تخطي إلى المحتوى
جلال برجس لـ"المدن": أدب الاعتراف العربي محاصر بالمحظورات جلال برجس لـ"المدن": أدب الاعتراف العربي محاصر بالمحظورات > جلال برجس لـ"المدن": أدب الاعتراف العربي محاصر بالمحظورات

جلال برجس لـ"المدن": أدب الاعتراف العربي محاصر بالمحظورات

مثلما يسعى الكاتب الأردني، جلال برجس، إلى ضبط بوصلة كتابته الإبداعية على وجع الهامشيين الصامت وأنين المنفيين والمقهورين والمعذبين، المحبوس في صدورهم، كما في روايته الأشهر "دفاتر الورّاق" مثلًا الفائزة بجائزة البوكر العربية، فإنه ينتهج الدرب ذاته في سيرته الروائية الصادرة حديثًا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، والتي جاءت بعنوان "نشيج الدودوك". وهو عنوان يحيل إلى نوح المزمار الأرمني وبكائه الحزين، من غير انتحاب، حيث يتولد النغم من عصارة الألم "قطعتُ الطريق على كل ما يمكن أن يبدد غرضي الأول من وراء الكتابة. إنها مساحتي التي تضبط خطوتي في هذا العالم".
 
تفتح سيرة برجس الروائية "نشيج الدودوك" الباب للولولج غير الحذر إلى مداخل أدب الاعتراف والبوح الذاتي غير المشروط، وما يستلزمه ذلك الأدب من الجرأة والتعري كشكل من أشكال التطهر والخلاص. الكلمة دائمًا هي مفتاح النور لمواجهة العتمة المحيطة "حين قرأتُ أول كلمة في حياتي، سمعتُ صرير باب يُفتح، ورأيتُ شيئًا من النور يتجرأ على العتمة". أما نسيجُ "النشيج"، المتشابك، المركّب، فهو ذلك المزج الحميم بين سيرة الكاتب، وسيرة المدن التي زارها: لندن، والجزائر، والعاصمة الأرمنية يريفان، وسيرة الكتابة والكتب التي رافقته في السفر، في آن واحد. 
 
ولا يخشى برجس أن توصف كتابته بأنها ذات مزاج سوداوي، ولا أن تقف حكاياته وتفاصيله الصادمة عائقًا بينه وبين القرّاء، ذلك أنه يجد ما يخصه بمصداقية هو ببساطة ما يخص أؤلئك الوحيدين في المدن الصاخبة، وما أكثرهم، رغم عزلتهم وتواريهم في الظلال والضباب "ما تحالف معي إلا صوت صرصار الليل، ونباح كلب بدا لي مكلومًا، يرسل شكواه للفراغ المترع بالظلام الدامس"، مثلما يروي عن طفولته في مدينة "مادبا" الأردنية، وبداية التقاطه أصوات الشجن من البيئة الخارجية، وكذلك من ضجيجه الجوّاني الغامض.
 
حقل شائك
"إن كتابة السيرة التي تتكئ على شيء من الجرأة في الاعتراف خطوة ليست هينة"، يقول جلال برجس في حديثه إلى "المدن"، حيث إنها تشبه مسير الكاتب نحو القارئ عاريًا. وهذا العري، مقصده شكل من أشكال التطهر، والخلاص، تمامًا مثلما يخلع شخص ما ملابسه، ليتخلص من الشوك، بعد تجاوزه حدود حقل شائك، سقط فيه من دون إرادته. 

تبدو الحياة في بعض الأحيان مثل ذلك الحقل، يضيف برجس، وما الكتابة إلا محاولة للهرب منه: "يراودني هاجس من هذا النوع من الكتابة منذ زمن، لكن لحظة فاصلة في حياتي هي التي جعلتني أمسك بالقلم وأكتبني. لقد كنت في غاية الخفة وأنا أستعيدني منذ لحظة الوعي الأول، خفة تشبه اللحظة التي تعقب البكاء". ويكشف جلال برجس في سيرته الروائية تفاصيل رحلته مع الإبداع، ككاتب لا يكاد يمتلك من الوقت سوى ثلاث ساعات يوميًّا، وينعطف إلى المحطات غير المعروفة في حياته، في العمل وغير ذلك، ويسترجع الكثير من المشاهد التي لا يمكن نسيانها "مشهد أول شخص ميت، مشهد أول كارثة تحل بالعائلة، مشهد أول سلوك ديكتاتوري مارسه عليَّ معلّم الرياضيات، حين لم يوافق على ذهابي إلى الحمّام، فتبوّلتُ على نفسي". 

