تخطي إلى المحتوى
3/3  بمناسبة اليوم العالمي للمرأة  أميرة وهابية تهزم الجيش المصري وسلطانة تنهي الحروب الصليبية وملكات 3/3  بمناسبة اليوم العالمي للمرأة  أميرة وهابية تهزم الجيش المصري وسلطانة تنهي الحروب الصليبية وملكات > 3/3  بمناسبة اليوم العالمي للمرأة  أميرة وهابية تهزم الجيش المصري وسلطانة تنهي الحروب الصليبية وملكات

3/3 بمناسبة اليوم العالمي للمرأة أميرة وهابية تهزم الجيش المصري وسلطانة تنهي الحروب الصليبية وملكات

خبرة ملهِمة
شكّلت سابقةُ ملكة سبأ -كما سبق ذكره- ذاكرةً سياسية قوية للمرأة اليمنية ظلت تشدها وتغذي طموحها إلى عرش السلطة وتولي تدبير الممالك؛ فكانت بلقيس نموذجا يمنيا حيا للاقتداء والمقارنة بدليل قول الشاعر اليمني عمرو بن يحيى الهيثمي (ت بعد 460هـ/1068م): قلتُ إذ عَظّموا لبلقيسَ عرشاً: ** دَسْتُ أسماءَ من ذُرى النَّجْم أسْمَى!!

وأسماء المقصودة هنا هي أسماء بنت شهاب الصُّلَيْحي (ت 479هـ/1086م) زوجة علي بن محمد الصليحي (ت 460هـ/1068م) مؤسس الدولة الصليحية باليمن، وقد "كَانَت من أعيان النِّسَاء وحرائرهن وكرائمهن، بِحَيْثُ تُقْصَد وتمدح..، وَكَانَ الصليحي لما تحقق كمالها وكل إليها التَّدْبِير وَلم يكن يُخَالِفهَا فِي غَالب أمرهَا، وَكَانَ يُجلها إجلالا عَظِيما، حَتَّى كَانَت مَتى حضرت مَجْلِسا لَا تستر وَجههَا بِشَيْء عَن الْحَاضِرين..، وفيهَا من الحزم وَالتَّدْبِير مَا لم يكن فِي نساء زمانها"؛ حسبما في ’السلوك في طبقات العلماء والملوك’ لمحمد بن يوسف الجندي اليمني (ت 732هـ/1332م).

وقد وقعت الملكة أسماء في الأسر لما قَتَل أمراءُ زَبيد بنو نجاح الحبشي زوجَها وأخاه وهم في طريقهم قادمين من الحج سنة 460هـ/1068م واحتزّوا رأسيهما، وذهبوا بأسماء إلى عاصمتهم زَبِيد.

في زبيد أخضعت أسماء للإقامة الجبرية "ووُكِّل بهَا مَنْ يحرسها..، فاحتالت وكتبت إلى ابْنهَا المكرّم تحضه على قتالـ[ـهم]..، ثمَّ جعلت الْكتاب فِي رغيف ودسته إلى فَقير وأمرته بإيصاله إلى وَلَدها المكرّم (أحمد بن علي ت 484هـ/1091م)، فَحَمله فحين وصل الْكتاب إلى المكرم.. خرج من فوره من صنعاء فِي ثَلَاثَة آلَاف فَارس"، ثم دخل زبيد وحرر والدته من أسر النجاحيين؛ طبقا للجندي في ’السلوك’.

وترسيخا للريادة اليمنية في حكم النساء؛ كان علي بن محمد الصليحي "يجل" زوجة ابنه أحمد المكرّم السيدة الحرة بنت أحمد الصليحية (ت 532هـ/1138م)، المشهورة بـ"أروى" أو "بلقيس الصُّغْرَى لرجاحة عقلهَا وَحسن تدبيرها للْملك وَغَيره"؛ وفقا للجندي الذي يصف ثقافتها فيقول إنها "كانت قارئة لكتاب الله تعالى، حافظة لكثير من أشعار العرب، عارفة بالتاريخ، تُفضّل بالمعرفة على كثير من الملوك"!!

