ثمّة خيطٌ مشتركٌ في نسيج التاريخ البشري يربط بين الثقافات والأجيال والقارات. إنّه فن الترجمة، من خلجات ما قبل التاريخ المنقوشة على الألواح الطينية في بلاد ما بين النهرين، إلى سيمفونيات غوغل الرقمية وفتوحات الذكاء الاصطناعي، تحفل هذه الرحلة عبر الأزمنة بما يشهدُ على شغف الروح الإنسانية الدائم بالتواصل والفهم والاكتشاف.
هكذا تقطّعت بالبشر السّبُلُ ليجدوا أنفسهم تائهين في بحرٍ من اللغات الغريبة وفي تَوقٍ إلى إعادة تشييد الجسور التي هوَت، لتبرز صنعة الترجمة بشقّيها الشفهي والمكتوب واحدة من بين أقدم الحِرف البشرية عبر التاريخ. فعلى مرّ العصور، عمل المترجمون بِلا كلَلٍ لاستعادة الانسجام الذي اعتقدت العائلة البشرية أنه الأصل ولعِبوا دورا حيويا في تمكين العالم من التواصل والفهم والتعاطف. ومع احتفال العالم باليوم العالمي للترجمة في الثلاثين من سبتمبر/ يوليو من كل عام، فإن المرء يقف في حالة من الانبهار أمام هذه الإنجازات البديعة التي تعكس براعة الإنسان ومثابرته، إذ تُعدّ الترجمة وما راكمَته عبر تاريخها شهادة على روحٍ إنسانية واحدة في سعيٍ أبديّ إلى التواصل والمعرفة المشتركة.
في ما يلي أبرز المحطّات في تاريخ الترجمة.
ملحمة جلجامش (2100 ق.م): التبادل الثقافي
دُوّنت الملحمة التي يُعتقد أنها أولى القصص التي رواها الإنسان باللغة الأكادية على ألواح طينية في قلب بلاد ما بين النهرين، وهي تشهُد على بواكير المساعي البشرية للتغلّب على الانقسامات اللغوية إذ تُشير الدراسات إلى أنّ فكرة الملحمة التي كُتِبت بالأكادية إنّما انبثقت من نقل حكايات شعرية سومرية عن "بِلغامِش"، الاسم السومري لجلجامش، ملك أوروك.
حجر رشيد (196 ق.م): أولى نظريات الترجمة
في الرمال الذهبية لصحراء مصر، كان السرّ مخبوءافي حجر رشيد المنقوش منذ 196 قبل الميلاد، وهو أشبه بوثيقةٍ متعددة اللغات تحتوي نصّا مكتوبا باليونانية والديموطيقية والهيروغليفية. ومن هذا الحجر استطاع شارلمان فكّ الألغاز القديمة بسحر الترجمة التي أماطت اللثام عن بعض أروع قصص الحضارات الغابرة. علاوة على ذلك، كشف حجر رشيد عن نظرية بديعة في الترجمة وفي تعلّم اللغات الأجنبية تضاهي أحدث النظريات المعاصرة، إذ يستند منهج تعليم اللغات بحسب ما ورد في التعليمات التي احتواها الحجر على تجنُّب اللجوء إلى الترجمة لتعلّم اللغة، أولا، وإلى الابتعاد عن الترجمة الحرفية في ممارسة الترجمة، ثانيا.
طريقُ الحرير(القرن الثاني قبل الميلاد):الترجمة من أجل التجارة
من البداهة القول إنّ طريق الحرير، أعرق طرق التجارة البشرية التي امتدّت من الصين إلى منطقة المتوسط كان أشبه بمهرجانٍ سيّار تتقاطع فيه دروب الثقافات واللغات والدبلوماسية، ولم يكن عبور الطريق ممكنا من دون المترجمين الذين يسَّروا تواصل التجار والعلماء والدبلوماسيين وتبادل البضائع والثقافات والفنون والأفكار والمعتقدات. فإلى جانب ما نقله الرهبان والعلماء البوذيّون من ترجماتٍ من السنسكريتية إلى مختلف اللغات في وسط آسيا وشرقها، كذلك عُرِف تُجّار بلاد الصغد (إيران القديمة) بكفاءتهم في الترجمة وفي دورهم كوسطاء بين اللغات على طول طريق الحرير الذي ازدهرت بعض مدنه مثل سمرقند وبغداد وشيان وبرزت كمراكز للثقافة بفضل الترجمة.
