اللغة العربية ووسائط الثقافة: عبدالرزاق المصباحي..في اليوم العالمي للغة العربية،تحضرني قوة وقدر حضورها في وسائط الثقافة الجديدة: وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية الإخبارية، ولا ضير في أن نعترف بضعف الاعتناء بها فيهما معا، فلا تخلو كثير من المقالات التي خطّها محرر متعجل من كم كبير من الأخطاء اللغوية البينة، إملاء وتركيبا، حتى لا تكاد، أحيانا، تفهم المقصود من المقال. فبسبب تسونامي الأخبار التي تتنزل على هذه المواقع، والسباق المحموم على السبق الصحافي، وغياب رقابة المدقق اللغوي، أو القارئ المدقق، الذي يمكن، عبر التغذية الراجعة في التعليقات، أن ينبه الموقع المعني أو كاتب المقال إلى تلك الأخطاء، أو بسبب السرعة والتهافت على الخبر، فإن السبق يصبح العامل الموجه. وكذا الأمر بالنسبة إلى لغة التدوينات في وسائل التواصل الاجتماعي التي تكتب بالعامية الدارجة في الغالب، أو بلغة عربية كثيرها معطوب بناء ودلالة. وطبعا، فنادراً ما تجد اعتناء بالأسلوب، واحتفاء بفصاحة اللفظة، وبلاغة المقصد.
إن اللغة العربية في صراع قائم مع تدفق كبير للصور وأيقوناتها لكسب جمهور وسائط الثقافة، وخاصة الفايسبوك، فإن كانت الأخيرة لا تتطلب مجهودا ذهنيا كبيرا، وتصنع قادرا هائلاً من المتعة، فإن استهلاك النص اللغوي العربي، يتطلب جهدا أكبر ومهارات في الفهم والتحليل، وهي لا تتوفر في كثير من جمهور هذه الوسائط، الذي كثير منه لم ينل حظا من التمكن من القدرات والمهارات في اللغة العربية، ناهينا عن المتحدثين باللغات الأجنبية الذين يميلون إلى التدوين باللغات التي اعتادوا الكتابة بها. ثم إن التوفر على مهارات الكتابة والقراءة في اللغة العربية، لا يعني أن يكون التعبير بها هو الخيار الأفضل، في ظل عزوف جمهور هذه الوسائط عن قراءة التدوينات المطولة، أو المتخصصة، أو المتضمنة لتفاصيل كثيرة، وهو ما يظهره التفاعل القليل معها، في مقابل الميل نحو استهلاك الصور والتفاعل المكثف معها، بصمة وتعليقا ومشاركة.
وفي المقابل، فإن (تويتر) يسمح للتدوين بمساحة أكبر، رغم قلة عدد الكلمات المسموح بها، وهو عامل مفيد لحضور اللغة العربية، التي تميل، أصلاً، إلى التكثيف والتعبير الدقيق عن المقصد، فضلا عما يتيحه ذلك للمغرد من أن يضبط تركيب الجملة، ويتجنب الحشو، ويفجر من اللفظة قوتها الإشارية. ولهذا السبب نلمس عبر تغريدات (تويتر) المكون البلاغي وتنوع توظيفاته، ونتذوق بهاء الأساليب، وتماسك التركيب، في تناغم مع القدرة على الإخبار، وحتى التخييل أو الحجاج المكثفين. وفضاء (تويتر) مفيد للباحثين عن مساحة تجمع بين الاعتناء باللغة؛ دقة وتكثيفا، وبين الثقافة، خاصة أن النقاشات تجمع بين نخبة من المثقفين في الفكر والسياسة والاقتصاد وغيرها، ومتتبعيهم وقرائهم الذين يبحثون عن فرصة للنقاش أو للتعبير عن آراء، أو للإخبار بمستجدات.
