كان الاحتكاك الأولي لرجالات النهضة العربية مع الثقافة الغربية مثيراً للدهشة، فقد كان هؤلاء العلماء والفقهاء يواجهون عالماً كانوا هم وحدهم الأولين في طرق بابه، لم يسبقهم إليه النُحاة وعلماء اللغة والمفسرون، فكانوا يواجهون أموراً ومفاهيم غير موجودة في عالمنا العربي القديم، الذي كان منغلقاً على ذاته في انطواء الرجل الحزين على نفسه منتظراً فرجاً من عند ربه، حتى بدأت البعثات العلمية تطرق بوابات العالم الحديث غرباً مثلها مثل تلك البعثات التي أرسلتها اليابان وأرسلتها روسيا والصين.
أرسلت مصر والدولة العثمانية العشرات من البعثات العلمية في محاولة لنقل بعض من علوم وتقدّم الغرب إلى بلادنا، ومنهم طبعاً الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي الذي له حكاية طريفة لا بد من سردها. فقد أرسل محمد علي باشا طلاباً ضباطاً، وهم في معظمهم من أبناء "الذوات"، إلى فرنسا كي ينهلوا من العلوم العسكرية الحديثة، فتعالت الأصوات التي تنتقد إرسال العشرات من خيرة شباب الأمة إلى فرنسا الدولة المشهورة بالفن والرقص والمجون، ما يعني "احتمال فسادهم"، فكان الإلحاح على محمد علي باشا لإلغاء الرحلة، أو موافاة الشبان بحلٍ ما، فهم بلا زوجات وبلا أهل وبلا رقيب، فإختار لهم إماماً أزهرياً كي يرافقهم إلى فرنسا، ويكون مرشداً لهم ليذكرهم بدينهم، ويؤمّهم في صلواتهم وكان هذا الشيخ العظيم الموعود بالخلود الأدبي هو رفاعة رافع الطهطاوي.
وبينما انفلت الطلاب الضباط في باريس ينهلون من لذائذها، كما توقع المتخوفون، انصرف الطهطاوي إلى تعلم الفرنسية حتى أتقنها، ودرس الزراعة الحديثة، وهو من أسرة فلاحية، ودرس الطب الحديث، ثم حين رجع إلى مصر بدأ وضع الكتب في الزراعة والطب والعلوم المستحدثة على العقل العربي. وألف كتابه الشهير "تخليص الابريز في تلخيص باريز" وكان الاصطدام الحضاري المزلزل بين الفرنسية ذات الستة عشر تصريفاً للفعل، ولغة الضاد التي لم تتجدد منذ عشرة قرون وكان على "رفاعة" الأزهري أن يوفق ويحافظ على إيماناته اللغوية، ولغته الجديدة.
وقد عانيت شخصياً لشهر أو أكثر وأنا أحاول فكفكة الترجمة المبكرة التي قام بها الطهطاوي مثل "عشم الخير" أو "الأمل بالخير" باللهجة المصرية من دون أن أصل إلى مدلول الكلمة حتى استجمعت ذاكرتي والسياق المنطقي للكلام، فاكتشفت مدلول الترجمة التي تساوي معنى "عشم الخير" بـ"رأس الرجاء الصالح"، وكذا الحال حينما ذكر الطهطاوي كلمة ليزوتانيا في أكثر من موضع، وظللت في حيرة من أمري حتى اكتشفت معناها الفرنسي المنحول عربياً، وهي الولايات المتحدة الأميركية، لكن بنطقها الفرنسي Les Etats Unis.
الآن فقط، والفوضى ضاربة أطنابها في معظم الدول العربية على كل المستويات السياسية والعسكرية والمذهبية والفكرية، لا يمكن إلا أن نتذكر المرحوم الناقد الفلسطيني السوري يوسف اليوسف حين كتب في مفتتح مقال له في مجلة "المعرفة" في يوم ما من الزمن القديم. كتب اليوسف: "ما أحوجنا اليوم الى الناموس في الخاووس في المصطلحات الترجمية والثقافية"، وكان على الكثيرين العودة الى القاموس حتى يتوصلوا إلى أنه استعمل مصطلحين لم يترجمهما العباسيون واحتفظوا بهما إغريقيَين، وحين عرفنا معناهما يكون مقصده "ما أحوجنا الى النظام والقانون" في زمن الفوضى في كل شيء حتى في الدين، وعرفنا أيضاً لماذا ضربت الفوضى في العباسيين حين لم يلتزموا بالناموس في الخاووس. أما الناموس فهو مصطلح أعجمي يعني القانون، والخاووس كذلك ويعني الفوضى chaos.
والمؤسف أنه ليس في اللغة العربية كلها كلمة تعادل كلمة "القانون" وهي كلمة يونانية ولا كلمة عربية تعادل كلمة "ناموس" اليونانية أيضاً، وكل ما تعارفت عليه اليهودية والإسلام هو كلمة "دين"، لكن الكلمة موشاة بلمسة سماوية أما قانون فكلمة اتفاقية شديدة الأرضية.
أما عن يثرب التي تحولت إلى "مدينة" بعد دخول الرسول إليها، فتعني "الخاضعة للقانون الإسلامي الجديد" أو "الدين" ومن كلمة الدين صاغوا فعلاً بمعنى يخضع للدين هو "دان" ومضارعه يدين، واسم الفاعل منه "دائن" واسم المفعول منه هو مدين، ومؤنثه "مدينة"، مدينة هنا تعني الخاضعة للدين المحمدي الجديد.. فكانت المدينة المنورة.
أما كلمة القرية مشتقة من الفعل قرّ.. أي استقر بالعربية والسريانية القديمة القريبة من العربية، والقرية هي أولى المستقرات التي سكنها الإنسان ومن هذا التعبير اشتقت كلمة قرطاجة أو القرية الحديثة. المدينة مشتقة من الفعل "دان" والتي تعني خضع للدين... الدين هي الكلمة السامية المُساوية لكلمة قانون اليونانية، ولذا سموا القاضي في العبرية "الديان".
ولذلك أطلقت العرب على مكة، وهي القرية التي دانت لعبدة الأصنام قبل الرسالة المحمدية، بـ"أمّ القرى" لا أمّ المدن، أما يثرب وهي القرية الأولى التي خضعت للدين "القانون" فأسموها المدينة المنورة... وهي اسم المفعول من الفعل: دان يدين ودائن ومدين ومدينة أي المقنونة بنظام جديد محكم!