من المستحيل التقليل من أهمية المتاحف في عالم الثقافة،فهي نقطة التقاء حقيقية بين الزائر العادي والعالم الماضي، ورمز للمستوى الثقافي في أي بلد، حيث تحتل المتاحف مكانا مرموقا في عالمي الثقافة والدعاية السياسة نظرا للتداخل العميق بين هذين العالمين. وبالتالي فالمتاحف الشهيرة دليل على عظمة بلدانها، فمهما كانت القوة العسكرية أساسية في تشكيل تاريخ البلد، إلا أن ذلك البلد يحاول إظهار أنه ليس مجرد قوة عسكرية مخيفة، بل هو بلد ثقافة راقية جدا لإثبات تفوقه الحضاري على بقية البلدان، وتشجيع شعبه من الناحية النفسية. وللمتاحف كذلك أهمية اقتصادية بارزة، فهي سبب أساسي لزيارة المدن التي تملك المتاحف الشهيرة مثل متحف اللوفرLouvre Museum (خمسة ملايين زائر عام 2015) والمتحف البريطاني British Museum (ستة ملايين وثمانمئة وأربعة وخمسين ألفا بين عامي 2015 و 2016) ومتحف الميتروبوليتانThe Metropolitan Museum of Art في نيويورك (أكثر من سبعة ملايين عام 2019) ما يجعل هذه المتاحف عاملا أساسيا في الاقتصاد السياحي في هذه البلدان. لذا فالمتاحف في الإعلام رمز لتاريخ البلد ودراسة تاريخه وسيلة لدراسة تاريخ ومجتمع ذلك البلد.
لنأخذ المتحف البريطاني كمثال، فعدد المعروضات فيه يصل إلى ثمانين ألفا ويبدو الرقم كبيرا، لكن هذا العدد يتقزم أمام عدد ما يملكه المتحف بشكل عام، إذ يصل إلى ثمانية ملايين، أي أن أغلب مقتنيات المتحف في الحقيقة غير معروضة، بل قابعة في مخازنه، ولكل منها قصة تستحق الذكر. وأول ما يلفت انتباه الباحث الصعوبة البالغة في العثور على أي شيء بريطاني في ذلك المتحف «البريطاني» لأن كل ما هو معروض أتى من الخارج. والسؤال هو كيف وصلت هذه المقتنيات إلى هذا المتحف؟ وعلى سبيل المثال التماثيل البرونزية من منطقة بنين الواقعة في نيجيريا، التي يعود بعضها إلى القرن الثالث عشر والخامس عشر والسادس عشر، التي تعتبر أهم الآثار الفنية في غرب افريقيا. ومن المضحك أنها أثارت دهشة علماء الآثار الغربيين في القرن التاسع عشر حتى أنهم ظنوا أنها لم تكن افريقية، بل أعمالا أوروبية تركها التجار الأوروبيون في تلك المنطقة، وهناك من ظن أنها من إنتاج الأغريق القدماء، فبالنسبة للعلماء الغربيين آنذاك لا يمكن للإنسان الافريقي أن ينتج عملا فنيا، فما بالك بعمل فني كبير.
القطع البرونزية
بدأت مشكلة هذه القطع البرونزية عندما قام الجيش البريطاني باحتلال تلك المنطقة من نيجيريا عام 1897، لكن هذا لم يكن نهاية المأساة، بل بدايتها حيث قام الجنود بتجميع كل ما ارتفع ثمنه، لاسيما في قصر الملك، ثم دمروا المدينة، وشمل هذا آلاف التماثيل البرونزية التي كانت أصلا قد وضعت في القصر الملكي، حسب تاريخها لتكون سجلا لتاريخ المنطقة. لكن الجنود البريطانيين لم يكونوا مهتمين بأهميتها التاريخية أو الفنية، بل بقيمتها المادية، فقاموا بتجميعها بشكل عشوائي. والتقطوا صورا لهم إلى جانب هذه الأعمال الفنية وغيرها من الغنائم بكل فخر وزهو. والغريب في الأمر أن ذلك المصور الجندي عنون الصور بكلمة Loot (غنيمة أو سلب باللغة الإنكليزية، وهي مصدر كلمة «لوتي» في اللهجة البغدادية). وكان سبب فرحة الجنود والضباط أن هذه الغنائم ستكون لهم، إذ كان الجيش البريطاني، وغيره من الجيوش الأوروبية، يعد ذلك حقا مشروعا وجزءا من الأجور التي يستلمها العسكريون مقابل خدمتهم في الجيش. وباع هؤلاء العسكريون ما نهبوه لجهات عديدة ومنها المتحف البريطاني الذي يحوي العدد الأكبر منها حاليا، واحتفظ بعض الضباط البريطانيين بالقليل منها في منازلهم. ومثال آخر على ذلك، فعندما غزت القوات البريطانية إثيوبيا عام 1868 صاحبها أحد خبراء المتحف لاختيار ما يستحق أخذه من ذلك البلد.
