لا يمكن فصل تاريخ المدارس الدينية في مصر عن تاريخ السياسة، حيث أنشئت المدرسة لخدمة المذهب وفق توجه السلطة الحاكمة في مصر، ولما أنشأ الفاطميون ما يسمى "دار العلم" لنشر المذهب الشيعي، نبهوا صلاح الدين الأيوبي لاحقا لأهمية المدارس في نشر الثقافة وتمكين السياسة من أدوات الحكم، وعندما جاء المماليك أصبح من عادتهم عدم إنشاء المساجد إلا إذا كانت ملحقة بالمدارس.
وخلال العصر العثماني تركزت المدارس في صحن الجامع الأزهر من خلال أروقة خاصة بالطوائف المختلفة، والمذاهب الأربعة، مثل رواق الصعايدة والمنايفة، ورواق "الجبرت" للإريتريين والأفارقة، ورواق المغاربة ومن أشهر من درسوا فيه الملك المغربي محمد الخامس (1909 -1961)، وكذلك الرئيس الجزائري هواري بومدين (1932 – 1978)، وقبلهم العلامة ابن خلدون وغيرهم كثير.
ويقول المقريزي (764 ـ 845هـ) (1364 – 1442م) في خططه المسماة "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار" إن "المدارس لم تكن تُعرف في زمن الصحابة ولا التابعين، وأشهر ما بني في القديم المدرسة النظامية ببغداد لأنها أوّل مدرسة قرّر بها للفقهاء معاليم وهي منسوبة إلى الوزير نظام الملك أبي عليّ الطوسيّ السلجوقي في مدينة بغداد".
وأمّا مصر فإنها كانت حينئذ بيد الخلفاء الفاطميين ومذهبهم مخالف لهذه الطريقة وإنما هم شيعة إسماعيلية، وأقيم أول درس من قبل السلطان بالجامع الأزهر، فكان يقرأ فيه كتاب فقه على مذهب الشيعة، كما أقيم مجلس بجامع عمرو بن العاص لقراءة كتاب الوزير، ثم بنى الحاكم بأمر الله أبو عليّ منصور بن العزيز "دار العلم" بالقاهرة.
ولما انتهت الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب أبطل مذاهب الشيعة من ديار مصر وأقام بها مذهب الإمام الشافعيّ ومذهب الإمام مالك.
المدارس قبل المساجد
الدكتور أيمن فؤاد سيد رئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، ورئيس هيئة المخطوطات الإسلامية، والأستاذ المتفرغ في كلية اللغات والترجمة يقول للجزيرة نت "ظهرت المدارس في الشرق الإسلامي في القرن الخامس الهجري (11م) كرد فعل لنشاط دور العلم الشيعية؛ إذ كانت مهمتها نشر المذاهب السنية ومحاربة المذاهب الشيعية عن طريق العلم والتدريس، حيث ازدهرت حركة تأسيس المدارس مع خلفاء السلاجقة وبخاصة على يد الوزير نظام الملك، وبدأت في خراسان وانتقل هذا التقليد واستمر مع الزنكية النورية، ثم أدخلها صلاح الدين مصر بعد سقوط الدولة الفاطمية، فأنشأ المدرسة الناصرية والسيوفية، وما زالت بعض هذه المدارس موجود من عهد الأيوبيين مثل الصالحية النجمية".
ويضيف الأكاديمي المصري قائلا إن إنشاء المدارس ازدهر في عهد المماليك الذين نشطوا في بناء المدارس بدلا من المساجد، وتتكون المدرسة من 4 إيوانات؛ كل إيوان مخصص لدراسة مذهب فقهي بالإضافة للعقيدة الأشعرية.
في خدمة المذاهب
وتصف "موسوعة العمارة والآثار والفنون الإسلامية – الجزء الأول " للدكتور حسن الباشا (1919 – 2001) هذه المدارس من حيث التكوين الداخلي والخارجي، ويقول المؤلف "كانت معظم المدارس في مصر الأيوبية التي بدأ تأسيسها مع صلاح الدين مخصصة لتدريس مذهب واحد: إما الشافعي أو المالكي أو الحنفي، وذلك فيما عدا المدرسة "الكاملية" التي كان يدرس بها الحديث".
أما من الداخل فقد استبدل بالأروقة ذات الأسطح المنخفضة والمحمولة على صفوف من الأعمدة إيوانات فسيحة مقببة شاهقة الارتفاع يفتح كل منها على الفناء الأوسط وبينها مساكن الدارسين وقاعات الدراسة من طوابق عدة، كما كان يلحق بها ضريح المنشئ، ومن مدارس ذلك العصر التي تتمثل فيها بعض هذه المظاهر المبهرة مدرسة السلطان قلاوون بالقاهرة (662 هـ / 1264م).
عمارة المدارس
ويقول الدكتور حسام إسماعيل أستاذ الآثار الإسلامية في جامعة عين شمس "في عصر المماليك، اعترف الظاهر بيبرس البندقداري بالمذاهب الأربعة، وعيّن لكل مذهب قاضيا، يرأسهم جميعا قاضي المذهب الشافعي، وبنى المدارس من 4 إيوانات بينها صحن أوسط مكشوف، ثم جاء السلطان قلاوون وبنى مجموعة قلاوون في شارع المعز، وكان التقليد أنه مع إنشاء المدارس، يتم إنشاء سبيل للمارة، ويعلوه كتَّاب موقوف لتعليم الأطفال من أيتام المسلمين، وهكذا بنى الناصر محمد بن قلاوون مدرسة من 4 أدوار بجوار مجموعة والده".
ويضيف الدكتور إسماعيل للجزيرة نت "صار إنشاء المدارس على هذا التقليد حتى جاء السلطان حسن وابتكر شيئا جديدا في مدرسته، بنى 4 قاعات متعامدة على صحن مكشوف، وعلى جانبيها 4 مدارس للمذاهب الفقهية الأربعة، كل مدرسة تتكون من إيوان وصحن، وحولها غرف المدرسين والطلبة، ومثله أنشأت السيدة خوندا بركة أم السلطان شعبان بن الناصر محمد بن قلاوون في شارع باب الوزير".
ومع ازدهار دولة المماليك الثانية 784 هـ بنى السلطان برقوق مدرسته في شارع المعز من 4 إيوانات على صحن أوسط مكشوف، وأضاف لها خانقاة (دار للتصوف والانقطاع للعبادة) وسكنا للصوفية بالقرب من حارة اليهود.
جرايات ومساكن ووقفيات
ومع مجيء السلطان الغوري كانت منطقة الغورية سوقا كبيرا للتجارة الدولية للمنسوجات من القرن الـ13م، فأنشأ فيها مسجدا وخانقاة وأوقف عليها مجموعة من الدكاكين.
ثم بعد ذلك تركزت المدارس في الجامع الأزهر من خلال أروقة خاصة بالطوائف والمذاهب الأربعة، مثل رواق الصعايدة، ورواق "الجبرت" للإريتريين .
وكان يلحق بالمدرسة قبة تحوي مقبرة مؤسس المدرسة، وسبيل يعلوه كُتَّاب، بالإضافة إلى مساكن للطلبة.