في عالم المعرفة الذي لا يتوقف عن التطور والتحول، تظل دار الفكر واحدة من أبرز المؤسسات الثقافية في سوريا والعالم العربي، لما ترتبط به من رسالة راسخة في تعزيز الفكر ونشر الوعي ودعم حرية النشر والإبداع.
ويفتتح الدكتور نزار أباظة، مدير قسم النشر،والأستاذ وحيد تاجا، مدير القسم الإعلامي، أبواب الماضي العريق والتطلعات المستقبلية الحافلة في حوار خاص مع "هوى الشام".
عن بدايات تأسيس الدار وكيف بدأت رحلتها في عالم النشر في سوريا قال الدكتور نزار أباظة :
تأسست دار الفكر في دمشق عام 1957 على يد ثلاثة شباب طموحين: محمد عدنان سالم، ومحمد الزعبي، وأحمد الزعبي، الذين حملوا رسالة النشر بوصفها وسيلة للارتقاء الثقافي.
بدأت الدار بخدمة طلاب الجامعة، عبر مطبعة يدوية ، ثم تحولت إلى صالة عرض، قبل أن تتبلور كدار نشر متكاملة، وذلك بتشجيع من المفكر والسياسي التونسي محمد محيي الدين القليبي خلال زيارته إلى دمشق، الذي اقترح عنوان اول كتاب نشرته الدار : (الاستعمار الفرنسي في إفريقيا السوداء).
*ـ كيف ساهم التوسع إلى السودان واليمن والجزائر والقاهرة في تعزيز الدور الثقافي للدار؟
منذ تأسيسها ، حملت دار الفكر رسالة تتجاوز النشر المحلي، متطلعة إلى بناء نهضة ثقافية عربية شاملة. لم يكن هدفها الربح وحده، بل كانت ترى في النشر وسيلة لتنوير العقول، والنهوض بالأجيال، ومواجهة التخلف بالفكر الصحيح. لذلك، حين توسعت إلى دول مثل السودان واليمن والجزائر، وافتتحت مكاتب في القاهرة، لم يكن ذلك توسعًا تجاريًا فحسب، بل تجسيدًا لرؤيتها في نشر الثقافة عبر التعاون مع شركاء محليين، آمنت بهم وسلّمتهم إدارة المؤسسات بعد استقرارها، إيمانًا بالشراكة الثقافية لا بالاحتكار...دار الفكر تجمع بين التجارة والثقافة، وتوازن بينهما دون أن يطغى أحدهما على الآخر.
*. ما أبرز التحديات التي واجهت دار الفكر على مدار تاريخها، خاصة في ظل الظروف السياسية والاقتصادية في سوريا؟
واجهت دار الفكر منذ تأسيسها تحديات سياسية واقتصادية متلاحقة، بدءًا من مضايقات الحكم البعثي خلال اضطرابات دمشق عام 1965 حين اعتقل الأستاذ محمد عدنان سالم وتم كسر قفل الدار لمنعها من المشاركة في الاضراب، مرورًا بتأميم الكتاب الجامعي، الذي الذي كانت توفره الدار بأسعار رمزية للطلاب، مما أدى إلى تراجع دورها في دعم التعليم العالي وتحول الجامعات إلى الاعتماد على الكتاب المقرر بدلًا من البحث الحر في المصادر والمراجع. وصولًا إلى خسائر جسيمة خلال الثورة السورية عام 2011، منها حرق مستودعاتها ومغادرة كوادرها بسبب الأوضاع الأمنية. كما أثرت جائحة كورونا والحصار الاقتصادي (قانون قيصر) على نشاطها الثقافي، وقلّصت مشاركاتها في المعارض الدولية. إلى جانب ذلك، واجهت تضييقًا من وزارة الإعلام في عهد الأسد ومنعًا لطباعة واستيراد كتب، وتراجعًا في اهتمام الشباب بالقراءة. ورغم كل ذلك، حافظت الدار على رسالتها الفكرية، واستمرت في دعم الثقافة العربية عبر النشر والحوار والانفتاح على القارئ.
*. كيف طورت الدار طرق الطباعة؟
منذ نشأتها، امتلكت دار الفكر مطبعتها الخاصة، واعتمدت عليها في إصدار مطبوعاتها دون الاستعانة بمطابع خارجية، مما منحها استقلالًا فنيًا ومرونة في الإنتاج. ومع تطور تقنيات الطباعة، حرصت الدار على مواكبة التحديثات، فانتقلت من الصف التصويري التقليدي إلى الصف الحاسوبي، وطورت آلاتها بما يتناسب مع المعايير الحديثة في النشر.
