استضاف برنامج "شعراء من القارات الخمس" يوم الجمعة الموافق 13/3/2023 الذي ينظمه الشاعر والفيلسوف الفرنسي فيليب تانسلان في دار لارماتان في باريس الشاعرة والإعلامية الفلسطينية نداء يونس للحديث عن تجربتها كشاعرة امرأة وشاعرة تحت الاحتلال، وأدارت اللقاء الفنانة الفلسطينية عبير حمد والتي قامت بالترجمة وتسهيل التواصل كي يتقاسم الحضور الشعر والكلام والاسئلة.
وقال أستاذ الفلسفة في السوربون الثامنة تانسلان في قراءته لمجموعة يونس الشعرية "لا أعرف الشعر": "في مقدمته الجميلة جدًا لمجموعتك "لا أعرف الشعر"، كتب الشاعر الكبير أدونيس: " اذاً ستَرى، أيها القارئُ، كأنكَ أَنت من يكتُب هذا الشِعرَ الذي تقرؤُه".
ذا ليس فقط تكريمًا جميلًا جدًا لما تكتبين، بل إنه في رأيي أيضًا جوهر الكتابة الشعرية من حيث أنها لا تخبرنا بشيء، ولا تفرض علينا معنى، بل تسمح لروايتنا الخاصة، لكتابتنا المحتملة، بالظهور من خلال القصيدة. وبفضل كتاباتك، نفهم أن اللغة الشعرية تحرِّض أكثر من كونها تقدم اقتراحات، إنها مثل المفجر الذي يدفع الى خلق كل شيء؛ أؤكد، كل شيء.
ما تقولينه هنا أن الحياة ليست سمة من سمات الأشياء بل الشيء نفسه، وبموجب هذا، تتحول العملية الإبداعية لديك إلى نقد جذري للوجود ضد الوجود. لذلك يمكننا القول أنّه ليس لديك جسم ممتلئ بالرغبة ولكنك جسم مفكر، وممتلئ بالرغبة: "القصيدة -الجسد"، كما يجعلنا عنوان المجموعة: "لا أعرف الشعر"، نفهم أن الشعر ليس موضوعًا للمعرفة، وأنه لا يطمع إلى شيء، ولكنه الموضوع العميق والممتلئ بالرغبة في عالم سيُكتب، أي في عالم ينبني من خلال صهر الكلمات، ومن خلال دمها ولحمها المشتعل.
مجموعتك عبارة عن سلسلة من القصص الرمزية عن الذات الإنسانية والتي تصبح موضوعا لكتابة هذه الذات. وهذا يعني أن كل اللحظات التي تعيشينها في علاقتك المباشرة قدر الإمكان مع الحياة اليومية الواقعية والمادية، هي درس في فلسفة الحياة، عندما تُكتب الحياة داخل الفكر المتعلق بكل لحظة وتتكشف، فان وجودك الشعري في التاريخ يسْخر وينتقد اصطناع علاقات معينة مع العالم، ويبرز قوة الطبيعي؛ هكذا تصبح الطبيعة في شعرك هي الثقافة، والكينونة ومحرك هذه الثقافة.
تتحد طبيعة الرغبة وثقافة الرغبة في جسد يتكلم ويكتب بجميع لغاته رغبته في العيش والازدهار. إن شعرك هو الصورة التي تتحرك فيه الحياة مقابل الصورة الثابتة لنسختها، والتي تُقدم لنا من خلال النماذج التي نحيى بموجبها، والنماذج التي يجب أن ندين لها، والنماذج التي يجب علينا احترامها، والنماذج التي تفرض علينا، والتي ليست سوى أوهام حياة.
تكتبين في مجموعتك " خديني أيتها الرغبة/ فأنا بحاجة إلى سيد" والتي أعتبرها تعبيرًا جميلًا جدًا عن الحرية، حريتك كامرأة، تلك الحرية التي تصرخين بها بكل كلماتك.
في الواقع عندما تكون الرغبة سيدتنا، نكون نحن حريتها، نكون الحرية.
ووجه تانسلان خلال هذا اللقاء عدة أسئلة لنداء يونس حول تجربتها الشعرية وعملها.