تستمر اللغة، أية لغة، في الحياة، عبر التواصل المكثف بها، وعبر الإنتاج العلمي والفكري والإبداعي الرصين، وعبر قدرتها على مواكبة التحولات التكنولوجية، والاندغام في نسقها. واللغة العربية أكدت، عبر التاريخ، عن قدرتها على التطور المستمر، وإن الاعتناء بها في وسائط الثقافة، والحرص على التوظيف السليم لها في حدود إمكانيات الأفراد، في التدوينات والتغريدات، سيجعل معجمها يغتني أكثر، وتكثيفها يصير أبلغ، والقراءة بها تضاهي أكثر الصور والأيقونات إمتاعا.
٭ باحث مغربي في مجال التربية والنقد الثقافي
اللغة العربية اليوم.. إلى أين؟: فريد أمعضشو
قطعت اللغة العربية، عبر تاريخها، مسارا طويلا جدّا، ما يزال مسترسلا إلى الآن، عرفتْ خلاله لحظات توهج وتراجع، مدّ وجَزر، فعل وانفعال، تحت تأثير عدة عوامل، لكنها – في كل الأحوال – ظلت صامدة صمودَ الجبال الراسيات. إذ إنه، على الرغم من كلّ العقبات والمُعَرْقِلات، التي تعاونت قُوًى – في الداخل كما في الخارج – على وضعها في طريقها؛ لإضْعافِها وفَصْل أهلها عنها والطعن في قدرتها على التطور والتكيف مع المستجِدّات والمتغيّرات، إلاّ أنها استمرت حيّة، موصولة العلاقة بماضيها، مُثْبِتة صلاحيتها لكل عصر، إلى أنْ فرضت نفسها – حديثاً – بوصفها إحدى لغات منظمة “الأمم المتحدة” رسميا، ونزعت منها الاعترافَ الذي تكرَّسَ بتخصيص يوم عالمي احتفاليّ بها، يوافق الثامن عشر دجنبر/ كانون الأوّل من كل سنة، وأضْحَت تُدَرَّس في كبرى الجامعات الدَّوْلية، في أوربا وأمريكا وغيرهما، بعدما نالت حظّا وافرا من عناية المستشرقين والمُسْتعربين بها منذ القرن ما قبل الماضي.
وإذا ولَّيْنا وُجوهَنا شطر العالم العربي للوقوف على مكانتها وواقعها اليومَ بين أبنائها والناطقين بها، فإننا نلمس – بكل موضوعية – تراجُعات وتحدّيات حقيقية تنتصِبُ أمام اللغة العربية في اللحظة الحضارية الآنية، سواء في مجال التعليم أو الإعلام أو الإدارة أو غيرها.
ففي المدرسة المغربية، ما زالت العربية تُسْتعمَل في تدريس الموادّ الأدبية والعلوم الإنسانية والبحتة في المستويات ما قبل التعليم الجامعيّ، وكذا في كليات الآداب والحقوق، وفي بعض المدارس والمعاهد العليا، ولاسيما بعد أنْ تمّ تعريب عدد من تلك المواد الدراسية قبل زمن غير بعيد، وإنْ صِرْنا اليومَ، في المغرب، نشهد عودةً إلى تدريس موادّ، في المرحلة الثانوية، بلُغات أجنبية، بعد أنْ تم إرساء مسالك جديدة في البكالوريا، بل إنّ موادّ علمية وتقنية صارت تُدرَّسُ بهذه اللغات، كذلك، في الطور الابتدائي، ولاسيما في التعليم الخصوصيّ.
وليس واقع العربية بأفضلَ حالاً في مجال الإعلام الناطق باللغة العربية؛ إذ نُلفي فيه أخطاء كثيرة، وتعابيرَ لغوية تنأى عن النسق اللغوي العربي الفصيح، ونقصاً في الربط والترقيم وغيرهما ممّا يتوقف عليه الاستعمال السليم لهذه اللغة.
