تخطي إلى المحتوى
ديانات آسيوية لا تعرف عنها الكثير قد تتربع دولها على عرش العالم ديانات آسيوية لا تعرف عنها الكثير قد تتربع دولها على عرش العالم > ديانات آسيوية لا تعرف عنها الكثير قد تتربع دولها على عرش العالم

ديانات آسيوية لا تعرف عنها الكثير قد تتربع دولها على عرش العالم

في خلال السنوات القليلة الماضية، تصاعد الحديث لأقصى درجاته عن الصعود المحتمل للصين لتكون قوةً عظمى أولى في العالم، بالإضافة إلى الأرقام التي تتحدث عن أن الهند أيضًا قادمة وبقوة وربما تكون في المرتبة الثالثة عالميًّا من ناحية الاقتصاد. هذا كله بالإضافة إلى اليابان التي تحقق منذ عقود نجاحات كبيرة على المستوى الاقتصادي، يجعلها تحتل مكانة مميزة عالميًّا، وإن كانت لا تملك قوة عسكرية كبيرة مثل الصين والهند.

سال الكثير من الحبر بين الأكاديميين حول إن كانت تلك الأرقام التي تُحدِّثنا عن الصعود المرتقب للصين والهند لصدارة العالم، واقعية وناقلة للحقيقة الكاملة أم لا، لكن الأكيد أن لا أحد يختلف على أنهما سيحظيان بمكان مرموق في النظام العالمي خلال القرن الحالي، بغض النظر عن المركز بالتحديد.

هذه الدول لها أديانها التي ربما لا يعرف عنها القارئ العربي الكثير، وتلك الأديان أثرت في تشكلها ورؤاها وتاريخها ومستقبلها، وتساهم أيضًا في رسم وعيها الاقتصادي والسياسي وفي تصميم مجتمعاتها، لذلك ستكون رحلة التعرف إلى تلك الأديان مهمة من أجل فهم تلك الدول والمجتمعات التي بدأت تحتل بالفعل مكانًا متصدرًا في الساحة السياسية والاقتصادية الدولية.

هل تجد الكونفوشية الصينية طريقها لحكم العالم؟

أثناء تصفحك لمواقع التواصل الاجتماعي قد تصادف اقتباسًا من الأقوال المأثورة للفيلسوف الصيني كونفوشيوس، تلك الاقتباسات المتمحورة عادةً حول أهمية الأخلاق وضرورتها، والبعض قد يخطئ كونفوشيوس الفيلسوف الصيني وفلسفته بضمها إلى الديانات الشرقية مثل البوذية والهندوسية، ولكن الكونفوشية تختلف عنها إلى حد كبير، فهي فلسفة عن السياسة، وإدارة وحكم البلاد والمجتمع، ولم تكن دينًا بالمعنى الروحاني واللاهوتي للكلمة، ولم تتحول إلى ديانة إلا بعد وفاة كونفوشيوس. تركِّز جهود صينية اليوم على محاولة إحياء الكونفوشية بإقامة مؤتمرات دولية وندوات في المراكز الثقافية الصينية الموجودة في دول عدة، وتحملُ اسم «كونفوشيوس» نفسه، في محاولة لتعريف العالم به وبفلسفته، وسواء كانت الصين تحاول إلقاء الضوء على تلك الفلسفة احتفاءً بها، أو بغرض طرحها منظومةً فلسفية بديلة لتصوُّر السياسة الدولية، فمن المهم أن ندرك ما هي الكونفوشية؟ مُعتقد 5 ملايين شخص حول العالم، ولذا نأخذك في هذا التقرير في رحلة تعريفية بهذه الفلسفة الصينية.

الكونفوشية.. واتباع السلطة الأبوية :

«الحُكم يعني الاستقامة، ومن سيجرؤ على الانحراف إذا كان الحاكم مستقيمًا؟»، هذه المقولة التي كتبها كونفوشيوس منذ أكثر من 25 قرنًا، تلخص إلى حد كبير وجهة نظره عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم. الحاكم يجب أن يكون فاضلًا ومُتبعًا لطقوس الكونفوشية بالتزام، والتزامه واستقامته سببٌ لطاعة شعبه له. تتمركز الكونفوشية حولَ السلطة الأبوية. وفي المقابل يجب أن يكون الوالدُ فاضلًا ليكون جديرًا بالطاعة والسلطة الأبوية الممنوحة له. هذا التصوُّر ينطبقُ على الأب في العائلة، وعلى القائد السياسي في المجتمع.

