لم ينته الصيف بعد وعطلته المديدة في فرنسا، ونراها تشهد افتتاحًا مبكّرًا واستئنافًا لتقليد ثقافي عريق، يعيد الجمهور الكبير من استرخائه إلى معانقة حارّة للكتاب، وإن لم ينقطع عنه يومًا. انطلاق الموسم الأدبي الجديد هو عرس فرنسيٌّ فريد، لا مثيل له في أي بلد غربي آخر، أما البلدان العربية فهي معفاة من التزام أو احترام أيّ موعد جدّي مع الكتاب، متروك فيها مصيره للصدفة، وإلى حدّ ملاذُه معارض الكتاب المتفرقة، وبعض إرادات حيّة.
تشهد فرنسا منذ تحرّرت من الاحتلال النازي (صيف 1944) ثلاثة مواسم أدبية كبرى: الأول، يُسمّى موسم الخريف، وينطلق عمليّا ابتداءً من شهر أيلول/ سبتمبر، ويمتد إلى نهايات تشرين الثاني/نوفمبر، شهر إعلان الجوائز الرفيعة للأعمال الروائية الصادرة للعام الجاري، فالدخول المعنيَّ وإن شمل الإنتاج الثقافي مجتمعًا، الرواية عماده وسواها هامش.
يُعرف هذا الموسم، أيضًا، وخصوصًا، بتقديم دور النشر لأسماء جديدة وروايات بواكير وهم دائمًا شباب واعدون، الرجال والنساء بالتساوي تقريبًا، نشر أعمالهم شهادة تفوّق ورهانٌ عليهم بحساب مئات مخطوطات تتوصل بها هذه الدور وتُرشّحها لسوق مكتظة حامية الوطيس، الكتبيون أعلم بها.
ينطلق الموسم الثاني بُعَيد أعياد السنة الجديدة، يكون الناشرون قد تخفّفوا من حملهم الأول، وجنوا حصاد المبيع ربحًا وخسارة، المحظوظون من فاز كُتّابهم، من يظفر بجائزة "غونكور" يفترض أن يبيع عشرات الآلاف، وقد تصل إلى المليون كما حدث مرّتين مع مارغريت دوراس (1984) بروايتها (l’Amant) وإرفي لتوليي (2020) في l’Anomalie.
تُخصّص هذه الفترة غالبًا لكتّاب راسخين لا تنقصهم شهرة، يواصلون إبداعهم ويجدّدون الصلة بقرائهم، فلكلّ كاتب جمهور. السوق هنا متوسطة بعد إشباع ما سبقه؛ فالسوق مقياس حاسم وسرُّه عند الكتبيين، وأي عالم!.
في فصل الربيع بدءًا من شهر نيسان/ أبريل، ينطلق الموسم الثالث، كل ما يصدر فيه لروائيين أعلام، أولاً، هؤلاء يحرصون على التميّز بعيدًا من زحام وهرج الداخلين المبتدئين. الأوائل، منهم مثلاً النوبليان باتريك موديانو، ولوكليزيو، تخصّص لهم الصحف والمجلات ملفات، وتتقاسمهم المحطات التلفزية والإذاعية في حوارات، فهم ثروة أدبية وطنية، وهي دورة تجارية للناشرين، لا شيء متروكاً للصدفة، يعرفون كيف يسوّقون كتابهم وبضاعتهم ولا يبخلون.
يمهّد الموسم الثالث والأخير في السنة لفصل الصيف، فلعطلة الشواطئ والجبال كتبٌ مختلفة ومناسبة، من نوع سِيَر السياسيين ومذكراتهم، والفنانين والروايات التاريخية، ولمناسبات ذات صلة بما يجري في العالم من أحداث ساخنة، ويجمع بين الفائدة والمتعة، فهناك استطلاع دائم لمعرفة ميول القرّاء، خلافًا للتشاؤم من أثر طغيان التكنولوجيا، القراء موجودون، مواظبون، ومع كل معرض كتاب يظهر جمهور بذوق جديد يجد من يلبيه.
بناءً على إحصاء Livre Hebdo، المجلة المهنية، يبلغ عدد الروايات الجديدة للموسم الأدبي لخريف هذا العام 459، منها 148 مترجمة و68 لكتّاب ينشرون الرواية الأولى.
هذا العدد الإجمالي يقلّ عن السنة الماضية (466)، وهو العام الثالث الذي تهبط فيه الإصدارات دون الـ500. بيد أن الكتبيين، وهم منظّمون في نقابة، يرون هذا العدد كبيرًا وفوق التحمّل، وفي كل عام يطالبون بالنقص منه، ليتسنّى لهم عرض وتصريف ما يتوصلون به.
فالكتاب الذي لا يجد فرصة جيدة للعرض يموت في حينه، ولكن الناشرين يعارضون ويواجهون بحجج مختلفة، تجارية وأدبية، مخافة منع ظهور مواهب، ونظرًا لتزايد الكُتّاب. لا عجب إذا علمنا أن مائة رواية جديدة عُرضت مبكرًا في السوق بدءاً من 20 من آب/ أغسطس الجاري.