ويأتي اللجوءُ إلى التدريس باللغات الأجنبية، اليوم، منْ أجل إعداد المتعلمين لِوُلوج كليات العلوم والتقنيات والطبّ بسلاسة، عقب تخطّيهم سلك البكالوريا بنجاح، ولإقدارهم على الإفادة من نتائج البحث العلميّ في الدول المتقدمة، ولتسهيل انخراطهم في مجتمع المعرفة، وحركيّتِهم خارجيّا فيما لو اختاروا متابعة دراساتهم العليا في جامعات أوروبية أو أمريكية بخاصّة. وتحضر العربية، كذلك، في منظومتنا التربوية بوصفها لغةً مدرَّسة، على امتداد مسيرة المتعلم التعليمية من الأوَّليّ والابتدائي إلى العالي، وإنْ كانت تُسَجَّل ملاحظاتٌ عليها من حيث غلافُها الزمني، ومحتواها الديداكتيكي، ومنهجية تدبيرها وتقويمها، ونحو ذلك. وعموماً، فالتقارير المُنْجزة، في هذا الإطار، تؤكّد حقيقة مؤلمةً، مفادُها ضعف تمكُّن المتعلم(ة) من الكفاية اللغوية المتعلقة بالعربية، وذلك ما يجسّده تواضُع مستوى أعداد كبيرة من خرّيجي منظومة التعليم بالمغرب في اللغة العربية، وعدم تحكُّمهم فيها قراءةً وكتابةً واستعمالاً؛ وهو ما باتَ يسائل اليومَ، بإلحاح، تدريسَ هذه اللغة، وأوْجُه استخدامها في تدريس موادّ أخرى.
وليس واقع العربية بأفضلَ حالاً في مجال الإعلام الناطق باللغة العربية؛ إذ نُلفي فيه أخطاء كثيرة، وتعابيرَ لغوية تنأى عن النسق اللغوي العربي الفصيح، ونقصاً في الربط والترقيم وغيرهما ممّا يتوقف عليه الاستعمال السليم لهذه اللغة. ويظهر ذلك، بوضوح، في الإعلام الخاصّ، وفي الصِّحافة الورقية والإلكترونية، وفي المحتوى الرقمي العربي على الشابكة. ولا شكّ في أن مِثل هذه الأمور لا تساعد على التمكين لهذه اللغة في أوساط النشء والشُّبّان العرب، ولا على نشر نَسَقِها الصحيح، بقدر ما ترسّخ لديهم استعمالات لغوية خاطئة وركيكة.
وما زالت لغة الكتابة والتراسُل والإعلان المعتمَدة في عدد من الإدارات الحكومية عندنا، فضلا عن المنظّمات والشركات والمؤسسات غير الحكومية، أجنبيّة (الفرنسية خصوصا) ضدّا على لغاتنا الوطنية المُدَسْترة، وعلى جملة من المذكّرات والتوجيهات الرسمية الداعية إلى تعميم استعمال العربية في الإدارات… إلخ.
يكشف كلُّ هذا عن وضع صعبٍ، تعيشه اللغة العربية في واقعنا الحالي، زادته تعقيدا المنافسة الشرسة للغات الأجنبية العالمية، التي بسطت سيطرتها في مجالات الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا والبحث العلمي، اضطرّ معها كثير من أبناء العرب أنفسهم إلى الإقبال على تعلم هذه اللغات؛ نظرا للآفاق الواعدة التي تفتحها أمامهم لضمان مستقبل مْهني وعلمي. كما تعاني العربية من منافسة الدوارج واللهجات المحلية في عموم الوطن العربي؛ الأمر الذي دعا عددا من المنافِحِين عن اللغة العربية، أفرادا وإطارات جمعوية، إلى دقّ “ناقوس الخطر”، وتكثيف جهودهم؛ من أجل إعادة الاعتبار للغة القرآن، وتبويئها المنزلة التي تستحقها في الحياة العامة.