ولكن ماذا لو كان الأب أو الحاكم غير مستقيم ولا أخلاقيٍّ؟ يقول كونفوشيوس: «كُن لطيفًا عندما تحاول ثنيهم عن ارتكاب أي مخالفات أو أخطاء، وإذا رأيت أنهم لا يستجيبون، حافظ على وقارك معهم ولا تتحدث عنهم بالسوء في العلانية»، بوضوح، لم يشجع كونفوشيوس على مواجهة صاحب السلطة الأبوية مواجهة عنيفة، ولذا شدَّد على المواطن أو الابن أن يظل «محترمًا» في حالة عدم استجابة الوالدين أو الحاكم للنصيحة، أراد كونفوشيوس تجنب الصدام بكل أنواعه في المجتمع، بداية من المنزل، مرورًا بمدير العمل، وصولًا إلى الحاكم.

ورأى البعض أن تعاليم كونفوشيوس رغم ترسيخها لمبادئ الأخلاق وضرورة احترام السلطة الأبوية، فإنها استُغلِّت في وقته وبعد وفاته لترسيخ قبضة الدولة على رعاياها، ففي الصين استخدمت الكونفوشية في محاولة للتوفيق بين السماء والأرض، بين الدين والشعب، وأطلق على الحاكم «ابن الجنة» أو «ابن السماء»، فكيف لك أن تعصي ابن السماء؟ وتحوَّل الحاكم في الصين إلى المسؤول الأول عن تصريف أمور الدنيا، وأصبحت الكونفوشية في الصين فنًّا لإدارة الحكم بالنسبة للحاكم، وفلسفة أخلاقية بالنسبة للمثقفين، وبالنسبة للشعب سوطًا حريريًّا حول رقابهم، لضمان ولائهم وإخلاصهم للسطلة الإمبراطورية.

الطاعة تتطلب الاستقامة

وفي المقابل نادى كونفوشيوس بأهمية التقاليد الاجتماعية المتوارثة التي يضعها الآباء والأجداد، أكثر من القوانين التي يضعها الحاكم للدولة، فالقوانين الخاصة بالحاكم والقوانين الخاصة بالمجتمع، الاثنان لهما عقاب إذا لم يتبع الشخص تنفيذها، ولكن قانون الحاكم له عواقب مادية مثل السجن، أما عواقب قوانين المجتمع تكون معنوية، مثل العار والنظرة الدونية من باقي أفراد المجتمع للشخص الذي خرج عن تقاليد الأجداد.

القاعدة الأولى هي الـ«هسياو»، وهي تنبثق من اعتقاد الفرد بأن من يحكمه مُستقيمٌ وفاضل، والمجتمعُ السعيد هو المجتمع القائم على طاعة من هو أعلى منه في المنظومة الاجتماعية، والأسرة المنظمة القائمة على الطاعة هي الطوبة الأولى لبناء دولة ناجحة مبنية على الطاعة أيضًا، ولذا يُقال عن الكونفوشية إنها شكَّلت الشكل «الأسري الصيني».

القاعدة الثانية هي الـ«لي»، وهي الطقوس الأخلاقية والمعرفية التي تتوارثها الأجيال ويجب اتباعها، والثالثة هي الـ«جين»، والتي عرَّفها كونفوشيوس بأنها حب البشر. فحينها يكون سلوك الفرد تجاه المجتمع هو الحب والخير في سبيل تحقيق الصالح العام من خلال تطبيق الإحسان، والأخلاق، وطيبة القلب، والفضيلة، والحنان، والجين عند كونفوشيوس من كمال الإنسانية، لأن بها تتحقق سعادة الإنسان والمجتمع، والأهم هو تقبل الآخر، وهو ما أشار إليه بوضوح الرئيس الصيني، شي جين بينج، في «المؤتمر الأول لحوار الحضارات الآسيوية» عامَ 2020.