 

تجربة متوارثة
وهكذا خطت المرأة الصليحية خطوة أوسع في ممارسة السلطة؛ إذْ لم تكتف أروى بالمشاركة في القرار السياسي كما فعلت أسماء مع زوجها، بل تولت السلطة بنفسها حين مات زوجها أحمد المكرّم الصليحي.

وكان الصليحي الوالد "يأمر أَسمَاء بإكرامها وَيَقُول هِيَ وَالله كافلة ذرارينا وحافظة هَذَا الْأَمر على من بَقِي منا"، وقد تحققت فراسته فأوكل إليها المكرم "تَدْبِير ملكه.. فاستعفته.. فَلم يفعل"، وسبب استعفائها ما تعرفه في أحوال اليمن أيامها من اضطرابات.

ولم تهدأ نفس الحرة أروى حتى ثأرت لأصهارها فقتلت قاتل والد زوجها وآسر حماتها، وكانت تقيم مُلكَها "بِرَجُل يذبُّ عَنْهَا"؛ طبقا للجندي في ’السلوك’. وبذلك استمر حكمها زهاء خمسين سنة (484-532هـ/1091-1138م) ظلت فيها تتبع -سياسيا ومذهبيا- لمركز الدولة الفاطمية الشيعية في مصر.

استمرت التجربة اليمنية النسائية في الحكم بعد الدولة الصليحية، لكنها انتقلت هذه المرة إلى بلاطات أسَر الحُكم السُّنية الانتماء في عهود متعددة من التاريخ السياسي لليمن؛ ففي عصر التوسع الأيوبي إلى اليمن كانت والدة الملك الناصر أيوب ابن سيف الإسلام طُغْتِكِين (ت 611هـ/1214م) ملك اليمن قد "تغلبت على زبيد وضبطت الأموال، وبقيت متلفتة إلى مجيء رجل من بني أيوب ليقوم في المُلك وتنقاد له الأمراء، وذلك في حدود نيف وستمئة" أي نحو 1209م.

"فبعثت إلى مكة من يكشف لها الأمور، فوقع مملوكها بسليمان شاه، فسأله عن اسمه ونسبه فأخبره، فكتب إليها، فطلبته فسار إلى اليمن، وقدم على أم الناصر فتزوجته وملّكته، وعظُم شأنه إلا أنه ملأ البلاد ظلما وجورا، واطّرح زوجته وأعرض عنها وتزوج عليها"؛ كما في ’تاريخ الإسلام’ للذهبي.

كما لم تخلُ الدولة الرسولية في اليمن من سيدة ذات علاقة بالحكم والشأن العام؛ فهذه الأميرة الدار الشمسي (ت 695هـ/1296م) ابنة السلطان الملك المنصور عمر بن علي بن رسول (ت 648هـ/1250م)، وكانت "امرأَة عاقلة عفيفة حازمة لبيبة، وكانت تحب أخاها المظفر (ت 694هـ/1295م) حبّاً شديداً"؛ طبقا للمؤرخ موفق الدين الخزرجي الزَّبيدي (ت 812هـ/1409م) في ’العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية’.

ومما يدل على دهاء هذه الأميرة أنها أدارت أزمة شغور منصب رأس السلطة الناجمة عن وفاة والدها في غياب ولي عهده أخيها المظفر، "فشمّرت وبذلت الأموال للرجال وحفظت المدينة حتى وصل أخوها من المهجم (= منطقة الحُدَيْدَة) إلى زبيد ملكها فهي أول مدينة ظهر فيها ملكه، ثم كانت هي السبب في أخذ الدملؤة (= قلعة على جبل)..، ولذلك كان يبرّها ولا يخالف لها رأْياً".