<>1)
في البداية على أن أقول أنّ الشعر تحليق يتجاوز، الواقع، وصوت لي في مكان آخر. إنه اشتباك بين الحاضر والمعرفة الجاهزة والحدود والصمت من جهة؛ والحلم والحرية والرغبة وعدم السكوت من جهة أخرى. إنه يوسع الآفاق والحدود الضيقة للإنسان، ويدفع الجدران أبعد، ويمكنِّنا من رؤية الأشياء بشكل مختلف أحيانًا، ودون مجاز أو بلاغة. أتذكر الآن هذا المقطع من قصيدة لي:
"يذوب الثلج
لكنه لن يتذكر الوردة التي سحقها".
وفي ظل تأكيدي على انني لا انتظر شيئا من الشعر. فإنني اعيد التفكير في سؤالك عن كتابتي التي تبدو مثل "القنافذ في الجيب الخلفي"، واتذكر ما تقوله النساء هنا في فلسطين من أن هذا الشعر يمثلهن، تقول النساء هنا أنهن بحاجة إلى من يقول أحد ما لا يمكنهن قوله، ثم أتذكر أن هذا الشعر الذي لم يتجاوز عمره السنوات العشر، حظي بـ 32 قراءة نقدية وانطباعية حتى الآن، كتبها شعراء وأكاديميون ومثقفون فلسطينيون منهم أسرى حاليون في سجون الاحتلال الإسرائيلي، كما أجريت العديد من المقابلات المكتوبة والمرئية. لقد احتفى الأسرى، من بين أمور أخرى، بموضوع الحرية والحياة التي حرموا منها بسبب كفاحهم من أجل حرية شعبهم. وقد يكون هذا هو المعنى الدقيق لما تسميه، مستر فيليبي، "الحياة" التي "ليست سمة من سمات الأشياء، بل الشيء نفسه"؛ الحياة التي نرغب بها جميعًا في فلسطين، كما استقبل في مهرجات عربية هامة مثل مهرجاني جرش، وتوزر وعالميا في سيت، وفي المغرب والعراق وسوريا ومصر.
اود هنا ان أشير الى علاقة كتبي مع الاسرى الفلسطينيين، وهي تجربة فريدة لا تحدث لاي شاعر في العالم كما هي تجربة انتقالنا مثلا لإحياء أمسية شعرية في محيط 500 م والتي قد لا تتم بسبب حاجز عسكري إسرائيلي، عندما طلب الأسير كميل أبو حنيش مجموعتي الشعرية "كتابة الصمت"، أرسلتها له مع أخيه في موعد الزيارة، الاحتجاز وتأخير دخول الكتب امر طبيعي، لكن ان يتم تمزيق الاهداء، فهذا ما فعله مسؤولو السجن. من سجن اخر طلب الأسير هيثم جابر دواويني، أرسلت له تأويل الخطأ، فرفض مسؤولو السجن ادخال الكتاب بحجة انه "تحريضي"، تمكن الأسير من الاتصال بي تلفونيا ليخبرني بالأمر. قلت له من الطبيعي ان يعتبروا هذا الكتاب في الحب تحريضا لأنه يمثل استعادة للوجه الإنساني للفلسطينيين، وهو ما يعني ان محاولات إسرائيل منذ 75 عاما لمحو الفلسطيني وتقديمه ضعيفا باكيا جريحا واسيرا وفي مرتبة اقل فشلت، فالحب قوة، وهذا ما لن يقبله الاحتلال: ان نحس بالقوة او ان نمتلكها. منعت دواويني من الدخول لأسير آخر، الحجج موجودة دائما.
امام كل هذا، لا بد لي من الاعتراف بأنه تم تلقيه بشكل جيد هنا، وفي العالم العربي وفي الخارج، وليست هذه سوى البداية.