أحد أكثر مجموعات الآثار إثارة للجدل في المتحف البريطاني ما يسمى «آثار أيلغن الرخامية». بدأت حكاية هذه المجموعة عندما عينت بريطانيا توماس بروس سفيرا لها في العاصمة العثمانية إسطنبول. وكان هذا السفير من كبار النبلاء، حيث كان لقبه «أيرل أيلغن السابع»7th Earl of Elgin . قام السفير البريطاني برحلة إلى اليونان التي كانت جزءا من الدولة العثمانية آنذاك وجلب فريقا من الفنانين الغربيين بإشراف نحات إيطالي لقطع أجزاء من بعض أشهر التماثيل والجدران المنقوشة في أثينا وإرسالها الى بريطانيا، وتم وضع نسخ صنعها ذلك الفريق لتحل محل القطع المسلوبة. ولم تكن هذه العملية سريعة، بل استغرقت عدة سنوات وغادرت آخر شحنة اليونان عام 1812. وقد اشترت الحكومة البريطانية هذه الآثار ووضعتها في المتحف البريطاني.
الآثار الأشورية
لنأخذ مثالا آخر عن المتحف البريطاني، فقاعة الآثار الآشورية تمثل جزءا جوهريا منه، على الرغم من الصمت الإعلامي العالمي حول هذه الآثار بالذات. والغريب في الأمر أن زوار المتحف البريطاني لا يجدون أي معلومة داخل تلك القاعة تشير إلى مصدر تلك الآثار، وكأنها أتت من كوكب آخر أو أنها في الحقيقة بريطانية الأصل. وقام كاتب هذه السطور بسؤال الحارس الموجود في القاعة عن مصدر هذه الآثار، واعترف الحارس المسكين بعدم معرفته بذلك، لكنه نصح بسؤال مكتب استعلامات المتحف. لكن ذلك المكتب أدعى عدم امتلاكه أي معلومات حول هذا الأمر. ولذلك لجأت إلى إدارة المتحف. وبالطبع عرف مسؤولو الإدارة من أين أتت الآثار الآشورية، إلا أنهم لم يكشفوا عن سبب عدم ذكر اسم العراق في القاعة، كمصدر لهذه الآثار، ووعدوا بإصلاح الأمر، وما نزال ننتظر. ومن الآثار الآشورية إلى حجر رشيد الذي ربما يحضى بأكثر عدد من الزوار في المتحف بسبب التغطية الإعلامية له. ولهذا الأثر حكاية مضحكة حيث عثر عليه الفرنسيون عام 1799 بعد احتلالهم مصر ثم استولى عليه البريطانيون عندما انتصروا على الفرنسيين في مصر، فنقل الحجر إلى المتحف البريطاني عام 1802.