 

حقبة فارقة
بوفاة آخر سلاطين الدولة الأيوبية بمصر الصالح نجم الدين أيوب (ت 647هـ/1249م)، ومقتل ولي عهده وابنه الوحيد تُورانْشاه (ت 648هـ/1250م) على أيدي المماليك الذين أدركوا خطره على نفوذهم؛ سرعان ما "اتفق أهل الدولة على إقامة شجرة الدر بنت عبد الله (أرملة السلطان أيوب المتوفاة 655هـ/1257م).. في مملكة مصر"؛ حسبما يفيدنا به القاضي المؤرخ تقي الدين المقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘.

ومن لحظة ارتقاء "عصمة الدين شجرة الدر" إلى سدّة العرش بالقاهرة؛ بدأت بالفعل دولة سلاطين المماليك طبقا لرأي المقريزي الذي يقول في تاريخه ‘السلوك‘: "وهذه المرأة -شجرة الدر- هي أول من ملك مصر من ملوك الترك المماليك"!!

ويحدثنا مؤرخ الدولة الأيوبية ابن واصل الحموي (ت 697هـ/1298م) -في ‘مفرج الكروب بأخبار بني أيوب‘- بأن شجرة الدر "دُعي لها باسم السلطنة بديار مصر، وخُطب لها على المنابر مدة ثلاثة أشهر، ولم يَجْرِ هذا في الإسلام"!!

وهكذا أصبحت شجرة الدر أول امرأة تتولى سدة الحكم منفردةً -ودون وجود أي حاكم صوري يخطب باسمه- في دولة سنية مركزية مثل مصر، والثانية التي تفعل ذلك على مستوى العالم الإسلامي بعد سابقتها الملكة اليمنية أرْوَى الصُّلَيْحِية التي مرّ ذكرها. وبذلك ندرك عدم دقة التعميم الذي أطلقه ابن واصل الحموي بقوله إن حدث تولية شجرة الدر "لم يَجْرِ.. في الإسلام"!!

ورغم أن حكم شجرة الدر المنفرد لم يكن يشكّل سابقة تاريخية من نوعه في العالم الإسلامي؛ فإنها أُجبِرت جرّاء ضغط الرأي العام الرافض لتوليها قيادة البلاد، ومناهضة أمراء الأيوبيين في الشام لحكمها، على التنازل لزوجها الجديد عز الدين أيْبَكْ التركماني (ت 655هـ/1257م) ليكون أول سلطان مملوكي في دولة المماليك الناشئة.

وفي ذلك يقول ابن خلدون في تاريخه: "استقلت الدولة بمصر للتُّرك، وانقرضت منها دولة بني أيوب بقتل المعظّم [تورانشاه] وولاية المرأة وما اكتنف ذلك؛ فامتعضوا (= الأمراء الأيوبيين) له..، واتصل الخبر بمصر وعلموا (= قادة المماليك) أن الناس قد نقموا عليهم ولاية المرأة (= شجرة الدر)، فاتفقوا على ولاية زعيمهم أيْبَكْ.. فبايعوا له -وخلعوا أم خليل- ولقّبوه بالمُعِزّ، فقام بالأمر وانفرد بمُلك مصر".