 
ويتنقل جلال برجس محمّلًا باللغة السردية ووعيها، إلى سيرته الحياتية والأدبية، منذ سنوات طفولته ونشأته في القرية، مرورًا بالفترة التي قضاها في الصحراء الأردنية الشرقية، قبل أن ينفتح على عالم الأدب وينخرط فيه. وهو انخراط لم يكن اختيارًا بقدر ما بدا كأنه أمر طبيعي وبديهي وحتمي. فالقراءة، والكتابة في ما بعد، بدت له بمثابة النظر إلى المرآة، واكتشاف الذات والآخر والوجود. 
 
وفي المسار نفسه تأتي كتابة السيرة الذاتية، والسيرة الروائية، ويقول برجس موضحًا في حديثه "إن أدبيات السيرة منجز مهم للكاتب والقارئ على حد سواء، فالكاتب يخوض غمار مواجهة نفسه، بل إنه يسعى إلى أن يربح مساحة جديدة من تأمل حياته بكل مستوياتها. وإن كتابة الحياة الشخصية ليست مسألة سهلة، خصوصًا أنها تستوجب التجرد من أدوات التخييل كافة، والنفاذ إلى لحم الواقع الحي بتجرد، وبوعي مشحون بالمكاشفة والصراحة".
 
أما القارئ، يستطرد برجس، فإنه يخوض غمار اكتشاف التاريخ الشخصي للكاتب، هذا التاريخ الذي يوحي للوهلة الأولى بأنه منفصل عن العام، لكنه في ما بعد "سيجد الذاتي والموضوعي نتاجًا مشتركًا أدى به المصير الإنساني بكل تساؤلاته، وحيرته، وسعيه، خصوصًا في اتساع رقعة الالتباس الوجودي".
 
إشارات المرور
تنحو سيرة جلال برجس الروائية إلى قلق الأسئلة أكثر من ارتكانها إلى اطمئنان الإجابات المستقرة. وهي أسئلة تشتبك مع ممارسة الحياة، ومع الكتابة والقراءة والسفر والحب والنجاح والفشل والأمل واليأس والسعادة والأسى وغيرها من الأفعال والنشاطات والحالات الإنسانية، بحس وجودي، ونزعة فلسفية، عبر لغة استبطانية تحاور الذات والأزمنة المختبئة بداخلها، وتتجاوز أسطح الأشياء، وتسعى إلى التمييز المعرفي والحدسي بين أفعال المواجهة وأفعال الهروب، وبين الصدق والزيف.
 
ويرى جلال برجس في حديثه إلى "المدن" أن "السيرة الروائية عمل محفوظ بالمخاطرة، ذلك أن الكاتب العربي عمومًا هو نتاج بيئة مزروعة بألغام الخوف". لهذا، يعلو الغموض ما ينشر من كتابات، وتتصاعد الرمزية أمام الكثير من المحاذير، وإشارات المرور الاجتماعية، والدينية، والسياسية، والفكرية. ويضيف "لا أزعم في سيرتي الروائية هذه أنني غير مكترث بتلك الإشارات، لكنني مررت بقربها مغمضًا عيني، أمارس نوعًا من أنواع التجاهل".
 
ويقر جلال برجس بأن أدب الاعتراف العربي، في مجمله، لا يزال محاصرًا بجملة من الاعتبارات والمحظورات، وأنه يأمل في أن يكون قد قطع خطوة أو عدة خطوات أو شوطًا في طريق التحرر من هذه القيود. ويشير إلى أن الأمر مختلف كثيرًا في العالم الغربي، حيث إن "هناك مساحة شاسعة من الحرية في هذه المجتمعات. وقد تجلت هذه الحرية في أعلى مستوياتها، ما انعكس على ما هو معيش يومي، كما انعكس على الأدب بشكل عام، وأدب الاعتراف بشكل خاص". 
المصدر: 
جريدة " المدن"