إن ذكر المتحف البريطاني لا يعني أن بقية المتاحف الشهيرة مختلفة، فمتحف برغامون الألماني في برلين يحوي أشهر مدخل مدينة في التاريخ القديم، ألا وهو باب عشتار من مدينة بابل في العراق، الذي نقله الخبراء الألمان إلى المتحف أثناء الحرب العالمية الأولى. ولا يعلم زوار المتحف أن ما يرونه ليس سوى الجزء الأصغر من الباب الشهير، حيث يتكون مدخل المدينة من جزئين، وما يزال الجزء الأكبر في مخازن المتحف. ويفتخر المتحف به وكأنه مدخل تاريخي لمدينة برلين نفسها. أما متحف اللوفر الذي يعد أشهر متحف في العالم، فليس أفضل من غيره من المتاحف بالنسبة لطريقة الحصول على المعروضات. ومن أشهر معروضاته لوحة «الزفاف في قانا» التي استولى عليها نابليون عام 1797 عندما احتل إيطاليا، ونقلها الجنود الفرنسيون إلى متحف اللوفر بطريقة أحدثت أضرارا كبيرة بها، إذ لم تكن أهمية اللوحة الفنية تعني شيئا لهم. ويجد الزائر هذه اللوحة الرائعة معلقة أمام اللوحة الشهيرة الموناليزا في المتحف المذكور. ويفتخر المتحف كذلك بعرض أثر بالغ الأهمية من النواحي الأثرية والفنية والقانونية في الوقت نفسه، وهو مسلة حمورابي التي تعد أقدم مجموعة متكاملة للقوانين في التاريخ ومصدرها مدينة بابل العراقية.
الاحتلال والأثار
ليس الاحتلال الوسيلة الوحيدة للحصول على الآثار، وهناك حكاية لإحدى أهم الوسائل كانت بطلتها الشخصية الإعلامية الأمريكية كيم كاردشيان المعروفة بحبها لجذب الأضواء وكاميرات رجال الصحافة، فأثناء زيارة لها لمتحف الميتروبوليتان الشهير في نيويورك لاحظت وجود تابوت ذهبي من الفترة الفرعونية داخل صندوق ضخم من الزجاج. وفكرت في الاستعراض أمام كاميرات الصحافيين إلى جانب ذلك الصندوق. ولم يخيب الصحافيون آمالها حيث ظهرت صورتها مع ذلك التابوت في الصحف العالمية ومواقع الإنترنت حيث شاهدها الملايين. وسرعان ما وصلت معلومة إلى المدعي العام في نيويورك مفادها أن هذا التابوت في الواقع مسروق من مصر! وحسب المصادر الصحافية فإن مجموعة من الأشخاص قاموا عام 2011 بالحفر في موقع أثري في مصر ووجدوا تابوتا ذهبيا يحتوي على مومياء، فرموا المومياء في النيل وأخذوا التابوت. وظهر التابوت في إمارة الشارقة، ثم ظهر في مدينة هامبورغ وبعد ذلك في باريس، حيث باعه اثنان من التجار إلى متحف الميتروبوليتان بأربعة ملايين دولار مع أوراق مزورة غير متقنة تبين أن التابوت قد أخرج من مصر بطريقة رسمية. والمضحك في الأمر أن من فضح الأمر كان أحد الذين حفروا في الموقع الأصلي وأخرجوا التابوت. ولم يكن سبب كشفه الحقيقة لاستيقاظ ضميره، أو شعوره الوطني أو الديني، بل عدم استلامه أتعابه. ولحسن الحظ أن هذا التابوت أعيد إلى مصر عام 2019 لتنتهي هذه الحكاية الجديرة أن تكون فيلما سينمائيا. ومن المعروف أن جهود المهربين في التنقيب تلحق أحيانا أضرارا كبيرة بالآثار ليس في مرحلة التنقيب حسب، بل في مرحلة النقل أيضا. ويحرم هذا العمل الشعوب وعلماء الآثار الجادين من فرصة دراسة هذه الآثار.
وإذا ظن القارئ أن تهريب الآثار يقتصر على بعض السكان المحليين في الشرق الأوسط، فهو على خطأ تام، حيث إن من المعروف أن بعض علماء الآثار الغربيين يقومون بذلك، وحتى بعض السياح والدبلوماسيين أحيانا. وكانت جهود التنقيب عن الآثار في الشرق الأوسط قد بدأت بشكل جدي في أواسط القرن التاسع عشر. وكانت الطريقة البدائية في التنقيب والنقل تلحق أضرارا بالآثار، حتى إن كارثة رهيبة أثارت فضيحة عالمية وقعت عام 1855 بسبب سفينة فرنسية مصحوبة ببعض المركبات الصغيرة في نهر دجلة بالقرب من مدينة القرنة العراقية، إذ غرقت تلك السفينة مع حمولتها المكونة من ثلاثين طنا من الآثار الآشورية التي لا تقدر بثمن. وكانت أغلب هذه الآثار في طريقها إلى متحف اللوفر.