وبذلك انتهت تجربة سلطنة شجرة الدر التي لم تعمّر إلا أشهرا، وإن كانت نجحت -قُبيلها وأثناءها- في قيادة البلاد وسط ظروف عاصفة، طبعتها أجواء الوفاة المفاجئة لزوجها السلطان القوي وهو ينازل الحملة الصليبية السابعة في شمالي مصر سنة 647هـ/1249م، والتي تمكنت هي من إدارة وقائعها بحكمة وإحكام، فقد "أبلى أمراء الترك.. بلاءً حسنا، ووقفوا مع شجرة الدر زوج السلطان تحت الرايات ينوّهون بمكانها، فكانت لهم الكَرّة وهزم الله العدو"؛ حسب ابن خلدون.
نموذج نادر
توصلت شجرة الدر إلى تسوية مع الصليبيين تقوم على مقايضة تسليمهم دمياط والجلاء عن مصر بالإفراج عن قائد حملتهم ملك فرنسا لويس التاسع (ت 669هـ/1270م). وعن هذا الإنجاز العسكري التاريخي -الذي شكل نهاية الحملات الصليبية على منطقة مصر والشام حتى عصر الاستعمار الأوروبي الحديث- وربطه بتولية شجرة الدر السلطة؛ يقول ملك حماة الأيوبي المؤرخ أبو الفداء عماد الدين (ت 732هـ/1332م) في كتابه ‘المختصر في أخبار البشر‘:

"خُطِب لشجرة الدر على المنابر، وضُرِبت السكة (= نقود العُمْلة) باسمها، وكان نقش السكة: «المستعصمية الصالحية، ملكة المسلمين، والدة المنصور خليل». ولما استقر ذلك (= توليها الحكم)؛ وقع الحديث مع ريد إفرنس (= ملك فرنسا) في تسليم دمياط بالإفراج عنه... فسلموها... وأطلق ريد إفرنس، فركب في البحر بمن سَلِمَ معه..، ووردت البشرى بهذا الفتح العظيم إلى سائر الأقطار"!!

كما كانت مدة حكم شجرة الدر فاتحة لحقبة تاريخية مركزية في تاريخ الإسلام، أعقبت ضياع عاصمة الخلافة بغداد تحت سنابك خيل المغول سنة 656هـ/1258م؛ إذْ تسلّم فيها سلاطين طبقة المماليك (49 سلطانا) مقاليدَ السلطة في قلب العالم الإسلامي، مؤسسين بذلك دولتهم التي أخذت على عاتقها مهمةَ قيادة هذا العالم بأضلاعه المركزية الثلاثة (الحجاز ومصر والشام)، وحماية الحرميْن الشريفين والمسجد الأقصى المبارك طوال نحو ثلاثة قرون (648-923هـ/1250-1517م).

وفي مطالع القرن التاسع الهجري/الـ15م؛ نلاقي مثالا فريدا من نوعه لتولي النساء السلطة استقلالا في العراق، فيما يبدو أنه استنساخ للتجارب اليمنية والمصرية المملوكية، خاصة أن صاحبتها السلطانة المغولية تندو (ت 822هـ/1419م) ابنة السلطان حسين بن أويس (ت 784هـ/1382م) كانت "قدمت مع عمها أحمد بن أويس (سلطان العراق ت 813هـ/1410م) إلى مصر فتزوجها الظاهر برقوق (السلطان المملوكي ت 801هـ/1398م) ثم فارقها"؛ وفقا للإمام السخاوي (ت 902هـ/1497م) في ‘الضوء اللامع‘.

ويضيف السخاوي أن تندو هذه "كانت بارعة الجمال.. فتزوجها ابن عمها شاه ولد.. (ت 814هـ/1411م)، فلما رجعوا إلى بغداد ومات [عمها] أحمد أقيم شاه ولد في السلطنة، فدبّرت (= تآمرت) عليه زوجته هذه حتى قُتل وأقيمت في السلطنة.. واستقلت بالمملكة مدة، وذلك في سنة تسع عشر (819هـ/1416م)".

ثم يكشف لنا هذا الإمام عن توسع ملك السيدة تندو جنوبي العراق وشماليه، ونيلها كل مظاهر الشرعية التي تعطى للملوك والسلاطين من الرجال؛ فقد "صار في مملكتها الجزيرةٌ [الفراتية] وواسط، يُدعَى لها على منابرها وتُضرَب السكة باسمها إلى أن ماتت"، وكانت مدة حكمها منفردة في السلطة ثلاث سنوات.