الرابعة والأخيرة هي الـ«يي»، وهي الاستقامة، والتي يجب أن يتحلى بها الأب والحاكم ورب العمل، حتى يكونوا جديرين بالطاعة التي فرضها كونفوشيوس على الرعايا في المبدأ الأول بتعاليمه.

عندما اضطر كونفوشيوس للصدام

كان كونفوشيوس فقيرًا في مجتمعه، ولم يستطع الالتحاق بالخدمة الحكومية بسهولة مثل أبناء العائلات البارزة، فتعلم مجموعةً من الأعمال اليدوية التي يصفها بـ«الوضيعة»، حتى انضم لإحدى العائلات الثرية ليعمل لديهم حارسًا لمخازن الحبوب وراعيًا للماشية، وترقى ليكون حارس المنطقة الإقطاعية لتلك الأسرة، وبذكائه وأسلوبه الدبلوماسي ترقَّى ليكون وزيرًا للداخلية في تلك المنطقة، أو ما يطلق عليه آنذاك «وزير الجريمة»، المسؤول عن محاكمة من يرتكبون الجرائم في المقاطعة.

وتشير السجلات التاريخية إلى أن كونفوشيوس أدَّى مهامه وزيرًا للجريمة بفعالية، إلا أنَّ أداءه في الشؤون الدبلوماسية كان لافتًا للنظر؛ إذ تأكد دائمًا من أن حاكم المنطقة التي يعيش فيها جاهزٌ لمواجهة أي أزمات قد تؤذيه، وقدَّم للحاكم العديد من النصائح خلال مفاوضاته مع جهات أخرى، وساعدت نصائحه في نجاح المفاوضات.

ولكن في النهاية وقع كونفوشيوس فريسة صراع قديم بين الأسرة الثرية في المنطقة والتي تحاول انتزاع الحكم من الحاكم الشرعي لها، وفي تلك اللحظة كان كونفوشيوس على استعداد للقتال لاستعادة السلطة للحاكم الشرعي الذي يكنُّ له الولاء، ووقع اشتباك كبير في مقاطعة «لو» عامَ 498 قبل الميلاد، بعد أن فشلت خطة كونفوشيوس لتدمير تلك العائلات، وانقلبت الخطة عليه بانكشاف أمره ولم يكن أمامه سوى تقديم استقالته وترك المقاطعة، وبدأ رحلة بحثه المحمومة هو وتلامذته في المقاطعات المجاورة عن حاكم آخر، يرعى أفكاره وطقوسه الكونفوشية، وهو الأمر الذي فشل فيه، حتى عاد مرة أخرى إلى مسقط رأسه بعد أن ساعده أحدُ تلامذته.

هل تصدر الصين الكونفوشية للعالم؟

يرى كونفوشيوس أنَّ المجتمع بناءٌ كبير وحدته الأساسية هي الأفراد، ويصلح إذا انصلحوا، ويزدهر ويستقيم، ولكنه يفسد بفسادهم أيضًا، فينهار ويتأخر، والوسيلة الوحيدة في نظره لصلاح المجتمع هي الأخلاق، التي يجب أن تكون القوانين والأنظمة التي تحكم أي مجتمع يريد أن يرتقي، والأخلاق، وهي بالنسبة له التقاليد التي وضعها الأسلاف وتتابع عليها المجتمع، أهم من أيِّ سوطٍ يلوَّح فزاعة في وجوه الأفراد، فالأخلاق هي المذهب السليم لحكم المجتمع وسياسته، وهذه وجهة نظر كونفوشيوس في إدارة أي مجتمع.

وعلى مدار ما يقرب من 25 قرنًا دُرست تعاليم كونفوشيوس بوصفها فلسفة أخلاقية سياسية لا روحانية، تؤكِّد دور الحاكم بصفته قدوة حسنة شرطًا ليكون قادرًا على إدارة المجتمع والبلاد، وهذا بترسيخ معاني الشرف والاحترام في المجتمع، وبتحقيق «الردع» و«الالتزام الذاتي» من الأفراد، بعيدًا عن الترهيب بالعقوبة.