جيروم، مُتَرجِم الإنجيل (383 م): في متناول العامة
يوافق الاحتفال بيوم الترجمة العالمي في 30 سبتمبر/ أيلول ذكرى رحيل القديس جيروم، صاحبأولى ترجمات الكتاب المقدس قبل مئات السنين، الذي أهدى البشرية النسخة اللاتينية من الإنجيل بترجمته العهد القديم عن العبرية والعهد الجديد عن اليونانية، وبذلك، لم تعد قراءة الكتاب حِكرا على الكهنة في الكنائس والأديرة، بل صار في متناول "العامة"، وهي المفردة المرادفة لكلمة "فولغاتا" التي أُطلِقت على ترجمة جيروم.
بيتُ الحكمة (القرن الثامن ميلادي): جوهرة العرب والمسلمين
كشف العصر الذهبي الإسلامي عن أحد الفصول المشرقة في تاريخ الترجمة ممثَّلا ببيت الحكمة الذي أُنشِأ في بغداد في فترة الخلافة العباسية وكان مركزا للدراسات والترجمة أشبه بمنارة للتنوير والتبادل الثقافي. لعب بيت الحكمة دورا محوريا في نقل أعمال العلماء اليونانيين والرومانيين والفارسيين والهنود والصينيين القدماء بجهود المترجمين والباحثين المتفانين من أمثال ابن قُرّةَ وابن الأشعث وابن البطريق وابن حُنَين وغيرهم ممّن مدّوا جسور التواصل بين هذه الثقافات وصنعوا ثروة من المعرفة التي لم يقتصر تأثيرها على العالم الإسلامي، بل أيضا قامت عليه نهضة أوروبا.
عُصبةُ الـأمم (1920): لغة الدبلوماسية
في الربع الأول من القرن العشرين، تأسّست عصبة الأمم في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وكانت تطمح إلى جمع الأمم معا من خلال الدبلوماسية والحوار. ولم يكن هذا المسعى الدبلوماسي ليتيسّر لولا جهود المترجمين الشفهيين والتحريريين الذين كانوا الأساس في تمكين التواصل الفعَّال بين الأمم وفي صبرهم على نقل خطابات السياسيين وإطنابهم ونُكاتِهم وشتائمهم أحيانا!وقد أرسى هذا المسعى المبكّر في الدبلوماسية المتعددة اللغات الأساس للتعاون الدولي الذي سيأتي لاحقا.
محكمة نورمبرغ (1945): العدالة من خلال الترجمة
لا تزال محاكمات نورمبرغ مثالا ساطعا على الدور الذي لعبته الترجمة وخاصة الشفهية في محاكمة النازيين في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وجمعت المحاكمة التي تُعدّ من أهم محاكمات القرن العشرين التي استمرت لنحو عشرة أشهر نخبة من أفضل المترجمات والمترجمين في الغرب وصارت تُعرف بمحكمة الستة ملايين كلمةفي إشارةٍ إلى ما دُوِّنمن جلسات وإفادات نقلها المترجمون باللغات الإنكليزية والروسية والفرنسية والألمانية، فضلا عن توفير الترجمة بلغتين إضافيتينغير رسميتين هما البولندية واليديشية. وقد تطوّرت صنعة الترجمة الشفهية الفورية انطلاقا من محاكمات نورمبرغ بجهود شركة آي بي إم IBM الأميركية التي أطلقت أول نظامٍ للترجمة استعانة بالحواسيب سيغدو لاحقا نواة لثورة في تقنيات الترجمة الآلية.
الأمم المتحدة (1945): التنوع اللغوي
تأسّست الأمم المتحدة بخمس لغات رسمية هي الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والصينية والروسية، وأُضيفت لها العربية عام 1974. وقد جاء هذا الإعلان إقرارا بأهمية التنوع اللغوي في الدبلوماسية الدولية. ويظل التزام الأمم المتحدة بالتعددية اللغوية بمثابة شهادة على دور الترجمة التحريرية والشفهية في تعزيز التعاون العالمي، وتُخصّص الأمم المتحدة يوما سنويا لكل واحدة من هذه اللغات الست، هذه مواعيدها:
20 مارس/آذار- يوم اللغة الفرنسية (اليوم الدولي للفرانكوفونية).