 

نماذج متأخرة
تواصلت ظاهرة السلطنة النسائية في العالم الإسلامي حتى العصر الحديث؛ فكان من نماذجه المعبّرة زمانا ومكانا الأميرة العربية غالية البقمية (ت بعد 1230هـ/1815م)، التي تنتمي إلى قبيلة البقوم المتوطنة في الحجاز بالقرب من الطائف مما يلي منطقة نجد.

ولعل أول من كتب -في المصادر العربية- عن هذه الأميرة الحجازية -ذات الدور المثير للعجب- هو مؤرخ قبائل الجزيرة العربية المعاصرة محمد بن حمد البسام التميمي النجدي العراقي الأصل (ت 1246هـ/1830م).

فقد سجّل -في كتابه ‘الدرر المفاخر في أخبار العرب الأواخر‘- معلومات قيمة -وهو معاصر لأحداثها- عن هذه السيدة وزعامتها لقومها، والدور التاريخي الذي أسهمت به في لحظة تاريخية مفصلية، طبعها الصراع الدامي بين جيوش الأمير السعودي ووالي مصر العثمانية محمد علي باشا (ت 1265هـ/1848م) وقادته العسكريين في الحجاز.

فأثناء حديث البسام عن قبائل الحجاز؛ قال: "ومنهم ‘البُقُوم‘، ولكن الحاكمة عليهم امرأة اسمها ‘غالية‘، ذات رأي وتدبير وحزم وشجاعة لم يُدركها أشدُّ الرجال، وهذه المرأة المذكورة في القلعة المسماة: ‘تُرَبَة‘. وأما بلدها فبلد واسعة أرزاقها تأتيها من الطائف ومن مكة المشرفة".

كما ترجم لها المؤرخ خير الدين الزِّرِكْلي (ت 1396هـ/1976م) -في كتابه ‘الأعلام‘- فوصفها بأنها "اشتهرت بالشجاعة ونُعتت بالأميرة. كانت أرملة رجل من أغنياء البُقُوم من سكان تُرَبَة على مقربة من الطائف من جهة نجد".

ثم يوضح حساسية موقع هذه القبيلة في الجغرافيا السياسية لممالك تلك الأيام، فيقول: "وكان أهل تُرَبَة أسبق أهل الحجاز إلى موالاة نجد، واتبعوا مذهب ‘الحنابلة‘ الذين سماهم الترك -ثم الإفرنج- بالوهابية. ولأهل تُرَبَة مواقف معروفة فيما كان من الحروب بين النجديين والتُّرك والهاشميين".

ويقدم لنا الزركلي وصفا لإسهام الأميرة غالية البقمية في تلك الحروب التي تواصلت ثلاث سنوات ما بين 1227هـ/1812م-1230هـ/1815م، وصدت فيها غالية بدهائها وثباتها ثلاث حملات مصرية عثمانية على منطقتها التي كانت تشكل بوابة إستراتيجية إلى بلاد نجد.

يقول الزركلي ناقلا عن أحد مصادره: "لم يحصل من قبائل العرب القاطنين بقرب مكة مقاومة أشد مما أجراه عرب البُقُوم في تُرَبَة..، وقائد العربان في ذلك الوقت امرأة أرملة اسمها غالية كان زوجها أشهر رجال هذه الجهة، وكانت هي على غاية من الغنى، ففرقت جميع أموالها على فقراء العشائر الذين يرغبون في محاربة التُّرك، واعتقد المصريون أنها ساحرة!! وأن لها قدرة على إخفاء رؤساء الوهابيين عن أعين المصريين!!..، وكان العرب محافظين على أسوار المدينة بشجاعة، ومستبشرين بوجود غالية معهم، وهي المقدمة عليهم"!!