مكافحة تهريب الأثار
تكافح المتاحف العالمية وحكومات بلدانها وبكل الوسائل للحفاظ على المقتنيات المنهوبة. وبعض الحجج المستعملة تدل على ضيق في الخيال، فالمتاحف البريطانية تدعي أن قانونا صدر في بريطانيا عام 1963 يمنعها من إعادة أي آثار. ويدعي بعض الخبراء الغربيين أنهم الأفضل رعاية وأكثر حبا لهذه الآثار، ما يعطيهم الحق الأخلاقي والقانوني للاحتفاظ بها مهما كانت طريقة الحصول عليها أصلا. ويدافع بعض الخبراء عن المتاحف والمعارض بقولهم إنهم يدرسون التاريخ والوثائق الخاصة بكل من يقدم عملا أثريا. ولنأخذ مثالا عن هذه الوثائق، فالوثائق التي قدمها السفير البريطاني في إسطنبول مدعيا أنها رخصة من السلطات العثمانية لأخذ الآثار من أثينا، كانت مريبة حيث لا توجد نسخ لها في السجلات العثمانية، وهناك شكوك حقيقية حول حقيقتها، لاسيما أن مصادر ذكرت قيام ذلك السفير برشوة المسؤولين العثمانيين المحليين آنذاك، لكن السلطات البريطانية آنذاك اعترفت بها وما تزال تتمسك بقرارها ذلك، وبذلك فإن السلطات البريطانية تعترف بشرعية احتلال العثمانيين لليونان، بينما كانت في الوقت نفسه، من أهم الداعمين لاستقلال اليونان عن الدولة العثمانية. وبالتالي هنالك تناقض واضح في تعريف الشرعية بين عالمي السياسة والآثار. وصرح أحد مسؤولي المتحف البريطاني بأن مقتنيات المتحف تسرد تاريخ البشرية المشتركة، أي أن إدارة المتحف تعد نفسها ممثلة للبشرية جمعاء، ولا نعلم من انتخبها لهذا المنصب، وكأن جميع أفراد البشرية يستطيعون زيارة المتحف متى يشاؤون، فالمواطن العراقي لن يستطيع الحصول على التأشيرة اللازمة والمال اللازم للسفر إلى أوروبا لمشاهدة الآثار الآشورية، أو باب عشتار، أو مسلة حمورابي التي أخذت جميعا من بلده، بينما يستطيع المواطن الغربي القيام بذلك بسهولة. ولزيادة الطين بلة لا تكشف المتاحف عن ما تملك من مقتنيات في مخازنها، التي تكون عادة أكثر من المعروض بشكل كبير جدا. وقد يكون السبب أن الكشف عن هذه المعلومات قد يثير ضجة سياسية وفضائح، كما قد يكون مقدمة للمطالبة بإعادة هذه المقتنيات، ما يجعل هذه المتاحف فارغة. وقد أقر رئيس الوزراء البريطاني ديفد كاميرون بذلك بنفسه عندما علق على طلب الهند إعادة ماسة شهيرة لدى القصر الملكي البريطاني، حيث قال إن إعادة شيء واحد إلى بلده الأصلي سيعني أفراغ المتحف البريطاني.
مهما كانت حجج المتاحف والخبراء ومالكي الآثار خارج نطاق المتاحف، فإن هذه الآثار يجب أن تعاد إلى أصحابها الحقيقيين، ومعاقبة كل من يسرقها أو يتاجر بها بشكل جدي، بالإضافة إلى ذلك يجب تعويض البلدان التي أتت منها هذه الآثار ماديا بسبب استفادة الدول التي أخذتها اقتصاديا والاستيلاء عليها عنوة أو بشكل غير أخلاقي.