وآمن كونفوشيوس بأن تناغم الإنسان مع الكون يتطلب منه أن يتناغم مع نفسه أولًا، وأن يعيش انسجامًا داخليًّا، ولذا كان الشعر والغناء والموسيقى أداةً أساسية في ترويج كونفشيوس لأفكاره، والتي استطاع من خلالها الوصول إلى قلوب وعقول الكثير من أهل الصين في ذلك الوقت، ليتحول إلى كونفوشيوس الذي نعرفه الآن. 

بعض اتباع الكونفوشية عدوه نبيًّا، وما زال مختلفًا حتى اليوم إن كان ادَّعى النبوة لنفسه أو اكتفى بدوره الفلسفي والسياسي. وبحثَ كونفوشيوس بشكل مستمر عن حاكم يتبنَّى أفكاره ويرعاها لتكون السياسة الحاكمة لمقاطعة الحاكم، وكلما فشل في تلك الرحلة يبحث من جديد، فعاش رحالًا لفترة طويلة ومعه تلامذته المؤمنون بأفكاره، حتى استطاع واحد من أتباعه المخلصين الترقِّي إلى منصب سياسيٍّ في مسقط رأس كونفوشيوس، وأقنع الحاكم بتعاليمه فدعاه للمقاطعة مرة أخرى، وصارَ حكيمها.

ومن تلك المقاطعة انتقلت تعاليم كونفشيوس وتشعبت حتى وصلت إلى شمال الصين ودول آسيوية أخرى مثل اليابان وماليزيا، وظلت مسيطرة حتى أوائل القرن العشرين في الصين، حتى اندلعت الثورةَ الشعبية الصينية، التي حولت البلاد إلى نظام جمهوري شيوعي عامَ 1949 على يد ماو تسي تونج، وفصلت تأثير الكونفوشية عن السياسة، وحصرتها في الفلسفة والأخلاق والقيم الإنسانية، ولكن لم تكن هذه نهاية الكونفوشية في الصين.

ففي عام 1978 تقدَّم تيار إصلاحي داخل الحزب الشيوعي الصيني، استطاع منذ وفاة ماو تسي تونج عام 1976 أن يحكم سيطرته شيئًا فشيئًا على الحزب والبلاد، وهو التيار الذي أعادَ بناء الصين التي نراها اليوم، بزعامة دينج شياو بينج، وتضمنت أفكارهم الكثير من القيم والمبادئ الكونفوشية، وكان لها تأثيرٌ مهمٌ في تقريب الصين من العالم بعد فترة طويلة من العزلة، لأن واحدًا من أهم مبادئ الكونفوشية هو العيش في سلام مع كل مواطني العالم مهما كان اختلاف الأفكار والدين والعادات بينهم وبين الصين، ولكن بالطبع كان لهذا التيار أهدافٌ أخرى، أهمها تنمية الصين اقتصاديًّا بربطها بالاقتصاد العالمي، وفي ذلك الوقت عادَ الحزب الشيوعي الحاكم للعنف ضدَّ الإيغور في إقليم شينجيانج، الذي تحوَّل إلى قبلة ونموذج اقتصاديٍّ لنجاح الصين، وكان لا بد من تأمينه والسيطرة عليه بالكامل من بكين.

هذه المبادئ الكونفوشية توظِّفها الصين اليوم في خطابها السياسي للعالم وتساعدها في التغطية على الاضطهاد العرقي والممنهج ضد الإيغور، وفي هذا السياق يأتي تصريح الرئيس الصيني شي جين بينج، في افتتاح «المؤتمر الأول لحوار الحضارات الآسيوية» في عام 2020، بعنوان مدروس: «التبادلات والتعلُّم المتبادل بين الحضارات الآسيوية ومجتمع ذو مستقبل مشترك»، وقال فيه إنَّ «البشرية تحتاج إلى قوة ثقافية، إلى جانب القوة الاقتصادية والتكنولوجية، لمواجهة التحديات المقبلة والتوجه نحو مستقبل مشرق، وبناء رابطة المصير المشترك لآسيا، ورابطة المصير المشترك للبشرية».

المصدر: 
ساسة بوست