هذا التوجه نحو التطوير لم يكن مجرد خيار تقني، بل جزء من فلسفة الدار التي تؤمن بأن التحديث المستمر هو سبيلها للحفاظ على رسالتها الثقافية، وتقديم محتوى راقٍ يليق بالقارئ العربي.
*-كيف تحافظ دار الفكر على جودة إصداراتها من حيث التدقيق اللغوي والتخطيط التحريري؟
تحرص دار الفكر منذ تأسيسها على أعلى معايير الجودة في إصداراتها، وتعتبر التدقيق اللغوي والتخطيط التحريري من الركائز الأساسية في عملية النشر. فلا يُقدَّم أي كتاب إلى القارئ إلا بعد أن يخضع لمراجعة لغوية دقيقة وتصحيح شامل، وهو نهج التزمت به الدار منذ بداياتها. وقد اعتبرت الأخطاء المطبعية أمرًا غير مقبول، أما الأخطاء اللغوية والأسلوب الركيك فترى فيها مساسًا بجوهر الرسالة الثقافية، ما يدفعها لتحمّل تكاليف إضافية وتأخير مواعيد الإصدار أحيانًا، حفاظًا على جودة المحتوى. وإيمانًا منها بأهمية بناء كفاءات لغوية، أطلقت الدار دورات منتظمة في التدقيق اللغوي، شهدت إقبالًا من الشباب وأسهمت في تأهيل عدد من المنتسبين، مما يعزز استمرارية هذا النهج ويضمن تطور أدواتها التحريرية.
وعن رؤية الدار ورسالتها تحدث الأستاذ وحيد تاجا لـ هوى الشام:
الحديث عن رؤية ورسالة دار الفكر هو حديث عن نُبل رسالة النشر، ودورها في تعميق المعرفة ونشر الوعي.
منذ تأسيسها ، انطلقت الدار برؤية تتجاوز حدود النشر التقليدي، لتكون مؤسسة ثقافية تهتم بالحوار والتجديد والتواصل مع القارئ، وتحرص على احترام الحقوق الفكرية، والعناية بثقافة الأطفال، ونشر الكتب النافعة والمهمة لجميع الأعمار والشرائح.
لم يأت اختيار اسم "دار الفكر" عشوائيًا، بل جاء ليعكس توجهًا نحو خدمة الفكر بمعناه العميق والشامل، لا الثقافة وحدها. وقد جسدت هذه الرؤية من خلال استقطاب كبار المفكرين العرب، مثل مالك بن نبي، وعبد الوهاب المسيري، وأبو الحسن الندوي، شوقس أبو خليل، وهبة الزحيلي ، وغيرهم ..ونشر أعمالهم إلى جانب كتب متنوعة في الفلسفة والعلوم والفنون.
وأما رسالة دار الفكر التي تسعى اليها فهي ان تكون عيناً على الماضي وعيناً على المستقبل، وتنطلق من التراث جذورا وتبني فوقها، دون ان تقف عندها، وتطوف حولها. وتختار منشوراتها بمعايير الابداع، والعلم، والحاجة، والمستقبل، وتنبذ التقليد والتكرار وما فات أوانه. وتعتني بثقافة الكبار، لحمايتهم ثقافة أطفالهم. مستهدية بشعارها الدائم : "افعل الممكن إلى أقصى حد ممكن."
ومنذ عام 2000، أطلقت الدار تقليدًا سنويًا للاحتفاء باليوم العالمي للكتاب في 23 نيسان، عبر أسبوع ثقافي حافل يستضيف شخصيات فكرية عربية ودولية، ويناقش قضايا محورية مثل الحوار، الهوية، التعايش، العولمة، والمرأة، ويكرّم مؤلفيها الكبار، ليصبح هذا الأسبوع علامة فارقة في الحراك الثقافي بدمشق.
*-كيف كان دور محمد عدنان سالم في توسعة نشاط دار الفكر محلياً وخارجياً؟
لعب الأستاذ محمد عدنان سالم دورًا محوريًا في توسعة نشاط دار الفكر محليًا وخارجيًا، إذ تولّى إدارة الدار ومتابعة أعمال النشر، وساهم في تصدير إنتاجها الفكري إلى الخارج واستيراد ما يلزم السوق المحلي.
لم يقتصر دوره على الجانب الإداري، بل كان محفزًا وداعماً رئيسيًا للعديد من المشاريع الفكرية الكبرى، منها:
- إحياء تراث المفكر الجزائري مالك بن نبي.
