى أن السير ببطء، وبما يتوفر، أفضل وأسلم، من انتظار الفرج الذي لا تبدو ملامحه بعيدة.

المصدر: 
الشرق الأوسط