تخطي إلى المحتوى
«ليت يدي قطعت من ها هنا ولم أكتب حرفاً» «ليت يدي قطعت من ها هنا ولم أكتب حرفاً» > «ليت يدي قطعت من ها هنا ولم أكتب حرفاً»

«ليت يدي قطعت من ها هنا ولم أكتب حرفاً»

جملة قاسية، قالها أبو حيان التوحيدي، نقلاً عن معلمه الكبير سفيان الثوري الذي مزق كتبه إلى ألف جزء وطيَّرها في الريح قبل أن يحرق كتبه ومخطوطاته ويمحو في الماء ما استعصى على النار. يبدو المشهد مؤذياً، فمن أحرق كتبه كأنه أحرق لحمه وأشعل ناراً في الذاكرة. ومع ذلك، لم يتوان أبو حيان لحظة واحدة عن حرقها وهو في عمر التسعين، قبل أن يكتب رسالة بيّن فيها الدافع الجنوني للحرق، وكأنه كان خارج مدار الوعي. شيء واحد يبقى ماثلاً أمامنا ونحن نقرأ هذه الرسالة، وكأنّ حرقة الكاتب لم تتغير إلا قليلاً، وكأن المجتمع الذي عاش فيه التوحيدي هو مجتمعنا الحالي. لقد عزلوه وأذلوه وجوّعوه، ما أشبه البارحة باليوم. لنقترب من هذا الأنين: «شقَّ عليَّ أن أدع كتبي لقوم يتلاعبون بها، ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشتمون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها، ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها (…) إن عياني منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة، فما صح لي من أحدهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ، ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم (…) فإني في عشر التسعين، وهل لي بعد الكبرة والعجز أمل في حياة لذيذة؟ أو رجاء لحال جديدة (…) الله يا سيدي لو لم أتعظ إلا بمن فقدته من الإخوان والأخدان في هذا الصقع من الغرباء والأدباء والأحباء لكفى، فكيف بمن كانت العين تقربهم، والنفس تستنير بقربهم، فقدتهم بالعراق والحجاز والجبل والري، وما والى هذه المواضع، وتواتر إلى نعيهم، واستدت الواعية بهم، فهل أنا إلا من عنصرهم؟ (…) وبعد، فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم، ويؤخذ بهديهم، ويُعشى إلى نارهم، منهم: أبو عمرو بن العلاء، وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر وورع معروف، دفن كتبه في بطن الأرض فلم يوجد لها أثر.
وهذا داود الطائي، وكان من خيار عباد الله زهداً وفقهاً وعبادة، ويقال له تاج الأمة، طرح كتبه في البحر وقال يناجيها: نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول، وبلاء وخمول. وهذا يوسف بن أسباط، حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحه فيه وسد بابه، فلما عوتب على ذلك قال: دلنا العلم في الأول ثم كاد يضلنا في الثاني، فهجرناه لوجه من وصلناه، وكرهناه من أجل ما أردناه. وهذا أبو سليمان الداراني، جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال: والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك.
وهذا سفيان الثوري، مزق كتبه ألف جزء وطيرها في الريح وقال: ليت يدي قطعت من ها هنا ولم أكتب حرفاً. وهذا شيخنا أبو سعيد السيرافي سيد العلماء قال لولده محمد: قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار (…) فلم تعنّى عيني أيدك الله بعد هذا بالحبر والورق والجلد والقراءة والمقابلة والتصحيح وبالسواد والبياض، وهل أدرك السلف الصالح في الدين الدرجات العلى إلا بالعمل الصالح، وإخلاص المعتقد والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا وخدع بالزبرج، وهوى بصاحبه إلى الهبوط؟ وهل وصل الحكماء القدماء إلى السعادة العظمى إلا بالاقتصاد في السعي، وإلا بالرضا بالميسور، وإلا ببذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم، فأين يذهب بنا وعلى أي باب نحط رحالنا؟؟ وهل جامع الكتب إلا كجامع الفضة والذهب؟ وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما؟ وهل المغرم بحبها إلا كمكاثرهما؟ هيهات، الرحيل والله قريب، والثواء قليل، والمضجع مقض والمقام ممض، والطريق مخوف والمعين ضعيف، والاغترار غالب، والله من وراء هذا كله طالب (…) مع ما أجده من انكسار النشاط وانطواء الانبساط لتعاود العلل علي وتخاذل الأعضاء مني، فقد كل البصر وانعقد اللسان وجمد الخاطر وذهب البيان، وملك الوسواس وغلب اليأس من جميع الناس».
هذا جزء يسير من رسالة طويلة، نقرأ فيها محنة الكتابة والكاتب. فإذا كانت الكتابة متعة، فهي أيضاً مأساة في زمن لا يكترث بما يقوم به الكاتب. نتعجب اليوم كيف لا يعيش الكاتب بكتابته؟ الرسالة جواب كلي. فقد جعل التوحيدي من الكتابة والتدوين مهنة وحياة، فكان مآله هذا الوضع القاسي الذي يجسده بشكل واضح في رسالته.
هل كان التوحيدي مريضاً نفسياً حتى يقوم بما قام به. أعتقد أنه وصل سقف التحمل ولم يعد بإمكانه أن يواصل في نفس الحالة. حرق الكتب هو انتقام من ذات لم تجد من يقدرها وسلكت الطريق الخطأ حينما جعلت من الكتابة حياة، هو انتحار شبيه بما قام به الفنان الهولندي فان كوخ عندما أطلق النار على صدره وظل مع معاناة الجرح الفني أياماً إلى أن مات، بينما انتحر أبو حيان التوحيدي رمزياً، قبل أن يختلي بنفسه في مغارة العزلة، ليكتب كتاب الوداع. كتابه الصوفي المتجرد من صغائر الدنيا «الإشارات الإلهية» الذي كرر فيه نفس الجملة التي وردت في الرسالة «لقد أمسيتُ غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النِّحلة، غريب الخِل، مستأنسًا بالوَحشة، قانعًا بالوحدة، معتادًا للصمت، ملازمًا للحَيرة، محتملًا للأذى، يائسًا من جميع ما أرى».

المصدر: جريدة القدس