- إصدار موسوعة الفقه الإسلامي بالتعاون مع الدكتور وهبة الزحيلي.
- إطلاق سلسلة الأطالس مع الدكتور شوقي أبو خليل.
- دعم سلسلة "رسول الإنسانية" مع نزار أباظة.
- تبني سلسلة "حوارات لقرن جديد" وغيرها من الأعمال المؤثرة.
- مسابقة دار اللفكر للقراءة والإبداع.
أما الأستاذ محمد الزعبي، فقد مثّل الدار في عدد من الدول العربية مثل مصر والسودان، وأشرف على فرع الحلبوني الذي خُصص لتوفير المراجع والمصادر للطلاب.
وكان الأستاذ أحمد الزعبي مسؤولًا عن إدارة المكتبة، متابعًا لحركتها ومتطلباتها بشكل أساسي، مما ساهم في استقرار البنية التحتية للدار.
*ـما هي المجالات الأساسية التي تركز عليها دار الفكر في نشر الكتب؟
دار الفكر منفتحة على أبواب المعارف كلها للكبار والصغار وما دام أي كتاب يصب في الاتجاه السليم والعناية بالثقافة الحرة فإنها تقف إلى جانبه وتشجع على نشره.
وانطلقت الدار من رؤية ثقافية شاملة، تؤمن بأن المعرفة لا ينبغي أن تُحتكر، وأن الحقيقة لا تُولد إلا من تفاعل الآراء وتعددها. لذلك، لم تكتف بنشر الكتب التقليدية، بل تبنّت مشروعًا فكريًا يقوم على ترسيخ ثقافة الحوار، واحترام الرأي الآخر، ونفي الفكر الأحادي.
وقد تجلى هذا التوجه في سلسلة "حوارات لقرن جديد"، التي أطلقتها عام 1998، إدراكًا منها لتحول البشرية من عصر الصناعة إلى عصر المعرفة. استهدفت السلسلة تعويد العقل العربي على قبول الآخر، وتدريبه على التحليل والمقاربة، بعيدًا عن التلقي السلبي. فاختارت موضوعات ساخنة وراهنة، وكلفت مفكرين من اتجاهات متباينة بطرح وجهات نظرهم، ثم تبادلوا النقد والتعقيب، ليُقدم العمل في نهاية المطاف كمنصة مفتوحة للقارئ العربي.
تنوعت موضوعات السلسلة بين الفكر، والدين، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والمرأة، والحضارات، وتنوع كتّابها بين علمانيين وإسلاميين، وماركسيين وليبراليين، وسُنّة وشيعة، ومسلمين ومسيحيين، ومشارقة ومغاربة. وقد تجاوزت حوارات الأفكار إلى حوارات الأجيال والحضارات، فجمعت بين نوال السعداوي وهبة رؤوف عزت، وبين أحميدة النيفر والأب بورمانس، وبرهان غليون وسمير أمين، وصدرت بعض الحوارات بلغتين: العربية والإنجليزية.
بلغ عدد حلقات السلسلة خمسين حلقة، شارك فيها مئة مفكر عربي وأجنبي، ولا تزال تُعد من أبرز المشاريع الفكرية في النشر العربي، لما حققته من قبول واسع واستحسان ثقافي.
وهل هناك اهتمام خاص باللغة العربية والتراث؟
منذ انطلاقتها، اختارت الدار منشوراتها وفق معايير دقيقة: الإبداع، والعلم، والحاجة، والمستقبل، ونبذت التقليد والتكرار، ورفضت نشر ما فات أوانه. وسجلت هذا الالتزام على أغلفة كتبها، ليكون بمثابة عقد ثقافي بينها وبين القارئ، لا تتنصل منه كما يفعل بعض الناشرين الذين يخلون مسؤوليتهم عن المحتوى.
أما التراث، فقد حسمت الدار موقفها منه منذ البداية، باعتباره جهد الآباء وإبداعهم، لا نهاية العلم ولا زبدة المعرفة. فهي لا تقدّسه، بل تقدر قيمته، وتدعو إلى نقده وتحليله، وإعادة تركيبه بما يناسب العصر، ليصبح إبداعًا جديدًا يحمل بصمة الأبناء. ترى أن التراث لم يُبنَ دفعة واحدة، بل عبر مراحل متراكبة، وأن السلف لم يكونوا على رأي واحد، بل مدارس متباينة، فلا يصح أن يُقدّس أحدها دون الآخر.