2) هل تشعرين بالتضامن الدولي مع نضالك كامرأة فلسطينية مع كل ما يعنيه ذلك سياسياً وثقافياً، وإن لم يكن هناك مثل هذا التضامن، فما الذي تودين قوله لنساء العالم؟
أعتقد أنه تم الاحتفاء بي ثقافيًا في أماكن مختلفة بما في ذلك جامعة تورنتو؛ في إيطاليا، على صفحات لابوازييه، في مجلة أوروبا؛ ومن قبل دار المنار، ومهرجان سيت Sete، والآن في لارماتان. يرسل العديد من القراء – تحديدا النساء- من فرنسا وكندا على وجه الخصوص رسائل جميلة. قام الشاعر الفرنسي روبرت بارس بتسجيل قصائدي كجزء من مشروعه لإعادة التسجيل الشفهي للشعر العالمي بمساعدة زوجته. وكوليت ديبلي، الفنانة الفرنسية، شعرت بالإلهام بعد قراءتي، ورسمت أكثر من 80 لوحة تعتمد على موضوعاتي الشعرية. وقد ألهمها ذلك مشروع رسم لشاعرات من العصور القديمة والأمم السابقة حتى الان. حظيت بست لوحات منها.
مع ذلك، كلما قلت فلسطين فإنني هنا أتحدث عن شاعرة، شاعرة تحت الاحتلال. يثير هذا بطبيعة الحال العديد من الأسئلة حول الواقع الاستثنائي والقبيح الذي نعيشه شعبي وأنا، وعن قدرتي على الكتابة عن الحب وسط الدماء، وعن استقراري وسط هذا الاضطراب، وعن الكتابة الذاتية في ظل العنف السياسي والنضال اليومي، وعن سؤال لغة التي تعمل "كمفجر للخلق"، استعير تعبيرك مستر فيليب.
هذا الأمر في الواقع يثير ما هو أكثر من التضامن، فالشعر، في هذا الواقع الاستثنائي، يصبح سؤالاً حول استعادة الوجه الإنساني الفلسطيني، والذي تحاول دولة الاحتلال الإسرائيلي محوه منذ ما يقرب من 75 عامًا. ان هذه الاستعادة للوجه الإنساني تصبح تهديدا لكل القبح الاحتلالي والسياسي والاجتماعي هنا، وتصبح تهديدا للغة ذاتها.
إذا قُدِّرَ للناس التعبير عن الاهتمام والتضامن، فلا شيء يجعلني أكثر سعادة حتى الآن من هذا، من تذكرهم لفلسطين المحتلة والمواضيع ذات الصلة مثل الحرية مقابل الاحتلال، والحب مقابل الكراهية، والصمود مقابل القتل، والحياة مقابل الحياة في أي مكان آخر والشعر مقابل الموت عند قراءة هذا الشعر.
يساعدني هذا الاعتراف في مواجهة كل استبداد وغربة وعنف وخوف من جميع السلطات. هذا ما لا يجب ان تستسلم اليه اية امرأة أينما كانت.
3) أنت شاعرة وصحفية. هل توجد بالنسبة لك علاقة بين كتابتك الشعرية وكتابتك الصحفية، وما طبيعة هذه العلاقة؟
الصحافة والشعر طريقتان للرواية والسرد. الصحافة تجسد /تقول الواقع. والشعر طريقة لنقول الذات/ من نحن، وهنا يبرز السؤال الأصعب: كيف نكتب الذاتي في ظل العام. تساعدنا الصحافة والشعر في ان نتجاوز الظروف الاستثنائية التي لا تشبه ما يعيشه الشعراء الاخرون، وان نلعب دور بطولة لم نختره، كما يساعداننا على تجاوز نقاط التفتيش والحدود والتعتيم والتحيز والخوف والجدران، تكشف الصحافة والشعر كيف يتم انتهاك أجسادنا وإسكاتها من خلال الرقابة والسجن والموت والعقاب. ومن منظور مضاد، يعبر كلاهما عن رغبتنا في أن نكون، يبرزان قوة أجسادنا وقوة أرواحنا وأحلامنا.
لكن، بينما تخذلنا الصحافة أحيانًا، لا يفعل الشعر ذلك.
4) هل تؤثر الأحداث التي تواجهينها في عملك كصحفية وأيضًا في هويتك كشاعرة فلسطينية بحيث يتشكل لديك احساس شعري نحوها؟
أولا عليّ ان انوه إلى انني اكتب ما يشبهني، أبحث في الشعر عن مكان وعن وطن فقدته، لكن ليس عن منفى. اكتب لأنني أحس بالقلق، لأنني أخاف، ولأنني ارغب في ان اتفادى الصراخ.
