تخطي إلى المحتوى
أبدع كراوٍ ومؤرخ أدبي... عبدالرحمن منيف.. علامة روائية عربية متفردة أبدع كراوٍ ومؤرخ أدبي... عبدالرحمن منيف.. علامة روائية عربية متفردة > أبدع كراوٍ ومؤرخ أدبي... عبدالرحمن منيف.. علامة روائية عربية متفردة

أبدع كراوٍ ومؤرخ أدبي... عبدالرحمن منيف.. علامة روائية عربية متفردة

لا أحد يجادل في كون، عبدالرحمن منيف، من العلامات الروائية المتميزة في الوطن العربي، والسبب في اعتقادي، يعود أولاً إلى ما يميز خطابه الروائي من جِدّة في البناء، وثانياً إلى الجودة في السبك والحبكة لبنية النص الروائي، وثالثاً في ما يطرحه من قضايا، تبرز التزام الكاتب بما يمور به المجتمع من تحوّلات وهزّات مفاجئة وعنيفة.

إلا أن هذا الارتباط بالواقع، لا يعكسه (منيف) بطريقة تصويرية تفقد السرد انسيابيته التركيبية والأسلوبية، ولكن المزج بين الواقعي والخيالي، أضفى قدرة فائقة في الصوغ الروائي، بابتداع طرق للقول تتأسس على أساس إبداعي صرف، وهنا تتمثل قيمة المبدع الأصيل، وبالتالي اكتست رواياته التي نسجها بمتخيّل واقعي سيري روائي، زاد من عمقها.

ولعل ما يستميل القارئ إلى أعماله السردية، ليس الحكاية، ولكن الكيفية الممتعة ذات المسحة الجمالية التي يبدع بها عوالمه السردية، ذلك أن رواياته لها طعم خاص، ونكهة فريدة، تزيد القارئ عطشاً ورغبة في مطاردة شخصيات، تنتقل من عالم الورق إلى عالم المحسوس، بعبارة أخرى؛ إن القارئ، وهو يتتبع مسارات الشخصيات السردية ويعايشها، ثم يعيشها، يلمس هذه الخصّيصة المميّزة لكتاباته الروائية، ولهذا يعتبره الناقد فيصل درّاج، من الكتاب الذين أبدعوا كراوٍ وكمؤرّخ في آن، ومن أبرزهم في التشبث بالمبادئ والمدافعين عنها، وله جاذبية عند قرائه، لأن عبدالرحمن منيف، يمتلك الاستطاعة في إثارة الأهواء وسلب الإرادة من القارئ، فاللغة الروائية التي يبدع بها، لغة تستبطن دواخل شخصياته وأعماقها الخفيّة، وتشحنها بطاقة جمالية تبئّر الخطاب وتسبغه بعلامة الإبداعية، فيتحول العالم الروائي إلى فضاء تختلط فيه الأزمنة، وتمتزج فيه أرواح وأحلام وهواجس الشخصيات، نتيجة تعرضها لأبشع وأشنع الممارسات اللاإنسانية من لدن جلاديها، فالمعاناة وأساليب التعذيب والقهر النفسي والمحنة الوجودية، تصيّرُها ذواتاً تفتقد إنسانيتها وكينونتها، التي تتعرض للمحو والتشويه، وتلقى في جحيم الصحراء، حيث لا أمل في العودة إلى الحياة من جديد.

لقد خلّف الروائي العربي عبدالرحمن منيف، للمكتبة العربية، ذخيرة روائية تمتاز برؤية عميقة متأصلة ومختلفة للكتابة السردية، تنفتح على أفق الأسئلة الشائكة، التي طرحت بعد هزيمة (1967م)، فتمّ تجاوز الكتابة التسجيلية ذات البعد الواقعي، إلى كتابة تكسّر البناء السردي، مؤسِّسةً لأشكال جديدة محورها الأساس، خرقُ المألوف في الرواية العربية، ولعلّ هذا، في ما نعتقد، من أبرز سمات روايات ما بعد الهزيمة، فالروائي العربي لم يعد منشغلاً بقضايا الواقع، وإنّما انكفأ حول ذاته للتعبير عن التمزّق والتشظي والتوتر والصراع مع هذا الواقع المتشرذم. هذه الرؤية الانشطارية، المنعكسة في المتن الروائي عند (منيف)، بدءاً من روايته الأولى (الأشجار واغتيال مرزوق)، تؤسس لخطاب روائي، عماده النقد الكاشف عن مكامن الخلل في علاقة الإنسان العربي مع السلطة، وأعطابه المتفاقمة والمثيرة للأسئلة والاحتمالات، فبطلا الرواية: إلياس نخلة، ومنصور عبدالسلام، نموذجان يحيلان على علاقة الصراع القائم بين موقفين، الموقف الأول الرغبة في التحرر من كل الأغلال، التي تكبّل الإرادات لمعانقة الحرية والحياة، في ظل العدالة، والثاني التشبث بتكريس واقع الحال، فمسار الشخصيتين يثبت أن الخسارة كانت حليفة لهما، إذ فقدا معاً الأشجار، فالخيبة والضياع والتيه، الهوية السردية للخطاب الروائي عند منيف.