 

محطة مفصلية
وبأسف بالغ؛ رصد المؤرخ المصري الذي كان شاهدا على ذلك العصر عبد الرحمن الجَبَرتي (ت 1237هـ/1825م) -في تاريخه ‘عجائب الآثار‘- هزائم الجيش المصري العثماني أمام هذه السيدة العربية؛ فقال إن قواته بقيادة مصطفى بك (ت بعد 1229هـ/1814م) توجهت في 2 صفر 1229هـ/1814م "من الطائف إلى ناحية تُرَبَة والمتأمّر عليها امرأة، فحاربتهم وانهزم منها شر هزيمة، فحنق عليه الباش" محمد علي والي مصر.

ويضيف الجبرتي أنه في جمادى الأولى من السنة نفسها أعادت القوات المصرية -تحت قيادة جديدة تولاها القائد طوسون باشا (ت 1231هـ/1816م)- الهجوم على "ناحية تُرَبَة التي بها المرأة التي يقال لها ‘غالية‘، فوقعت بينهم حروب ثمانية أيام، ثم رجعوا منهزمين ولم يظفروا بطائل"!!

وأمام تلك الهزائم المتتالية؛ قرر والي مصر القوي محمد علي باشا قيادة جيشه بنفسه لمنازلة الإمارة البقمية الصغيرة، كما يقول حمد البسام النجدي الذي دوّن ملابسات هذه المعركة الأخيرة الفاصلة؛ كاشفا عن سعي هذه الأميرة البدوية لحماية إمارتها الصغيرة بمحاولتها الذكية استثمار الصراع بين أكبر قوتين إقليميتين في الجزيرة العربية آنذاك.

فقد ذكر أنه لما وصل والي مصر إلى منطقة الأميرة غالية وحاصر حصنها "أبت الطاعة له والدخول تحت أمره، فبعثت إلى الوهابي (= الأمير عبد الله بن سعود ت 1234هـ/1819م) تستنجد وتستعينه على مصادمة الوزير (= محمد علي) وتعرّفه بهمته وعزمه، وأنه لا بد مُنازلها (= مُحاربُها)، فبعث الوهابي إليها أخاه فيصل (= فيصل بن سعود الكبير ت 1233هـ/1818م) في أربعين ألفا..، فلما قدم فيصل إليها بعدده فإذا هي في أتم التأهب".

لكن موازين القوة غير المتكافأة أدت إلى هزيمة جيش غالية وحلفائه السعوديين في هذه الوقعة الحاسمة التي تسمى في التاريخ السعودي بـ"معركة بسل".

والطريف أن الجبرتي يصف أجواء الاحتفالات الرسمية والشعبية التي عامت عاصمة مصر العثمانية بانتصار جيش محمد علي -الذي كان بعض ضباطه من الإنجليز وفقا للزركلي- في حملته الأخيرة على "الإمارة البقمية" الصغيرة، وكأنما كان ذلك الانتصار هزيمة لجيوش جرارة كانت تدافع عن عاصمة إمبراطورية عريقة راسخة الأركان!!

فمؤرخ مصر الشهير يذكر أنه في 9 من ربيع الأول 1230هـ/1815م "وصلت قافلة طياري من الحجاز.. وعلى يدهم مكاتبات وفيها الأخبار والبشرى بنصرة الباشا على العرب، وأنه استولى على ‘تُرَبَة‘ وغنِم منها جمالا وغنائم وأخذ منهم أسرى، فلما وصلت الأخبار بذلك انطلق المشرّدون إلى بيوت الأعيان لأخذ البقاشيش، وضربوا (= العساكر) في صبحها مدافع كثيرة من القلعة" ابتهاجا بهزيمة السيدة غالية البقمية!!

وعن مصير هذه الأميرة الحجازية؛ يروي لنا المؤرخ حمد البسام الخلاف القائم في ذلك بين الرواة، لكنه يرجّح القول القاضي بـ"أنها لما انهزم فيصل وأيقنت [غالية] بالقهر أخذت ماعزاً وتوجهت إلى بلد الوهابي المسماة ‘الدرعية‘..، وملك الوزير (= محمد علي باشا) أرضها وديارها وأموالها، وأما عدد عساكرها فسبعة عشر ألفا ولم يتبعها منهم أحدٌ"!!

