في لقاء افتراضي مع طلاب وطالبات مدرسة ثانوية في دولة الإمارات العربية المتحدة، لمناقشة إحدى الروايات المقررة عليهم، كانت ثمة أسئلة عادية، يمكن أن يسأل عنها الكاتب في أي وقت، وأسئلة أخرى جيدة، تبحث عن إجابات، وتبين ما تحمل تلك الأذهان الشابة من هموم وتطلعات، في زمن تعقدت فيه الحياة، وأصبح من الصعب الحصول على وظيفة أو مال أو حياة خالية من المتاعب. ونعلم جميعا أن الحروب الأخيرة في المنطقة قضت على كثير من الآمال، والحقيقة أنها دكت حتى الآمال التي استطاعت أن تتشيد بجهد وعرق كبيرين، ولم يصبح البعض بلا مأوى فقط، ولكن حتى بلا أمل يتكئون عليه.
من الأسئلة التي اعتبرها جيدة، ما سأله طالب، قال إنه يقرأ منذ الصغر، ويعرف الكثير عن الأدب والأدباء، ولطالما حلم بلقاء أحد الكتاب ليسأله: هل الأدب ضروة؟ هل فعلا نحتاج لأدباء وسطنا؟ بينما تنحدر معدلات القراءة بسبب الفقر، والحروب والتشرد في المنافي، ومحاولات الحصول على لقمة العيش؟
بصراحة لم أسأل نفسي هذا السؤال من قبل، ولطالما كنت أعتبر الأدب قوتا يوميا موازيا لقوت البطن، يسير معه جنبا إلى جنب، ومثلما أشتري الخبز والخضروات من مصادر بيعها، أعرج على المكتبات لشراء حاجتي من الكتب. وأعرف أشخاصا من جيلي، وأيضا من أجيال جديدة، لا تعتبر الحياة جديرة بالعيش بلا قراءة، وهؤلاء يشترون الكتب في أحلك الأوقات، ودائما ثمة كتاب يصاحب تجوالهم وجلوسهم في ساعات الاسترخاء.
ولعلنا اعتدنا على مشاهدة أشخاص منهمكين في القراءة، أثناء إجراءات السفر في المطارات، وعلى مقاعد الانتظار في صالات المغادرة، وحتى في مواصلات النقل العام، ومرة كنت قادما من الخرطوم، وصادف أن شاهدت فتاة تضع الرواية المشهورة «هبتيا» للكاتب محمد صادق، أمام عينيها، وتقرأ باهتمام، ولم تترك الرواية حتى بعد أن وصلت الدوحة، ووقفت أمام المطار تبحث عن سيارة أجرة. كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها بتلك الرواية، وبحثت عنها بالطبع، وبالرغم من أنها لم تكن في حيز تذوقي، إلا أنها كانت مقياسا حيويا لاهتمام البعض بالأدب وتفضيله على كثير من الأشياء الأخرى.
ولعلي أضيف أنني عشت طفولتي في زمن لم يكن فيه أي ترفيه، أو أي اختراق للعوالم الغامضة، بوسيلة أخرى غير القراءة، مثلما يحدث الآن، حيث تستطيع باستخدام هاتفك أن تصل إلى أي مكان، وتتعرف على أي معلومة مهما كانت بعيدة، أو تافهة. لذلك كان الأدب ضرورة أيامنا، نتعرف عن طريقه على ثقافات وأساطير ومعلومات غاية في الجمال، لا بد نجهلها، حتى القصص البوليسية البسيطة التي كانت تتخذ أبطالا في أعمارنا، يحلون الألغاز ويعاونون الشرطة، كنا نعتبرها ملهمة جدا، وملاذا لا بد من الاتكاء عليه، ونتشوق بشدة ونحن ننتظر عملا جديدا يصدر في سلسة تلك القصص البوليسية.
إذن كان الأمر ضرورة قصوى، وبعد أن كبرنا، استمر معنا ضرورة قصوى، وإلى الآن تجدني وتجد معظم أبناء جيلي، قراء دائمين للكتب في شتى مجالات المعرفة. وأستطع القول أن التكنولوجيا الحديثة لم تمنعنا من القراءة، لكن سهلتها لنا، بوجود نسخ إليكترونية للكتب التي يصعب الحصول عليها، بسبب صدورها في أماكن بعيدة عن التناول، وأيضا وجود مكتبات ضخمة تحتوي على نسخ رقمية، مثل مكتبة الكونغرس في أمريكا، ومكتبة قطر الوطنية، ومكتبة محمد بن راشد في دبي، وعديد من المكتبات الأخرى في العالم.
قلت للطالب صاحب السؤال بكل ثقة، إن الأدب ضرورة، وإنك لا تستطيع أن تعيش مهندسا فقط، أو قاضيا فقط، أو طبيبا فقط، ولكن لا بد من وجود جانب قراءة الأدب وغيره من العلوم في حياتك، والعوامل الاقتصادية، قد تمنع شراء الكتب الكثيرة، والمشتهاة، ولكن لا بأس من كتاب كلما سنحت الفرصة.
يقودني ذلك إلى ذكر المكتبات الأهلية التي توفر الكتب في أحلك الظروف، برهانا على أن هناك من يسعى لتلك الكتب بالفعل مهما ساءت الأوضاع، وأذكر بكل جمال مكتبة سمير منصور في غزة، التي لم يستطع القصف العدائي الذي دكها مرة، أن يقضي على فكرتها. إنها هي المكتبة الجميلة، العظيمة، التي تنهض من العدم، حاملة ثمار الفكر والأدب لعشاق القراءة.
وأيضا كانت مكتبة الفرجاني في ليبيا موجودة دائما، وتنشر الكتب وتوزعها، برغم عدم الاستقرار، وعندنا شباب في السودان، يحصلون على الكتب ويناقشونها في جلسات القراءة، برغم ما يحدث في السودان من أهوال، لا يعرف أحد حتى الآن متى تنتهي.
من الأسئلة الأخرى المهمة، في لقاء الطلاب، ما نتج من طموح البعض منهم أن يصبحوا كتابا ذات يوم. أكثر من واحد سألوا عن كيفية الحصول على أسلوب مميز للكتابة، وقد أجبت عن هذا السؤال بصعوبة الأمر، إذا كان الكاتب كسولا ويعتمد على موهبته فقط، فلا بد من قراءات كثيرة ومكثفة، وملهمة للأدب وغيره من المعارف، من أجل تكوين الأسلوب. ولعل من الصعوبة الادعاء بأنك كاتب، وأنت مجرد عضو في جوقة موسيقية، لا يعرف من يغني فيها؟ في هذه الحالة، لا ينبغي الكتابة.
هذا الجواب كان ناتجا عن قناعاتي، ولذلك أبحث دائما عن الكتابة المميزة، للاطلاع عليها، ومشاركتها مع آخرين، وربما إضاءتها في مقال، إن كانت في رأيي تستحق.
لقاءات الطلاب في المدارس أمر ممتع للغاية، هنا تحس بأنك تتفاعل ببراءة، ومع أبرياء لا يسألون أسئلة القصد منها إيلامك، أو الاستخفاف بتجربتك، مثل السؤال الذي سأله لي مرة أحد الحاضرين في ندوة عامة: هل أنت روائي حقا؟