في استفتاء للقرّاء عن الرواية التي يريدون قراءتها، أو كيف يرغبون أن تكون، طالبَ الجميعُ تقريباً الروائيين بأن يعالجوا قضية، دون أن يذكر أيّ واحد من بينهم ما القضية التي تعنيه. وهي محلّ خلاف بين الكتّاب والقرّاء، وبين القرّاء أنفسهم: ما القضية؟ أي قضية هي التي تشكل إجماعاً؟ وكثيراً ما واجه الكتّاب قرّاءً يقولون لهم: "لماذا لا تكتب عن همومنا؟"، وهناك قرّاء لديهم مطالب محدّدة، وبعض هذه المطالب لا يزيد عن كونه مشكلة استهلاكية يمكن حلّها بقرار إداري.
لم يثبت بعد أن القضية هي الجاذب الذي يجعل القرّاء يقبلون على قراءة أي رواية، فالروايات البوليسية مثلاً، ورواية المغامرات، تلاقي إقبالاً أكثر من رواية الأهداف السامية. والروايات التي توصف في أوروبا بـ"البست سيلر" ليست مشغولة بالقضايا الكبرى، وتغلب على معظمها موضوعات أقلّ أهمّية.
وبحسب هارولد بلوم في كتابه "كيف نقرأ ولماذا"، فإن إحدى فوائد القراءة هي أن نعدّ أنفسنا لأن نتغيّر، وهي مسألة بالغة الأهمّية، تضع القرّاء عموماً أمام السؤال الذي يجب أن يواجههم: إذا كنتم تطالبون الكاتب بأن يعبّر عن هذا الموضوع، أو ذاك، من الموضوعات التي تهمّكم ــ الظلم أو الثورة أو أزمة المواصلات، أو رغيف الخبز، أو الحرّية ــ فهل أنتم مستعدّون لأن تتغيّروا فعلاً بعد قراءة كتاب أعجبكم؟ أم أن مهامّ القراءة هي الفحص عن تطابق المقروء مع الرغبات؟
وهناك مَن يقرأ مِن أجل قضاء الوقت، أو من أجل مواجهة العزلة، أو من أجل أن تكون القراءة مشروعاً تربوياً، واللافت أن جهات كثيرة ترغب في أن تتولى هذه المهمّة: المؤسّسات الدينية، والحكومات، والأحزاب الأيديولوجية، حيث كانت القراءة واحدة من أهم وسائل الجذب، إلى صفوفها، أو وسائلها في التربية الحزبية والسياسية. ودور القراءة هنا تغييريٌّ أيضاً، ولكنّه تغيير يأتي من الخارج، ومن دوافع مدبَّرة، وليس حرّاً، من داخل القارئ ومن رغباته، حيث تبدو أقوال هذا المفكّر أو القائد أو ذاك مراجعَ شبه مقدّسة. ويمكن أن نطلق على مثل هذه القراءة اسم "القراءة المِهنية"، ويقول بلوم إنها تحرم القارئ من اللحظة التي نطلق عليها اسم "متعة القراءة".
وفي مقابل القارئ الذي يريد أن يفرض موضوعاته، يظهر اليوم القارئ الذي يفقد رصيده، وفي الغالب فإن كثيراً من القرّاء يخسرون استقلالهم في مواجهة اجتياح وسائل التواصل لعالمهم الشخصي، ولمزاج القراءة. فالضخّ الإعلامي المحبِّذ لكتب معيّنة، ومؤلّفات محدّدة، يسلب المستخدمين قدرتهم على التمييز، أو الانفراد بقراءة خاصّة بعيدة عن الدعاية المسبقة، بينما يتحوّل الكتاب المقصود إلى مرجع فكريّ لديهم.
لا بدّ أن يكون القارئ قادراً على أن يقرأ قراءة إنسانية، بمعنى ألّا تكون المعتقدات المسبقة سبباً في إعاقة الفهم، أو تدمير العلاقة مع الكاتب والكتاب، وبهذا فإن كلّ قارئ، كما يقول بلوم، يجب أن يكون "أكبر من أي أيديولوجيا".
في مواجهة هذا كلّه يأتي دور الكاتب ليسأل: هل تقرأون ما أكتب؟