وهكذا أزاحت معركة بسل أخرى العقبات أمام تقدم القوات المصرية العثمانية نحو معاقل الدولة السعودية الأولى، فتسنى لها خلال ثلاث سنوات فقط غزو معاقلها واجتياح عاصمتها الدرعية سنة 1233هـ/1818م، لتتقوض بذلك دعائمها وينتهي مصير أميرها عبد الله بالإعدام في العاصمة العثمانية إسطنبول بعد فترة اعتقال وجيزة قضاها بمصر، وكأنما كانت الأميرة غالية البقمية حصنا منيعا أمام هذا السقوط المدوّي الذي ظلت أصداؤها تتردد عقودا في أرجاء بلاد العرب!!
تجارب خاتمة
ويقودنا الرصد التاريخي -في موضوعنا هذا- إلى ما يبدو أنه آخر نماذجه التاريخية في نهاية النصف الثاني من القرن الـ14هـ/أوائل القرن الـ20م، أي قبل نحو قرن من الآن وتحديدا سنة 1348هـ/1930م، وإلى الشرق قليلا من شبه الجزيرة العربية حيث مملكة بهوبال الإسلامية الصغيرة وسط شبه القارة الهندية.

وبمثل غرابة الدور الذي أدته الإمارة البقمية السالفة الذكر، وقريبا من تاريخ سقوطها؛ تعاقبت على ملكة بهوبال عدة ملكات كانت إحداهن تعقب الأخرى على العرش. وهو ما سنلخص القول فيه هنا اعتمادا على مؤرخ أعلام الهند الإسلامية شيخ الإسلام عبد الحي بن فخر الدين الحسني (ت 1341هـ/1922م) في كتابه ‘نزهة الخواطر‘، وهو والد العلامة الشهير أبي الحسن النَّدْوي (ت 1420هـ/1999م).

فمن أشهر سلطانات بهوبال الملكة المثقفة شاهجهان بيكم/بيغَم (ت 1319هـ/1901م) التي هي إحدى بنات السلطان جهانكير محمد خان (ت 1263هـ/1846م)، ويصفها المؤرخ الحسني بأنها "الملكة الفاضلة الباذلة".

ثم يضيف أنها تولت السلطة سنة 1263هـ/1846م خلفا لوالدها، فـ"جلست مجلس أبيها نواب جهانكير محمد خان بالاستحقاق من غير شقاق وهي ابنة تسع سنين..، وأتت إليها خلعة فاخرة من جهة ملكة بريطانيا" فيكتوريا (ت 1319هـ/1901م) التي كانت الهند حينها منضوية تحت لواء تاجها الاستعماري.

تولت الوصاية عليها والدته سكندر بيكم (ت 1285هـ/1868م) التي كانت الحاكمة الفعلية للبلاد، وفي كنفها تربت ابنتها شاهجهان التي تفرغت للتعلم حتى "حصلت الفنون وتعلمت الخط والكتابة واللغة الفارسية والإنشاء والشعر، واستفادت أدب الرئاسة والسياسة حتى برعت في ذلك الأقران، وامتازت بينهم في القدرة على ترجمة القرآن، وتحرير الرسائل الدينية، وتقرير المسائل الدولية"!!

وفي الثانية والعشرين من عمرها؛ تنازلت شاهجهان عن الحكم رسميا سنة 1276هـ/1858م و"فوضت عنان الرئاسة إلى أمها، واكتفت لنفسها بولاية العهد"؛ لكنها استعادت زمام الحكم لنفسها -بعد نحو عشر سنوات- إثر وفاة أمها فـ"جلست على مسند الرئاسة" حتى لحظة وفاتها.

