يشكل«أدب السجون» لحظة تاريخية حادة يتم فيها اختبار قدرات الإنسان على تحويل الألم والفقدان والعزلة إلى لغة، لغة لا تهم الكاتب وحده الذي يحولها إلى وسيلته للتحرر والخروج من دائرة الضيق، ولكن تهم القارئ أيضاً بدرجة أهم. من خلال هذا الأدب يتعرف القارئ على حياة أخرى غير تلك التي يعيشها هو حراً طليقاً ويستمتع بالشمس كل صباح، ويسير في الشوارع بحرية ويتناول قهوة ثقيلة منشطة في الزاوية اليمنى من شارعه اليومي الذي يقطعه كل صباح وهو متجه إلى العمل، يتنفس ملء رئتيه هواء الجبال كلما خرج من ضيق المدينة.
هذا النوع من الأدب أصبح ظاهرة في فلسطين، بل كياناً مستقلاً يعبر عن لحظة تاريخية شديدة الحساسية. فقد برز كثير من الكتاب الأسرى في السجون الإسرائيلية، الذين سجلوا «يومياتهم» الصعبة و»سيرهم» وكتبوا عن محنة الحرية التي لم تعد فعلاً سهلاً في عالم ظالم لا يلتفت نحو الفلسطيني، في ظلّ نسيان كلي لقضية ما يزال كثير من الذين تسببوا في جراحاتها أحياء، وكأن على الفلسطيني أن يدفع ثمن المحرقة اليهودية «الهولوكوست» الذي لا ذنب له فيها، ليصبح ضحيتها أوروبياً وأمريكياً وإسرائيلياً. أوروبا التي كانت وراء فعل دموي شديد الثقل تاريخياً، عاجزة عن الاعتذار، وهي أصلاً لا تعتذر إلا بضربها في المكان الذي يؤلمها ويوجعها. مثال الجزائر، في هذا السياق، موجع؛ فبعد مرور أكثر من ستين سنة على استقلال الجزائر، وأكثر من 5 ملايين ضحية حسب فرضيات كثير من المؤرخين بدءاً من بداية الاستعمار حتى نهايته (1830 – 1962) وأكثر من مليوني ضحية (مع العائلات التي أبيدت كلياً ولم يتم إحصاؤها) في الفترة الممتدة بين 1954-1962، واستعمال النابالم في الغابات والمداشر، وتجريب الأسلحة النووية في المناطق الصحراوية الجزائرية «رڨان» التي تم فيها أيضاً تجريب أول قنبلة نووية إسرائيلية، في ظل الاستعمار الفرنسي، بعد كل هذا التاريخ، فرنسا الاستعمارية عاجزة اليوم عن الاعتذار عن جرائمها. وكلما اهتزت المصالح جاء الاعتذار مزموماً، يكاد لا يسمع، يدين الاستعمار، لكن لا تسمع فيه كلمة اعتذار. وينتفض بقايا «النوستالجيين» القدامى من الضباط واليمين المتطرف، رافضين أي اعتذار؛ لأنه حسب رأيهم، يهين فرنسا الدولة ويحط من شأنها. لكن التاريخ في النهاية يدرك أصحابه، لأنه مثل القدر لا يمكن تفاديه. ولا يوجد أحسن من الأدب الذي تخطى عتبات وذهب نحو عمق الإنسان في لحظات آلامه وعذاباته، صوّر اللحظات التاريخية الأكثر قسوة وصعوبة لأنه ينبع من روح الإنسان العميقة، بل يشكل ذاكرتها الحية التي لا يستطيع التاريخ أن يقولها بتلك القوة وذلك الوجع. يكفي الرجوع إلى الكتاب الفرنسيين الذي كتبوا عن هذا التاريخ المظلم لنلمس تلك الشجاعة الكبيرة غير المتوفرة في السياسي. مثلاً رواية «أين تركت ضميري» لجيروم فيراري (2012)، ورواية «من أخوتنا الجرحى» لجوزيف أندراس (2016) التي أدانت آلة التعذيب والإعدامات ضد الجزائريين وضد الفرنسيين أيضاً، إذ أعادت إلى الواجهة قصة إعدام المناضل الفرنسي «إيفتون» لأنه كان مع الثوار الجزائريين، ثم «فن الحرب الفرنسي» (2011)، التي تدين حروب الدمار التي خاضتها فرنسا في الجزائر وفيتنام والعراق. وكل هذه الروايات فازت بجائزة «الغونكور» الفرنسية، مما يثبت انفصال المؤسسة الثقافية عن القرار السياسي. الأدب ليس تاريخاً، ولكنه روحه العميقة التي تستيقظ خارجه بحرية أكثر، وبتفاصيل أدق. لهذا، فهو يحتل منطقة واسعة وشديدة الحساسية في الوعي الإنساني.
وأدب الأسرى الفلسطينيين استطاع أن يختزل إلى حد بعيد المأساة الفلسطينية ويحولها إلى حالة عميقة في الوجدان الفلسطيني والعربي والإنساني. لم يعتقل الأسير الفلسطيني إلا لأنه دافع عن حق وجودي ممنوح لكل الكائنات التي تدب على هذه الأرض. وقد مست ظاهرة الأسر المناطق الفلسطينية كلها دون استثناء، بحسب الوثائق والدراسات. «تشمل فئة الأسرى السياسيين في السجون الإسرائيلية المعتقلين من المناطق المحتلة سنة 1967، وأسرى الداخل الفلسطيني (1948) والسوريين من هضبة الجولان واللبنانيين والأردنيين والمصريين»، أي أن آلة الاحتلال الجهنمية لم تترك ولا منطقة أو جهة لم تمارس عليها ظلمها وجرائمها التي لم تعد سرية اليوم مع اليمين الديني الفاشي.
