كثيرٌ من الراحلين تنتهي ذكراهم مع آخر حفنة ترابٍ تُلقى على قبورهم، في حين تبقى ذكرى بعضهم تتناقلها الألسن دون ملل، وتشيد بها الأفواه جيلاً إثر جيل دون كلل، بما تركوه من أعمالٍ جليلة وأفكارٍ نيِّرة، ومن هؤلاء الأستاذ محمد عدنان سالم المدير العام لدار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بدمشق، الذي رحل عن دنيانا منذ أيَّام. في هذه المقالة سأكتب سيرة حياته وعمله في عالم النشر، راجياً أن يتذكَّر كرام القارئات والقراء ما نسوه، وأن يتعرَّفوا على ما لا يعرفونه، آملاً أن أكون قد قدمت لهم المعلومة المفيدة والمهمة.
وُلِدَ بدمشق عام 1932، وبها نشأ، وفيها تزوَّد بثقافةٍ واسعة، وبعد الثانوية العامة نال الإجازة في الحقوق عام 1954، ومع المحاماة بدأ حياته العملية عام 1956، إلا أنَّه لم يصبر على احتمال أجوائها بعد أن رآها أنَّها لا تعتمد على العلم بقدر اتكالها على التأجيل وتبنِّيها لمبدأ التسويف، وما لبث في العام التالي 1957 إلا وكانت هذه المهنة مجرَّد أول محطةٍ من محطات حياته العملية، فتركها بعد أن وجد في الكتاب الذي أحبَّه وشغف به ضالَّته، ليؤسِّس بعدها دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بالمشاركة مع صديقيه أحمد ومحمد الزعبي، وبقي مديراً عاماً لها حتى وفاته، وكان مقرَّها الأول في شارع خالد بن الوليد وسط دمشق، وكانت آنذاك مطبعة يدوية، تطوَّرت إلى قاعة عرض، وأصبحت داراً للنشر بعد انتقالها إلى مكانٍ أرحب قرب ساحة محطة الحجاز للقطارات، عند بداية شارع سعد الله الجابري، تجاه مبنى البريد المركزي، ثمَّ انتقلت في ثمانينيات القرن الماضي إلى بناءٍ أوسع مكوَّن من أربعة طوابق في منطقة البرامكة، قرب الوكالة العربية السورية للأنباء ( سانا )، وما زالت تشغله حتى الآن، وخلال تلك السنوات ضربت جذورها في أرض الفكر، وترسَّخت في فضاء العلم، فأينعت بأغصانها وتنامت بثمارها في آفاق المعرفة المتجدِّدة، متَّخذةً من هذه الكلمات شعاراً دائماً لها.
وطيلة عُمر الدار، لم يسعى ليكون بائع كتبٍ لا يهمُّه المضمون، ولا يعتى بالفكر، وإنَّما خطَّط لرسالة يقوم بأعبائها من مسؤوليةٍ واعية، هي مسؤولية الكلمة التي تبني الإنسان، وتنشئ الحضارة، وتواجه الأعداء، وتدافع عن البلاد والعباد، فوضع خطوطاً عريضة لدار الفكر أهمها تقديم النافع من الكتب، بما فيها من حوارٍ وتجديدٍ وتواصلٍ مع القارئ، واحترام حقوق الملكية الفكرية، دون نسيان الطفولة أمل الأمة بمستقبلٍ أفضل.
وفي مجال التطبيق، اعتمدت الدار على معايير أساسية لم تخرج عنها، هي معايير الإبداع والعِلم والحاجة، ومعايير التدقيق اللغوي لكلِّ كتابٍ، ومعايير التخطيط للمستقبل، وهندسة الأبحاث والأفكار.
والأفكار النيِّرة تحتاج إلى مطبعة لنشرها، فاستخدم أفضل الأجهزة الطباعية الحديثة، من الصف التصويري الضوئي، إلى الطباعة الحاسوبية، متعاوناً بذلك مع مؤسسات ثقافية متعدِّدة، كالمعهد العالمي للفكر الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية، ومركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي، ودار صادر ببيروت، ومعهد غوتة الألماني، كل ذلك أدَّى إلى أن تصل مطبوعاتها اليوم إلى أكثر من 2200 كتاباً غطت جميع أشكال المعرفة، واهتمت بهموم الأمة ومشاكلها واقتراح الحلول المناسبة للقضاء عليها، ناهيك عن مواقعها على الشابكة، وتواصلها مع قرائها عبر بنك القارئ النهم ونادي القراء، وجائزة دار الفكر السنوية للرواية، وتكريم المؤلفين في حياتهم كلَّ عامٍ، والأسابيع الثقافية والندوات الفكرية المتصلة.