أما في رواية (شرق المتوسط)، فالروائي، من خلال شخصيته الرئيسة (رجب)، واقع الممارسة السياسية في العالم العربي، الموسوم بسيادة الظلم والجور والاختناق، والمتجسّد في مدينتين خياليتين هما: موران وعمورية، حيث معالم الاعتقال السياسي، اللسان المفصح عن خيبة أمل شباب متحفّز للحرية والعدالة والمساواة، في وطن تتسع فيه مساحات السجون وتضيق فيه أرض الحياة.

ونجد رواية (عالم بلا خرائط)، التي كتبها مع الروائي والمترجم الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، مليئة بالأحداث والوقائع المتداخلة المتشابكة، التي تبيّن أوج الصراع بين ذهنيتين مختلفتين متناقضتين؛ ذهنية ماضوية، وذهنية آنية، تعريان بفعل الحب والجريمة الواقع السياسي الموبوء في مدينة عمورية، وعنوانها يكشف عن حقيقة العوالم السردية القائمة في خطاب هذه الروائية، حيث تنعدم البوصلة ويغيب الحق خلف ليل الجَوْر.

لكن خطاب رواية (حين تركنا الجسر)؛ يجسد صراع الإنسان مع ذاته ومع الوجود، ويقدّم عالماً روائياً نفسياً، فهو يتحدث عن صياد وبطة وكلب، لتصبح هذه الشخصيات حكيماً ووزيراً وملكة، وأعتقد أنه مسخ روائي مفارق بالنسبة إلى شخصيتَي البطة والكلب، وهنا نجد (منيف) يؤنسن هذين الكائنين، والغاية من وراء ذلك، الكشف عن عوالم الإنسان وتناقضاتها المثيرة للحيرة والجدل.

وفي رواية (سباق المسافات الطويلة)، تمنح القارئ عالماً صفته النفاق وارتداء الأقنعة، وفق سياقاتها الحكائية، عبر الحديث عن شخصية (بيتر)، التي توجد في أحد بلاد الشرق، ترتقب انهيار سلطة إمبراطورية، فيه كناية عن الرغبة في الاستحواذ على الشرق الأوسط، لنهب خيراته والنيل من حضارته، وهذا الخطاب أعلنت عنه شخصيات الرواية بلغة سردية منتقدة لهذا الواقع.

غير أن خماسيته الروائية (مدن الملح)، والتي تتشكّل من (التيه) و(الأخدود) و(تقاسيم الليل والنهار) و(المنبت) و(بادية الظلمات)، فيمكن عدّها ملحمة روائية قلّ مثيلها في الكتابات الروائية العربية، سواء من حيث البناء النصي، أو الموضوعات المعالجة والرؤية المؤطّرة للكتابة الروائية، فالجدّة والخرق والابتداع، من سمات خطابها الروائي، إضافة إلى اعتمادها على المعطيات التاريخية، كمقوم من مقومات الرواية/ الملحمة، فعبْرها يقف القارئ العربي على أهم الإبدالات والتغيرات، التي طرأت على المجتمع العربي، وآثارها في المدن والقرى العربية، وعلى الإنسان والمجتمع، تصور السلطة وأهلها والصحراء العربية، بأسلوب سردي أخّاذ مدهش ومغرٍ بالحياة، في تلك العوالم السردية الغامضة والملتبسة.

إن الجرد الموضوعاتي للمنجز الروائي لعبدالرحمن منيف، يمنح القارئ رؤية شاملة حول الخطاب الروائي، الذي يؤسسه الكاتب، ويبرز أهم الانشغالات التي تميز كتاباته، والتي تتجلى في البعد الإنساني، فجل الروايات تدور حول القيم النبيلة؛ من حرية وعدالة وديمقراطية ومساواة، التي آمن بها منيف وجسّدها في حياته وإبداعه، كما يبين الانحياز التام للإنسان في امتداداته البدوية والحضرية والعالمية. ويمكن التأكيد أن عبدالرحمن منيف، شاهد عصره ومبدعه، لا لشيء، إلا لقدرته على التقاط نبض الواقع بتمفصلاته وتشعباته، بتعقيداته وبناه العقلية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وقد كان مبدعاً مفلقاً في تشكيل الواقعي بالتاريخي، والخيالي بالأسطوري، بنكهة ساخرة تعرّي المسكوت عنه في المجتمع العربي.

وهنا، لا بد أن نشير إلى أن الروائي عبدالرحمن منيف، لم يقتصر على الكتابة الروائية، بل انفتح على آفاق جنس المقالة، للتعبير عن وجهات نظره فيما يعرفه المجتمع العربي من أحداث وارتجاجات، فكان صوته الصادح من أقوى الأصوات المعبّرة عن رأيها بكل جرأة، وبعمق وأصالة في الرؤية والتصور.

المصدر: 
مجلة الشارقة الثقافية