وفي سنة 1288هـ/1871م تزوجت شاهجهان بعلّامة الهند صدّيق حسن خان الحسيني (ت 1307هـ/1890م) فكوّنا بذلك أسرة علمية حاكمة، مما قاد سلطنتهما الصغيرة إلى إطلاق نهضة علمية كبيرة برعاية الملكة، التي "أنفقت مالا عظيما على طبع المصحف والتفسير والحديث واللغة وغيرها من العلوم والفنون، وأسست المدرسة الجهانكيرية على اسم أبيها بدار ملكه".

وقد أسفرت هذه الحركة الثقافية عن إحياء عظيم للتراث العربي الإسلامي بطباعة ونشر الكثير من مؤلفاته، وسرعان ما عمّت ثمارها وانتشرت أنوارها ليس في الهند فحسب وإنما في كبريات الأقطار العربية والإسلامية، فاستحقا بذلك وصفهما بأنهما "نَيِّرا الهند بل قمرا الشرق والغرب"؛ وفقا للأديب واللغوي اللبناني أحمد فارس الشدياق (ت 1301هـ/1884م) في كتابه ‘الجاسوس على القاموس‘.

وحسب الحسني؛ فقد عُرفت شاهجهان -في بلادها وخارجها- بأنها "صاحبة الفضل والكرم وربة النِّعَم، عمرت الديار وأحيت المدارس العلمية، وبنت المساجد العظيمة، وقررت الوظائف الفخيمة، وحفرت الآبار وغرست الحدائق والأشجار، وأحدثت العمائر الكبار، وأسبلت ذيول المنح والعطايا على أهل الفضل من أهل الهند، وأهل الحرمين الشريفين واليمن والعراق والشام وغيرها من البلاد".

ومن مواقفها في السياسة الخارجية دعمُها للدولة العثمانية في حروبها؛ فقد ذكر الشدياق أنها أمرت خلال تلك الحروب بـ"إعانة الدولة العلية (= العثمانية) بمبالغ وفيرة، مما دل على جلالة قدرها وعظم برها".

وقد نالت مقابل هذا الدعم تكريما عظيما من آخر السلاطين العثمانيين الأقوياء عبد الحميد الثاني (ت 1336هـ/1918م)؛ ففي سنة 1296هـ/1879م "ورد مثالان (= ميداليتان) عظيمان على اسمها، مع نيشان من الدرجة العليا -التي يقال لها ‘شفقة‘- من جهة السلطان عبد الحميد خان الغازي ملك الدولة العثمانية"؛ طبقا للحسني.

توفيت شاهجهان فخلفتها على عرش مملكتها ابنتها سلطان جهان بيكم (ت 1348هـ/1930م) التي "نشأت في مهد السلطة، وقرأت القرآن وترجمته..، وتعلمت الخط والكتابة، واللغة الفارسية والإنكليزية"؛ كما يوري المؤرخ الحسني.

أما في مجال التدبير السياسي وفن الحكم؛ فإن سلطان جهان "استفادت السياسة والرئاسة من جدتها سكندر بيكم"، وما إن توفيت والدتها شاهجهان حتى كانت مؤهلة لخلافتها على العرش، فـ"جلست على مسند الرئاسة.. فأخذت عنان السلطة بيدها الكريمة، وافتتحت الأمر بالكياسة والسياسة والرفق وحسن المعاملة".

سارت سلطان جهان على خُطَى والدتها في تنمية سلطنتها عمرانيا وثقافيا؛ ولذلك "تقدمت الإمارة في عهدها في المدنية والرفاهة والتنظيم، وشجعت على نشر المعارف وساعدت في المشاريع التعليمية وتأليف الكتب المفيدة..، واختيرت رئيسة للجامعة الإسلامية بعَلِيكْرَه" ذات الصيت الواسع في شبه القارة الهندية!!

المصدر : الجزيرة