في الشعر، أبذل جهودًا غير عادية لعزل نفسي عما أراه وأعيشه، فالشعر ليس رواية ولا إعادة سرد للواقع. إنه ليست حاضنة أيديولوجية كما أنه ضد كل الأيديولوجيات. وعكس الاحداث التي نواجهها، الشعر هو الطريقة التي أرى بها العالم، الطريقة التي أريد أن يكون العالم عليها.
أحيانًا يكون الشعر نقيض الواقع، لأنه يقول ما ينقص في هذا الواقع. إنه يحكي عن الحب لأننا محاطون بالكراهية والاقتلاع والتهجير، وحجب الوجه البشري لنا كفلسطينيين؛ إنه يتحدث عن الأجساد الممتلئة بالرغبة، والأجساد التي تحكي، لأننا غالبًا ما يتم إسكاتنا وسجننا وإنكارنا؛ إنه يساعدنا على التحليق لأننا محاطون بالجدران، سجناء، ونفتقر إلى أي أفق للحرية والاعتراف.
وكانت يونس في كلمتها إلى ما يقارب 40 من المثقفين والشعراء الفرنسيين الحضورأكدت أن الحديث عن الذات هي أصعب مهمة، لكنها ضرورية قائلة: انا من فلسطين، عندما أقول فلسطين، يتحول الحديث من شاعرة امرأة إلى الحديث عن شاعرة امرأة تحت الاحتلال، وهذا بطبيعته يطرح أسئلة كثيرة: سؤال الواقع الاستثنائي القبيح، كتابة الذات في ظل العنف السياسي والنضال، ثم سؤال اللغة. يصعب ان تعيش في مكان لا تنطبق عليه ظروف الآخرين/الشعراء تحديدا. يعاني شاعر/ة في البرازيل مثلا او في فرنسا او أمريكا او في ألاسكا او إيران من الفقر وتكاليف الحياة والنسيان، أو من الذاكرة المحشوة بالألم والسحق والابادة، أو من البرد والفقد، من تضاد القيم والممارسة، أو من الظلم والنظام السلطوي وازدواجية المعايير، أو ربما من العنف الاجتماعي والمؤسسي، ربما يعاني الشاعر واحدة من هذه الظروف أو أكثر، نحن مثلهم نعاني هنا واحدة من هذه أو أكثر، لكننا أيضا نعاني كبشر، من جرح استعماري، نعاني من الطريقة التي يرانا بها الآخرون، نعاني من اننا مضطهدون، دون ان يتم الاعتراف بهذا، ودون ان تتم ملاحظته أو تَقبُّله، او حتى محاولة معرفة كيف يتم تفكيكنا من خلاله، وإعادة كتابتنا ببعد واحد: استعماري وقبيح. كيف تكتب امرأة الشعر هنا؟ أين يمكن للشاعر في بيئة كهذه ان يقف، وعلى أي التفاصيل يمكنه ان يسلط عينه كي لا يَرى. كل كتابة عن الخاص تستدعي سؤال العام، وكل كتابة عن الجمال تستدعي سؤال القبح، وكل كتابة عن الحب تستدعي سؤال الكره، العكس ليس صحيحا بالضرورة. هنا اكتب من قلب كل شيء كما لو أنْ لا شيء يحدث، ثم أكتب عما يحدث كأنه يحدث لغيري، وعما لا يحدث كأنه يحدث دفعة واحدة. أتساءل دائما هنا: كيف ولماذا أصبح الواقع مخيفا وقمعيا هكذا، واقع يتحول فيه الجسد الى ارض للصراع لكل السلطات، ولممارسة مزدوجة للعنف والتدمير والالغاء، أتساءل: كيف يمكن مواجهة ذلك؟ كيف نلعب كل الأدوار معا وكيف يمكن للشعر ان يحمل صوتنا الى البعيد؟ اعلم انكم ربما تودون ان تسمعوا عني أكثر، لكنني ببساطة سؤال او هذه الأسئلة، انا ببساطة سؤال، لا إجابة. أنا فقط اكتب عن الحب، الناقص حولي الفائض في. أحب الان ان اتقاسم معكم الكلام والشعر والاسئلة"
ووجه الجمهور عددا من الأسئلة التي تناولت الواقع والتجربة، الذي أكد أن نداء نجحت في إعطاء صورة جميلة للمرأة الفلسطينية في العالم.