تؤمن دار الفكر أن تقدير التراث يعني وعيًا به، ونهلًا من موارده، وبناءً عليه، واستمرارًا في العطاء العلمي، ليصبح بدوره تراثًا للأجيال القادمة. أما تقديسه، فهو تجميد للعقول، وتعطيل للحركة الفكرية، وتحنيط لجهود الأجداد، وتحميلهم أعباء الحاضر، وهو ما ترفضه الدار جملة وتفصيلًا.
*-كيف تتعامل الدار مع حقوق الملكية الفكرية، وهل تشجع المؤلفين الجدد على الإبداع والنشر؟
تتعامل دار الفكر مع حقوق الملكية الفكرية بمنتهى الجدية، وقد كانت من أوائل المؤسسات الثقافية في سوريا التي نادت بضرورة احترام حقوق التأليف، معتبرة أن الاعتداء عليها يُعد انتهاكًا أخلاقيًا وثقافيًا بالغ الخطورة. وقد أصدرت الدار مؤلفات متخصصة في هذا المجال بقلم مديرها العام وعدد من المفكرين، إلى جانب إطلاق نشرة دورية بعنوان "بالمرصاد" تهدف إلى التوعية بهذه القضية التي لا تزال مجهولة لدى كثير من المثقفين. وترى الدار أن مشكلة الملكية الفكرية هي في جوهرها مشكلة ثقافة مجتمع قبل أن تكون مسألة قانون، فحتى أشد القوانين صرامة لا يمكن تطبيقها في بيئة لا تؤمن بها. وفي ظل شيوع ثقافة الاستباحة في الوطن العربي، تدعو دار الفكر إلى جهود مشتركة من وزارات التربية والتعليم العالي والثقافة والإعلام والعدل، وتؤمن بضرورة تشكيل مجلس وطني يعمل بشكل مستمر على ترسيخ احترام الملكية الفكرية، خاصة أن حجم الانتهاكات يُقدّر بنحو 56% من تداول الكتاب الورقي، وأكثر من 90% في التداول الإلكتروني. وفي هذا السياق، تشجع دار الفكر المؤلفين الجدد على الإبداع والنشر، وتوفر لهم بيئة تحريرية ومهنية تضمن حقوقهم وتدعم إنتاجهم، إيمانًا منها بأن حماية الفكر تبدأ من دعم أصحابه.
*- ما الخطط المستقبلية لدار الفكر في ظل التحديات الراهنة خصوصاً فيما يتعلق بالتوسع الرقمي أو التجارة الإلكترونية؟
تؤمن دار الفكر بأن الكتاب هو وعاء المعرفة، وقد تطوّر عبر العصور من الحجر إلى الورق، وها هو اليوم يستقر على الشاشات في ظل طفرة معلوماتية غير مسبوقة. ومع هذا التحول، تضع الدار التوسع الرقمي والتجارة الإلكترونية في صلب خططها المستقبلية، عبر العمل على رقمنة أرشيفها، وتوفير إصداراتها بصيغ إلكترونية، وتطوير منصاتها لتسهيل الوصول إلى المحتوى داخل سوريا وخارجها. كما تسعى إلى بناء تجربة رقمية تحافظ على رسالتها الفكرية، وتواكب احتياجات القارئ المعاصر، خاصة الأجيال الشابة، مع الالتزام الدائم بحماية حقوق الملكية الفكرية ودعم المؤلفين الجدد
*-كيف ترى دار الفكر دورها المستقبلي وخصوصاً بعد التحرير ووجود حرية نشر الكتب دون رقابة؟
ترى دار الفكر أن مرحلة ما بعد التحرير وغياب الرقابة على النشر تمثل فرصة تاريخية لإعادة بناء المشهد الثقافي على أسس من الحرية والمسؤولية. فالنشر الحر ليس مجرد غياب للمنع، بل هو دعوة لتقديم محتوى نوعي يرقى بالوعي ويخاطب العقل، ويعزز قيم الحوار والانفتاح. وفي هذا السياق، تسعى الدار إلى توسيع دورها كمؤسسة فكرية مستقلة، تحتضن الأصوات الجديدة، وتوفر منبرًا للمؤلفين والمبدعين دون قيود، مع الحفاظ على معايير الجودة والالتزام الأخلاقي في الطرح. كما تطمح إلى إطلاق مشاريع نشر أكثر جرأة وتنوعًا، تعكس هموم المجتمع وتواكب تطلعاته، وتعيد للكتاب مكانته كأداة للتغيير والتنوير. وتؤمن دار الفكر بأن الحرية الحقيقية لا تُقاس بما يُسمح بنشره، بل بما يُنتج من فكر مسؤول قادر على بناء الإنسان والمجتمع.