ولا شكَّ بأنَّ دار نشرٍ نشيطة كدار الفكر تستحق التكريم، فحصدت جائزة أفضل ناشرٍ عربي من الهيئة العامة المصرية للكتاب عام 2003. كما نالت أربعة من إصداراتها أربع جوائز من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي في الكويت: الجراحة التنظيرية 2000 وآفاق القرن الحادي والعشرين ( 1999 )، هروبٌ إلى الحرية ( 2002 )، موجز تاريخ الكون ( 1998 )، الجينوم البشري وأخلاقياته ( 2005 ).
وإضافة إلى عمله مديراً عاماً لدار الفكر، فقد شغل الوظائف التالية: رئيس اتحاد الناشرين السوريين 1991 ــ 2011. نائب رئيس اتحاد الناشرين العرب 1995 ــ 2006. رئيس اللجنة العربية لحماية الملكية الفكرية 1995 ــ 2006. رئيس الجمعية السورية للملكية الفكرية 2008 ــ 2010. رئيس الملتقى العربي لناشري كتب الأطفال 2008 ــ 2011. عضو مراسل بمجمع اللغة العربية بدمشق 2016 ــ 2022.
ترك نحو عشرين كتاباً أغلبها يعالج قضايا الكتب والكتَّاب، منها: القراءة أولاً، 1993. هموم ناشر عربي، 1994. الكتاب العربي وتحدِّيات الثقافة، 1996. الكتاب في الألفية الثالثة: لا ورق، ولا حدود، 2000. أمريكا والإرهاب، ترجمة عن الإنكليزية، 2002. على خطِّ التماس مع الغرب، 2005. القرصنة في عصر اقتصاد المعرفة، 2006. وللحجِّ مقاصد لو نجتهد لتلبيتها، 2007. القدس ملامح جيلٍ يتشكَّل، 2009. حرية النشر وإشكالية الرقابة على الفكر، 2011. القدس 2048 ( رواية مفتوحة )، 2011. آفاق التغيير والعصر الرقمي، 2011. فن النشر وصناعة الكتاب ( مرجع أساسّي للكتَّاب والمحرِّرين والمحقِّقين والناشرين )، 2015. كما شارك بعددٍ من الكتب، منها: تسريع القراءة وتنمية الاستيعاب، 1996. المعجم المفهرس لمعاني القرآن الكريم في جزأين، 1996.
وقد تميَّزت كتاباته بمتانة العبارة، ورشاقة الأسلوب، النابعة من المبدأ التي آمن به: " قوة الكلمة "، فكتابٌ صغير يولِّد من النور ما لا يولِّده أيُّ مصدرٍ للطاقة.
وبذلك أصبحت دار الفكر التي أراد مؤسِّسوها أن تكون مؤسسة ثقافية مميَّزة، قد قفزت أكثر من ذلك بكثير، بفضل جهوده وجهود العاملين معه، الذين ساروا معه على النهج القويم ذاته.
وإضافةً إلى تكريمه الرسمي من وزارة الثقافة السورية عام 2017، كرَّمته أيضاً عام 2012 " مؤسسة وسام العالِم الجزائري " التي يرأسها الدكتور محمد باباعمي، اعترافاً بجهوده في خدمة العِلم وأهله، وترقية المستوى المعرفي وتشريف الأمة، زاده الله رفعة ورضا.
توفِّيَ محمد عدنان سالم بدمشق بتاريخ 20 / 5 / 2022، وشيَّعه عددٌ كبيرٌ من أهل العلم والفكر، وأقام له اتحاد الناشرين السوريين ودار الفكر حفل تأبين في مكتبة الأسد الوطنية حضره حشدٌّ كبيرٌ من المهتمين والمتابعين للفكر، ومن خلال الكلمات التي اُلقيت، ومن الكتاب الذي جرى توزيعه على الحضور: " محمد عدنان سالم عاشق الفكر والثقافة، كلماتٌ وأبحاث مهداة إليه "، استقينا هذه المقالة.