ماذا عن الغلّة الروائية لخريف هذا العام في فرنسا؟ هل هو جنى طيبٌ خالصٌ لوجه الأدب؟ هل لظرف الوباء الذي اجتاح العالم، هو والأوضاع المتقلّبة للبلاد السياسية الاجتماعية، خاصة؟
الإعلام الثقافي الفرنسي الذي يولي لمناسبة الدخول الأدبي الجديد أهميةً لا تقلّ عن المناسبات الكبرى، أبرزها حلّ الجمعية الوطنية عقب انتخابات سابقة لأوانها، وما أسفرت عنه من نتائج غير متوقعة، ثم العيد الرياضي العالمي للألعاب الأولمبية.
يرسم النقاد وإعلاميو الثقافة خريطة تقريبية للجغرافيا الروائية لهذا العام، بترشيح مجموعة من الأعمال، محاولة منهم الى استقراء قضايا وتيمات بارزة يمكن أن تتحدّد بها تيارات وخطوط. هذا نوع خطير من الإعلام يُعلي ويَحُطُّ ويكفيه لزوم الصمت للتحكّم في السوق وتوجيهها، وهذا ما ننتبه إليه الآن، نجد أسماء غالبة تُتداول في المجلات والصفحات الثقافية في وسط أدبي يحتكر سوق النشر فيه "دار هاشيت"، بحصة كبيرة للملياردير فانسان بولوري ذي النزعة اليمينية المتشدّدة. هو الذي بسط هيمنته على عالم النشر والإعلام البصري، ومجموعات أخرى صغرى، ويثير مخاوف الكتّاب وقلقهم حول مضامين أعمالهم وحرّيتهم.
كالعادة في مطلع كل موسم أدبي، تأتي أميلي نوتومب Amélie Nothomb سبّاقة، برواياتها التي تنطلق من ذكريات طفولتها، وتتوسع لاستدراج جوانب أخرى جامعة بين السيرة والحبكة الروائية. جديدها هذا العام بعنوان l’Impossible retour. وينضمّ إليها إريك أورسينا من الجيل القديم.
من العدد الهائل لإصدارات الدخول تختار المجلة المتخصصة Lire magazine 55 رواية تضمّ مجموعة أسماء مجرَّبة ومقروءة منها: جيروم فيراري، غاييل فاي، إيما بيكير، والجزائري كمال داوود في روايته "Houris"، يحكي فيها قصة محنة عاشتها شخصيته خلال العشرية السوداء في الجزائر".
انتقل داود اليوم، الذي اكتسب شهرة بعد كتابته رواية معارضة لـ"الغريب" لألبير كامو، للعيش في باريس، في نوع من اللجوء، بعد تلقّيه تهديدات في بلاده. وتنشر الأسبوعية الجامعة Le 1 des libraires التي يديرها رئيس تحرير "لوموند" السابق والكاتب إريك فوتورينو لائحة طويلة باختيارات الكتبيين حوالى 40 رواية مع مقتطفات، لا بدّ من ملاحظة أن أهل المهنة أهّلوا الدور الصغيرة والمحيطية أكثر من غيرها المركزية؛ بعض أسماء اختياراتهم واردة عند النقاد والمراجعين، أبرزها Maylis de Kerangal بروايتها Jour de ressac، تقوم بتشريح مدينتها لوهافر وعودة بطلها إليها كما عاد عوليس في الأوديسة إلى إيتاكا. غيرها تستلهم التاريخ والأساطير والتجارب الشخصية وهموم العصر.
ما عدا السير الذاتية واستثمار المسارات الحميمية، كفّت الرواية الفرنسية عن الاندراج في مدارس وتيارات، كما هو تاريخها الطويل منذ القرن التاسع عشر، كلّ روائي يصنع عالمًا خاصًا به مثل إقامة يسكنها وتصبح عنوانًا له، لا يمثل الحاضر الحيوي إلّا مساحة ضئيلة فيها. بالرغم من هذا، تشير القراءات الأولى للكمّ الروائي المطروح في الموسم الروائي الجديد إلى ثلاثة مسارات تختطها كاتبات وكتّاب هي: المسار النسوي الجنسي، يمجّد الرغبة ويتحرّر من النظرة الذكورية، رائدته Emma Becker في روايتها المنتظرة باهتمام: "le Mal jolie". المسار الثاني، طابعه الدستوبيا أو الرؤية الكارثية والاستشرافية للمستقبل، من أثر التغيّر المناخي وموجات التطرّف والعصبيات والتهديد النووي. مثاله la ferme du Paradie لـ Bernard Comment ، المسار أو الرؤية الثالثة، موسومة بـ"رواية الأفكار" تُعنى بالمعارك الإيديولوجية الكبرى لعصرنا، بقضايا البيئة واللائكية، والتنمية، مثالان لها Aurélien Bellanger في "les derniers jours du parti socialiste " وAbel Quentin بـ" Cabane".