20 أبريل/نيسان- يوم اللغة الصينية (تخليدا لذكرى سانغ جيه مؤسس الأبجدية الصينية).
23 أبريل/نيسان- يوم اللغة الإنكليزية (الذكرى السنوية لوفاة الكاتب الإنكليزي ويليام شكسبير).
6 يونيو/حزيران- يوم اللغة الروسية (الذكرى السنوية لميلاد الشاعر الروسي ألكسندر بوشكن).
12 أكتوبر/تشرين الأول- يوم اللغة الإسبانية (يوم الثقافة الإسبانية).
18 ديسمبر/ كانون الأول- يوم اللغة العربية (يوم إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة).
يبدو أن الكثير من الطُرف في انتظارنا قبل أن نرى الخوارزميات والحواسيب وذكاؤها الاصطناعي تُزيحُنا نحن معشر المترجمين البشريين، إلا أنه سيكون من الأسهل على التكنولوجيا إطاحةُ المترجم غير المُلِمِّ بها والمتقن لها
الترجمة الآلية (1950-): الخوارزميات وعصر السرعة
في عصرٍ سِمَتُه السرعة والرغبة في تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، نشأت الحاجة إلى خدمات ترجمةٍ تُلبّي شرطَ السرعة قبل أيّ شرطٍ آخر. ومع بداية العقد الخامس من القرن العشرين، بدأت أولى تجارب توظيف الحواسيب البدائية لترجمة النصوص من لغة إلى أخرى. كانت هذه المحاولات محدودة وغالبا ما اعتَمدَت على تقنيةالترجمة الحَرفية. ومع القفزات المهولة التي شهِدتها صناعة الحوسَبة عالميا، ظهرت تقنيات جديدةٌ في الترجمة الآلية، في طليعتها ما يُعرَف بتقنية التعلُّم العميق Deep Learning والشبكات العصبية Neuro Networks التي أحدثت ما يشبه الطفرة في ميدان الترجمة الآلية لناحية الدّقة والقدرة على التعامل مع بِنى لغوية معقدة بفضل النماذج اللغوية المدربة على مجموعات ضخمة من البيانات والمُتون اللغوية التي تُوِّجت بتطبيقات الذكاء الاصطناعي ممثّلا بالعبقريّ "الكاتوب" تشات جي بي تي!
قبل مُدّة، أطلعَتني صديقة تقيم مع أطفالها في لندن على رسالةٍ نصّية أرسلها لها ابنها باللغة العربية من باب التودُّدِ لها، فهو يتحدث الإنكليزية بمثابة لغةٍ أُم ويجيد العربية العامّية تحدّثا وليس كتابة. ويبدو أن الفتى استعان بالترجمة الآلية لترجمة رسالته التي كتبها لأمه في الإنكليزية أولا وبدأها بعبارة "مرحبا مومياء" وهي ترجمةٌ آلية لعبارة "Hi mummy" التي كتبها الطفل على الأرجح!
قبل إتمام هذه المقالة، سألت السيد "تشات جي بي تي" كيفُ نُترجم هذه العبارة إلى العربية This is the tip of the iceberg وهي قولٌ اصطلاحي يقابله في العربية قولنا: ما خفِي أعظم أو هذا غيضٌ من فيض. هاتان ترجَمتان لن تسمعوهما سِوى من مُتَرجِمٍ بشري من لحمٍ ودم. أما تشات جي بي تي فجاءت ترجمته على النحو الآتي: "هذه طرفة جبل الجليد".
يبدو أن الكثير من الطُرف في انتظارنا قبل أن نرى الخوارزميات والحواسيب وذكاؤها الاصطناعي تُزيحُنا نحن معشر المترجمين البشريين، إلا أنه سيكون من الأسهل على التكنولوجيا إطاحةُ المترجم غير المُلِمِّ بها والمتقن لها.