ارتبط هذا الأدب بقوة بالحركة الأسيرة في كل تحولاتها وجسد آلامها عن قرب. منذ الانتداب البريطاني الذي لم يتوان عن السجن والإعدامات ضد كل معارض لها (1933-1939) وهذا الأدب ينمو في الخفاء. أتذكر يوم زرت «سجن عكا» قادماً من باقة الغربية، كم كان قلبي موجوعاً وأنا أتذكر ذلك النشيد الجنائزي «من سجن عكا طلعت جنازة». وبلغ عدد المعتقلين بحسب بعض الإحصائيات الموثقة وقتها، أثناء انتفاضات 1948 حوالي 15000 من الفلسطينيين والعرب المتطوعين. لم تتوقف هذه الممارسة المرتبطة بالغطرسة الإسرائيلية والهزائم العربية، فقد استمرت بشكل أكثر كثافة، بالخصوص بعد العدوان الثلاثي على مصر في 1956 حيث زجت قوات الاحتلال بآلاف الفلسطينيين. وزادت الاعتقالات الجماعية بعد 1967 إذ أصبحت ممارسة يومية في ظل غياب أي قانون دولي رادع مع انهيار المؤسسة العسكرية العربية. ومن بين الحيل القانونية التي تستعملها إسرائيل للتخفيف لغوياً من ممارساتها الظالمة، كلمة «سجين أمني» بدل «سجين سياسي» حتى لا تبدو معتدية على الأعراف والقوانين الدولية، وتظل «ديمقراطيتها» مصونة. الفلسطيني لا يسجن في أدبياتها التي تسوقها لأن له مطالب سياسية، لكنه يسجن لمخالفته القانون أو متورط في شبهة. أما في قطاع غزة المنتفض، فقد أبدع الكنيست منذ آذار 2002، قوانين جديدة تعسفية تسمح لسلطات الاحتلال أن تعتقل كل من تراه عدواً محتملاً متفادية تسمية «أسير حرب» التي تكلفها كثيراً من ناحية القانون الدولي الذي يفرض اشتراطات كثيرة تحد من الغطرسة الإسرائيلية. لهذا تعددت السجون باتساع الانتفاضات الفلسطينية ضد الاحتلال. وكلما كان الرفض قوياً زادت شراسة الاحتلال في بناء سجونه في عسقلان، إيشل، نفحة، رامون، كتسيعوت في النقب، نيتسان وأيلون في الرملة، هداريم، الدامون، مجدّو، جلبوع في شطة، إضافة إلى معتقلات حوّارة، وبيت إيل، والمسكوبية في القدس، والجلمة وغيرها، حتى أصبحت فلسطين سجناً كبيراً. لكن هذا كله لم يثن الأسير الفلسطيني من الارتباط بقضيته. عبقرية الكاتب الأسير التنظيمية في سجون الاحتلال تجلت بشكل واضح، فقد تمكن في كثير من الحالات من تكوين حلقات هدفها في النهاية فلسطين مهما كانت الاختلافات القبلية والإثنية والدينية والأيديولوجية. أصبحت أسوار السجن مدرسة مؤلمة لهم، ولكن حقيقية خارج الخطابات الجوفاء والسهلة. نذكر في هذا السياق وثيقة «الوفاق الوطني» التي توصلت إليها الحركة الأسيرة في أيار/ مايو 2006 وتبنتها القيادات السياسية في غزة ورام الله. هزت هذه المبادرات أركان جيش الاحتلال وسجونه التي فشلت في شل الأسير ومنعه من حقه. وعمقت الأشكال النضالية الجديدة، منها الإضراب عن الطعام أو ما يُسمى معارك «الأمعاء الخاوية» التوقف عن الأكل باستثناء الماء وقليل من الملح للاحتجاج والرفض، الأمر الذي دفع بالكنيست إلى إصدار قوانين جديدة، منها الإطعام القسري للأسير المضرب حتى تتفادى الإدانة دولياً.
أدب السجون نشأ داخل هذه المناخات حاملاً صدقها وعذاباتها. يشكل اليوم ظاهرة شديدة التميز، بقدر ما هي مؤلمة فهي مهمة لحفظ الذاكرة لجيل احترق وصمم أن يدافع عن حقه في العيش في وطنه. أعتقد أن الحالة الفلسطينية كشفت «الادعاءات الإنسانية» التي ليست في النهاية أكثر من لغة وخطاب استهلاكي، لأن أرضية الواقع تكذب ذلك. أكبر فعل لا إنساني هو كيف يصمت الإنسان على وطن سرق وطرد أهله في عملية تهجير غير مسبوقة تضاهي تلك التي مورست ضد الهنود الحمر عندما خلقوا تجمعات ليست شيئاً، لا هي وطن ممزق ولا حتى تجمعات تقليدية. ومنعوا الفلسطيني من مزاولة حقه الطبيعي في العيش والتعبير. لكن لا قوة تدوم مهما كانت الظروف القاسية التي كثيراً ما تدعو إلى اليأس، هذا ما وعاه الكتاب الأسرى لأنهم يعرفون جيداً قوة التاريخ. والتاريخ ليس ما نعيشه اليوم من يأس، لكن الآتي أيضاً، الذي دمر كل «الإمبراطوريات التي لا تغيب عنها الشمس.»