تخطي إلى المحتوى
بيروت تفتقد الحلة الرمضانية القديمة... الأزمة غيرت عادات الأهالي في الشهر الكريم بيروت تفتقد الحلة الرمضانية القديمة... الأزمة غيرت عادات الأهالي في الشهر الكريم > بيروت تفتقد الحلة الرمضانية القديمة... الأزمة غيرت عادات الأهالي في الشهر الكريم

بيروت تفتقد الحلة الرمضانية القديمة... الأزمة غيرت عادات الأهالي في الشهر الكريم

لم تعد العاصمة اللبنانية بيروت، ترتدي حلّتها الرمضانية كسائر المدن العربية والاسلامية، ولم تعد العادات كما كانت سابقاً خصوصاً بعد الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة جداً وانفجار 4 آب (أغسطس) 2020. 
ومع ذلك، بقيت مساجد بيروت وزواياها الشريفة الى اليوم، وفقاً لما ذكر رئيس جمعية "تراث بيروت" سهيل منيمنة في حديث لـ"النهار العربي"، مضاءة بالمصابيح والقناديل، آملاً بأن يتحول ليل المدينة الحزينة الرمضاني مشعاً متلألئاً كالقمر المكتمل ليلة التمام.
 
استعاد منيمنة العادات الرمضانية سابقاً، مشيراً الى أن" الساحات العامة والأحياء كانت تتزين بالأعلام والأضواء وسعف النخيل الأخضر، وتنصب أقواس النصر،على مدخل دار الإفتاء وأبواب المساجد، وترفع يافطات الترحيب برمضان، بما فيها  بعض الآيات القرآنية الكريمة من وحي المناسبة...".
في العودة الى الحقبة العثمانية، ذكر منيمنة أنه درجت العادة على أن تتزين دار الولاية والسرايا و"القشلة" والمؤسسات الرسمية بكل أنواع الزينة،" مشيراً الى أن "أحد أبرز أشكال الإحتفال في شهر رمضان، التي كانت سائدة في بيروت، هو تزيين المناطق والشوارع بسلاسل اللمبات المضيئة والتي تضم الكثير من الألوان والحركات الضوئية التي تمتد لمئات الأمتار، وتتصل من منزل إلى آخر ومن شارع لشارع، ويتشارك أبناء "الحي" بمبادرة فردية منهم وعلى نفقتهن في تحضير زينة رمضان وتركيبها كإحدى أشكال التعاون التي كانت سائدة بين أبناء المنطقة الواحدة".

يتصدر المشهد، وفقاً لمنيمنة، "فانوس رمضان بزينته الفولكلورية والتراثية الخاصة بالشهر الفضيل، حيث يشكل أساساً للزينة الرمضانية في الساحات والشوارع والمطاعم والمنازل، فضلاً عن أن الأطفال كانوا يحملونه ويطوفون به مرددين الأغاني الرمضانية في جو إحتفالي ولا أروع...".
مدفع رمضان
عاد منيمنة إلى القرن الماضي عندما "كان عدد سكان بيروت يزيد ويكثر ، "برزت حاجة ملحة الى وسيلة ليعرف الناس حلول شهر رمضان المبارك والاستعداد  للصوم، وتذكيرهم أيضاً بموعدي الإفطار والإمساك، لا سيما وأن بيروت في تلك الحقبة لم تكن قد عرفت بعد جهاز "الراديو" الذي دخلها أول مرة عام 1928". ولفت  الى أن "الدولة العثمانية ارتأت أيام إبراهيم باشا استحداث مدفع في ولاية بيروت، لإعلام الناس أن حلول شهر رمضان المبارك ثبت بالوجه الشرعي".
وقال منيمنة: "مساء يوم 29 شعبان أو مساء الثلاثين، كان المدفع  يطلق 21 طلقة للاعلام عن رؤية الهلال، والعدد نفسه عند ثبوت هلال شهر شوال إحتفالاً باستقبال عيد الفطر السعيد. كذلك كان يطلق  21 طلقة مساء التاسع من ذي الحجة إيذاناً بحلول عيد الأضحى المبارك، لذلك أطلقت على هذا المدفع تسمية "مدفع رمضان والعيدين".

نقل المدفع إلى تلة الخياط
وحدد منيمنة موقع المدفع أيام الدولة العثمانية، بحسب ما يشير المؤرخ عبد اللطيف فاخوري، في الثكنة العسكرية الواقعة على الرابية المطلة على بيروت، عند ما يعرف اليوم بمجلس الإنماء والإعمار"، مشيراً الى أنه "كان يشرف على إطلاق المدفع ميقاتي من الأوقاف آنذاك، فيسحب من جيب سترته ساعة معلقة "بكستك" ذهبي، تبين إشارة إطلاق المدفع، فيحدث دوياً ترتج له المدينة الصغيرة".
وصف منيمنة مدفع رمضان، "فقدكان له دولابان كدواليب العربات، وقذيفته حشوة قماش كتان محشوة باروداً. وكان هذا النوع من المدافع تجره البغال من مركزه في ثكنة مار الياس المعرف اليوم بثكنة الحلو ودام هذا الأسلوب حتى العام 1923،" مشيراً الى أن "الجيش العثماني كان يتولى مهمة إطلاق المدفع من أعلى ربوة في بيروت آنذاك وكانت تعرف بمنطقة "الثكنات" أي ما بين السرايا الحكومية ومجلس الإنماء والإعمار الآن".

