من منّا لم يسمع بغودو؟
هذه الشخصيّة الغامضة التي لا تصل أبداً، رغم طول الانتظار وتكرار الوعود، والتي لم تعد بعد وقت وجيز من عرض مسرحيّة صموئيل بيكيت (1906 – 1989) «في انتظار غودو» لأوّل مرّة في باريس قبل 70 عاماً (1953) مجرّد شخصيّة الحاضر أبداً، الغائب أبداً، ضمن عمل مسرحي آخر، بل استقلت عن صاحبها الآيرلندي الكئيب، واكتسبت حياة خاصة بها، أخذتها في مغامرات عبر الحدود واللغات والأزمنة لتضيء في فضاء الثقافة العالميّة نخبوية وشعبيّة معاً، وصارت رمزاً مكثّفاً بليغاً لكل انتظار عبثي.
كُتبت «في انتظار غودو» بالفرنسيّة، في وقت ما بين نهاية عام 1948 وبداية 1949، وصدرت في طبعة أولى من 2500 نسخة، في 1952. لكن كاتبها انتظر 4 أعوام ليكون على موعد مع الشهرة والتاريخ، وأيضاً مع كثير من الجدل، وذلك عندما نجح أخيراً، وبعد عدة محاولات فاشلة مع «نصف دزينة» من المخرجين الفرنسيين، في إقناع أحدهم، روجر بلين، بتقديم المسرحيّة (التي لا يحدث فيها شيء وفق أحد النّقاد) على خشبة مسرح «بابل» بالعاصمة الفرنسيّة. تردد بلين بداية في تقديم عمل لا أدوار نسائيّة فيه، مغرق في الثرثرة، ولم يستوعب تماماً مغزاه الفلسفيّ، لكن خبرته السّابقة في تقديم أعمال آيرلندية، وذوقه المتقارب مع بيكيت في الكحوليّات، والتكلفة المنخفضة لتقديم عمل يقتصر على 5 شخصيّات وشجرة، حسمت في النهاية موقفه إيجابياً. وقد قضى بلين فعلياً أكثر من عامين في محاولة لتأمين خشبة مسرح، رغم حصوله على منحة من الدّولة الفرنسيّة، قبل أن ينتهي الانتظار أخيراً بعدما وجد مسرحاً كان على وشك التوقف عن العمل، وقرر مديره إنهاء تاريخه بتقديم عمل متفلسف. وهكذا في 5 يناير (كانون الثاني) 1953 كتبت صفحة جديدة في تاريخ المسرح العالمي، عندما ارتفع الستار على مشهد رجل ساءت أحواله يرتدي قبعة، بينما يكافح لخلع حذائه. كان ذاك إستراغون الذي يلتقي للتوّ برفيقه فلاديمير تحت شجرة بلا أوراق، حيث معظم وقت المسرحيّة التي تقع في فصلين يمضي بينما ينبئ رفيقه بآخر مشكلاته، ويتناقشان في عدد لا نهائي من القضايا التفصيليّة التافهة بإسهاب، ليُفهَم منهما تالياً أنّهما بانتظار شخص ما يدعى غودو، ليسا متأكدين تماماً مما إذا كانا قد التقياه من قبل، أو إذا كان سيأتي بالفعل. وعلى الرّغم من أن جنسيّات شخوص المسرحيّة غير محددة، فإنه من الواضح أنهم ليسوا إنجليزاً، لأنهم يشيرون إلى العملة المتداولة على أنها فرنكات، ويلقون بنكات ساخرة عن الإنجليز ولغتهم. وفي الإنتاجات باللغة الإنجليزية، يتم لعب الشخصيّات تقليدياً بلهجات آيرلندية.
تم عرض النسخة الإنجليزية التي ترجمت بفروق قليلة عن النصّ الأصلي الفرنسي مع عنوان فرعي «كوميديا تراجيدية في فصلين» أول مرة في لندن عام 1955، وقد اختارها جمهور المسرح الملكي البريطاني في موسمه 1998 - 1999 بوصفها «أهم مسرحية قدّمت باللغة الإنجليزية في القرن العشرين»، وقدّمت منذ ذلك الحين على عشرات المسارح عبر العالم، من أستراليا إلى الولايات المتحدة، ومن النرويج إلى جنوب أفريقيا، وأصبحت أكثر أعمال بيكيت شهرة، رغم أنّها ليست بالضرورة أهمها، والمساهم الأكبر في دخله.
