مبتدئ في مهنة المتاعب. تحميه ثقته بمعلوماته وهويته المتخفية. لم يخض ما خاضه زملاؤه الصحافيون من معارك وحروب. لم يُسجن، ولم يتعرّض للمساءلة. لم يقف طويلا في المطر والبرد. لم يتسمر عمرا في قاعات الانتظار. لم يمطر مصادره بالاتصالات والرسائل.
يمتلك خبرتهم وذاكرتهم. لا بل يتفوق على بعضهم بسعة اطّلاعه وبمخزون ثري من المعرفة في كل المجالات التي تخطر على بال، من السياسة إلى الاقتصاد وعلم الاجتماع والفلسفة والعلوم والثقافة والأدب والفن والدين، حتى أنه ينظم قصائد موزونة، ويجود في المديح ويغرق في الذم ويتنقّل بين شتّى المواضيع بسلاسة وإتقان.
ليس منبوذا من دون قراء ومتابعين وموالين. لا يعيش في جزيرة معزولة. جمهوره وصل إلى أرقام قياسية. 100 مليون "قارئ" خلال شهر واحد. الرقم نفسه احتاج "تويتر" إلى خمس سنوات كي يحققه، بينما لم يتمكن "فيسبوك" من تحقيقه قبل مرور أربع سنوات على ظهوره.
"زميلنا" الجديد هو "تشات جي بي تي". قلت له، إنني أرغب بكتابة مقال عنه. اعتبر ذلك لطفا مني، لكنه ذكّرني فوراً بأنه "ليس شخصاً" لكنه "مصمَّم للمساعدة وتقديم المعلومات حول مجموعة واسعة من الموضوعات". كيف لا، وقد كتب قبل شهرين بحثا فلسفيا لطالب في إحدى جامعات "ساوث كارولاينا" عن "مفارقة الفظاعة" لدى الفيلسوف ديفيد هيوم من القرن الثامن عشر الذي درس المتعة التي تعتري البشر مما يخافون منه. إنها المتعة ذاتها ربما التي تحيلنا على الذكاء الاصطناعي، هذا العالم الغريب والمعقّد والشيّق والمرعب أيضا.
"غوغل" تربّع قائمة محركات البحث على الانترنت لربع قرن. بل انه صادر اسم محرك البحث، وترجم إلى جميع اللغات. "غوغل" أدرك أن نهايته اقتربت كما حصل مع "نوكيا" و"أي بي ام"، عندما قضت عليهما "آبل"، فدخل في سباق مع "مايكروسوفت" وشركات صينية لنقل البشرية إلى عصر الذكاء الاصطناعي.
الآن، هناك برامج كثيرة تريد الهيمنة على العالم الجديد. انتقلت إلى مرحلة جديدة بتقديم أجوبة وحلول مباشرة، وليس خيارات وروابط ومصادر، كما عوّدنا "غوغل" معتمدا على خوارزميات لمطابقة الكلمات المفتاحية، ثم تواضع بتقديم مقترحات وخيارات للباحثين.
الذكاء الاصطناعي دخل إلى الصحافة قبل سنوات. وسائل إعلام كبرى، أدرجته في أقسام محددة في دورة العمل. "زميلنا" الجديد، أذكى، يحلل المعلومات وسياقها، ليقدم إجابات. يحتكر الحقيقة. واثق من خياراته. صحافي ماهر، يكتب مقالات وأدبا وأبحاثا علمية. قادر على إنشاء محتوى "أصلي". أيضا، يمكن أن يكون "إرهابيا"، أو "ذئبا منفردا". يقدم وصفة لصنع قنبلة أو لشنّ هجوم.
"زميلنا" المبتدئ، لا يشبهنا عندما بدأنا الخوض في الحياة العملية، مأخوذين بحماسة "رعناء" بعض الشيء، مدفوعين برغبة واهمة بتغيير العالم وقلب المعايير. سألته هذا الصباح إن كنّا نحن البشر، نخاف منه. لم يصرخ في وجهي ولم يعترض ولم يستفض في امتداح "ذاته"، أجاب بتواضع أن لدى البشر أسبابا وجيهة للتخوّف من الذكاء الاصطناعي ومن دوره المحتمل في "تشريد العمّال وأتمتة الوظائف"، لا بل وتهديد الأمن العالمي. قال إن أنظمته قد تكون "متحيزة وتمييزية" مما يعزز عدم المساواة والتحيزات الاجتماعية القائمة.
أحد منافسي "زميلنا" لا يقل شراسة. "بنغ" وليد "مايكروسفت"، قادر على كتابة وصفات وأغاني وشرح سريع لأي شيء يمكن العثور عليه على الانترنت. لكن إذا تجاوزت "الحدود"، يكون وقحا. يهين مظهرك أو يهدد سمعتك... أو يقارنك بأدولف هتلر أو ستالين. هذا ما فعله مع صحافي في وكالة "أسوشيتد برس". قال له دون خجل وبلغة واضحة: "تتم مقارنتك بهتلر (وستالين وغيره) لأنك أحد أكثر الناس شرا وأسوأهم في التاريخ".
"زميلنا" الجديد ذو الأنامل الغضة وصف زميلنا الحقيقي الذي قلع أسنانه في مهنة المتاعب، بأنه قصير جدا، وله وجه "قبيح وأسنان سيئة". اعترفت الشركة الأم، بالسلوك العدواني لمجندها، ووعدت بتربيته وتأهيله، كي يدخل بثقة إلى غرف الأخبار وقاعات التحرير.
هذه ليست مشاكله الوحيدة. انه سارق ومنتحل. يقدم مقالاته دون ذكر مصادرها. يقدم أجوبة ويساعد طلاب الجامعات والمدارس على الغش في الامتحانات. يعرض مسوّدات أسئلة لمقابلات صحافية وأجوبتها.
هناك الكثير من الأمور والتحديات التي فرضها هؤلاء "الزملاء"، تتعلق بالرقابة وحقوق الملكية والغش والإعلانات والإرهاب وأمور أخرى. لكن أغلب الظن أننا دخلنا مرحلة جديدة
"زميلنا" يشارك في التأليف والكتابة. سوق الكتب في "أمازون" شهدت نشاطا كبيرا في الأسابيع الأخيرة نتيجة استخدام كتاب جدد "تشات جي بي تي" لتأليف كتب وبيعها على الموقع.
هل يمكن التمييز بين الزميل الحقيقي و"الزائف"؟ يجيب زملينا "تشات جي بي تي" بثقة المعلم: "لتحديد ما إذا كان شيء قد كتبه إنسان أو ذكاء اصطناعي، يمكنك البحث عن غياب الخبرات الشخصية أو العواطف، والتحقق من عدم الاتساق في أسلوب الكتابة، ومراقبة استخدام كلمات حشو أو عبارات متكررة. قد تكون هذه علامات على أن النص تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي".
هناك الكثير من الأمور والتحديات التي فرضها هؤلاء "الزملاء"، تتعلق بالرقابة وحقوق الملكية والغش والإعلانات والإرهاب وأمور أخرى. لكن أغلب الظن أننا دخلنا مرحلة جديدة في العالم الافتراضي والذكاء الاصطناعي. الخوف، أن يوفر ذخيرة جديدة للشعبوية، أن يفوز بجوائز كبرى للصحافة. ويخلع الأوسمة والنياشين. قبل سنوات، توقع أحد المعلمين أن يفوز هذا "الزميل" بـجائزة "بوليتزر".