وأشار الى أن "المدفع كان طوال شهر رمضان المبارك يطلق طلقة وقت الغروب، فور شروع المؤذن في رفع الأذان من أعلى مآذن المساجد، قبل أن تكون قد تزودت مكبرات الصوت كما في زمننا، إعلاناً بحلول وقت الإفطار، كذلك كانت تطلق من فوهة المدفع طلقة حين موعد الإمساك قبيل مطلع الفجر.

وعند انفجار قذيفة المدفع بعد إطلاقها باتجاه البحر، كانت تحدث دوياً قوياً ترتج له بيروت المدينة الصغيرة آنذاك،" مشيراً الى أنه "بعد العام 1935، أي بعد 17 عاماً على دخول جيوش الحلفاء وانقضاء الدولة العثمانية اتسعت مدينة بيروت جنوباً وغرباً، وظهرت أحياء جديدة كانت تعرف خلال الحقبة العثمانية بظاهر بيروت أي الأحياء الواقعة خارج السور، حيث قررت المفوضة العليا الفرنسية، التي كانت تشرف على هيئة شؤون الإفتاء والأوقاف الإسلامية بصفتها جزءاً من الدولة، وبعد مشاورة مفتي بيروت وعلماءها نقل مدفع رمضان والعيدين الى منطقة تراعي المتغير، فآختارت محلة تلة الخياط التي كانت تطل على معظم أحياء بيروت بسبب إرتفاعها عن باقي المناطق، فأشرف على المدفع وإطلاقه رجال القناصة اللبنانية (جيش الشرق)، وعُين المايجور المتقاعد غيناردي مسؤولاً عنه، ومن بعدهم الجيش اللبناني بعد الاستقلال".
وأكد أنه "بقي إطلاق مدفع رمضان والعيدين قائماً حتى قبيل الحوادث اللبنانية في العام 1975، ولكن من منطقة تلة الخياط، التي تعد أعلى مرتفع في بيروت". واوضح أنه "خلال الحرب التي عصفت بلبنان، كان يتعذر التمييز بينه وبين المدافع التي كانت تستخدم للأغراض العسكرية!

بعد نهاية الحرب الأهلية العام 1990، أصدرت الحكومة اللبنانية قراراً قضى بإعادة العمل بمدفع رمضان في الأول من العام 1995، ولأن المدافع الحديثة يجب إبعادها عن تجمعات السكان كون مساحة بيروت وضواحيها قد تضاعفت، جرى استحداث مربض خاص لأحد مدافع الجيش اللبناني قرب السفارة الكويتية في بئر حسن، وتم توجيه المدفع لناحية البحر".

المسحراتي
كثيراً ما كان الأطفال يفرحوا لسماع صوت "المسحراتي"، خصوصاً إذا ما سمعوه يناديهم بأسمائهم (بطلب من أهاليهم) لتدريبهم على الصيام"، قال منيمنة. واضاف أن ذلك حصل "حينما كانت بيروت بمناطقها وأحيائها وحارتها يلتم فيها أهلها وأبناؤها، فينهضون من فراشهم، رغم أن النعاس مخيم عليهم، ويتوزعون مسرورين وفرحين إلى جانب أهاليهم ويشاركونهم سحورهم، وسط حالة من الألفة العائلية، التي هي من ميزات الشهر الكريم".

السحور إذن، وفقأً له، "من العادات والتقاليد الرمضانية التي إعتاد عليها الصائمون، لا سيما وأنها مناسبة وفرصة لالتئام أفراد العائلة، لذلك ما زالوا حتى يومنا هذا يحرصون عليها طيلة الشهر الفضيل المفعم بالتقوى والإيمان والطاعات والحرص على صلة الرحم". ‎‏‎
وقال منيمنة إن الاهالي يفتقدون في شوارع بيروت الى المسحراتي بصوته الجهوري الجميل في حارات وأزقة المدينة وهو ينقر على طبلته التي لا تفارقه، موقظاً الناس للسحور، لتعيده إلى ذلك الزمن الذي كنا نشعر فيه حقيقة بأجواء رمضان".

بالنسبة إليه، "المسحراتي" ظاهرة، رمضانية قديمة، وتقليد تراثي عريق بين العصور والأجيال منذ زمن بعيد، إرتبط بشكل وثيق بشهر رمضان المبارك وصار ملازماً له".
وخلص الى أن العادة جرت قديماً في كثير من أحياء بيروت أن تجول جوقة من "المسحراتية"، هي عبارة عن مجموعة من المنشدين ينشدون أشعار التسحير على أنغام الرق والمزاهر، فتخرق أصواتهم سكون الليل لتُسمع مناجاتهم في كل الأرجاء".
المصدر: "النهار العربي"