ومع ذلك، فإن ردود أفعال الجمهور الأوّل في كلتا المدينتين، أي باريس ولندن، لم تكن جميعها متحمّسة للعرض، فقد غادر كثيرون وقت الاستراحة بين الفصلين، وسخر بعض النّقاد من مسرحيّة «لا شيء يحدث فيها مرتين»، واشتكى كثير من المثقفين والمسرحيين من صعوبة استنتاج ما يريد الكاتب أن يقوله من جرّاء انتظار غودو، بل تعددت الجدالات حول السرّ في تسمية «غودو» نفسها، وطريقة لفظها بين الفرنسيّة والإنجليزيّة بلهجاتها المتنوعة بين لندن ودبلن ونيويورك، وهي جميعها أمور أشعرت بيكيت بالسخط، إضافة إلى دهشته من اضطراره لحذف بعض الكلمات النابية من العرض الإنجليزي، بحكم أن المسرح في بريطانيا في الخمسينات من القرن الماضي كان يخضع للرقابة الحكوميّة اللصيقة. لكنّ آلافاً تسابقوا لحضور المسرحيّة في عروضها اللاحقة التي تنقلت عبر أوروبا، وكتب نقاد مرموقون إشادات بأصالة العمل، وقوّة روح الدّعابة والسخريّة فيه من الأقدار، ووصفه مسرحيّون بـ«التحفة الفنيّة التامّة»، وقال أحدهم: «إن غودو قلب قواعد الدراما رأساً على عقب، من خلال تجريد الشكل من جوهره وإثبات أن المسرحية هي في الأساس وسيلة لقضاء ساعتين في الظلام دون الشعور بالملل».
وضعت نظريّات كثيرة في تفسير مصدر تسمية غودو، وذهب البعض إلى اعتبارها تنويعاً على اسم الذات الإلهيّة، أو صدى لأسماء وردت في أعمال أدبيّة سابقة. لكن الحقيقة كانت أبسط من ذلك بكثير، إذ يروي بعض معارف بيكيت أنّه مرّ يوماً بمجموعة من المتفرجين في السباق الفرنسي السنوي للدراجات، ولما لم تكن هناك دراجات لحظتها، سألهم عمّا ينتظرون، فقالوا له إنهم في انتظار غودو، الذي كان اسم عائلة أحد المتنافسين المعروفين (روجر غودو 1920 - 2000).
وصفت رائعة بيكيت بأنّها «حققت استحالة نظرية، فهذه مسرحية لا يحدث فيها شيء، ومع ذلك تبقي الجماهير ملتصقة بمقاعدها»، وحاول البعض استقراء الأبعاد الفلسفية للخطابات التي تبدو «كطوفان من الرّطانة التي لا معنى لها أو المفتقدة للقيمة». وقد صنّفها الناقد مارتن إسلين تحت ما سماه «مسرح العبث» حيث هذا الاندفاع المتفلسف الذي يبدو انفعالياً وغير مترابط هو مثال على عمل الممثل «ضد الحوار وليس معه، وحيث المعنى يقف في تناقض جدلي مع انعدام معنى سطور النصّ». لكن الأكيد أن المسرحيّة تعبّر بشكل أو بآخر عن حالة الضياع التي عاشتها الشعوب الأوروبيّة خلال مرحلة الحرب العالميّة الثانية، وبحكم تجريدها الشديد، والعنصرية الظاهرة فيها، فقد تعددت دائماً القراءات الممكنة لها على الصعد السيكولوجيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة، ولربما يفسّر هذا جزءاً من سرّ نجاحها. ومن المؤكد أيضاً أنّ بيكيت نفسه لم يساعد في توضيح مقاصده المباشرة من العمل، واستنكر دورياً «سوء الفهم الذي لا نهاية له» عند النقّاد الذين يحاولون تقديم تحليلات معقدة لشخصياته، متسائلاً: «لماذا يتعين على الناس تعقيد شيء بهذه البساطة! إنّه أمر لا يمكنني فهمه». ومن المعروف أنّ الرجل كان نفسه عصياً على التثبيت ضمن مدرسة فكريّة أو مذهب أدبي محدد.
عارض بيكيت كل محاولات تعديل «غودو»، أو اقتباسها لغير المسرح، أو تقديمها من قبل ممثلات إناث، وقاتلت من بعده وقفيّته للحفاظ على تلك الصيغة الثابتة بكل الوسائل القانونيّة، وما زالت. وقد حكم قاضٍ فرنسي في عام 1991 بأن أداء المسرحية من قبل ممثلات إناث لا يسيء إلى إرث بيكيت، وسمح به للتقديم في مهرجان أفينيون، لكنّه فرض قراءة اعتراض محامي وقفيّة بيكيت قبل كل عرض.
ربما تضاءلت أهميّة «في انتظار غودو» بوصفه عملاً أدبياً مسرحياً في القرن الحادي والعشرين، لكن ثيمة انتظار البشر الدائم لشيء لا يأتي التي جسّدتها، ستبقى حاضرة ما بقي البشر حاضرين. يكفيك أن تراقب في مكان عام كيف يستمر الناس في مساءلة هواتفهم كل دقيقة كأنهم بانتظار شيء ما. ألسنا جميعنا في انتظار غودو؟!