في الثالث والعشرين من ابريل كان يوم الكتاب العالمي. أنا لست ميالا إلى الاهتمام بهذه الأيام التي يحتفي بها العالم. يوم المرأة أو يوم الحب أو يوم العدالة الاجتماعية أو يوم السعادة أو يوم حرية الصحافة أوماتشاء فالقائمة طويلة.
لماذا لا أهتم؟ لأني أنظر حولي وأضحك لافتقاد كل هذه الأشياء في حياتنا العربية. طبعا يمكن أن يقال أنها فرصة أن نتحدث عما ينقصنا، في محاولة منا أن نحقق شيئا منه، وهذا حقيقي، لكن ما أكثر ما كتبنا في ذلك وطالبنا به، وصارت الحياة إلى عكس مانكتب ونطالب. لماذا إذن سأكتب الآن عن اليوم العالمي للكتاب. الكتاب يواجه مشاكل كثيرة في حياتنا العربية، حتي أنني أتخيله يجلس وحيدا في ميدان خالى وسط الليل، وحين أسأله لماذا تجلس وحيدا ومن تنتظر. يقول لي تحتفلون بيومى ولا يزال في بلادكم من يرى أن كتب الفلسفة حرام، وأن كتب الحب بدعة، ويعتبرون شخصيات روياتكم بشرا حقيقيين فتدفعون ثمن مايقولون، ولا يفكرون أنهم لا يستطيعون القبض على أي شخصية، أو نفيها كما يحدث مع الكتّاب أنفسهم لأنهم كتبوها!. كما أنني أكثر من يقف على حدود الدول العربية يفتّشون في قبل أن أدخل، رغم أنى لا اتنقل وحدي، بل أنتم الذين ترسلونني في طائرات أو عربات الشحن، ولا تكتفون بتكديسي فوق بعضي، ولا تشعرون حتي بالألم الذي أعانيه من التكدس. وحتي وقد استبدلتموني أحيانا بمواقع الكترونية يحجبون مواقعكم.
أضحكني الكتاب. لكن ليس هذا هو سبب اهتمامي الوحيد، لكنها كلمة كتبها الدكتور عاطف معتمد على صفحته فى فيسبوك، ذكرتني بما كتبت الآن وأقامت حولي سرايا من الذكريات. والدكتور عاطف معتمد استاذ علم الجغرافيا بكلية الأداب جامعة القاهرة، وحاصل على الدكتوراة من جامعة بطرسبرج بروسيا عام 2001 ، و باحث على خطى العظيم جمال حمدان. أصدر مؤلفات رائعة مثل « ما بعد الشيوعية..الدين والثورة والقومية في زمن التحولات» و»الصراع الروسي الشيشاني في ضوء الرؤية الجغرافية لنزاعات القوقاز» وغيرها. كما ترجم مع آمال شاور كتاب « التصحر.. التهديد والمجابهة « لآلان جرينجر وكتاب «الأرض الحمراء.. جغرافية الآثار في صحراء مصر الشرقية» من تأليف مجموعة من المؤلفين الأجانب وترجمته مع نخبة من المترجمين المصريين، وغير ذلك من كتب هامة. ما قاله الدكتور عاطف معتمد علي صفحته في فيسبوك بمناسبة اليوم العالمي للكتاب تحت عنوان «الكتب التي أفسدتنا!» يتحدث فيه عن كيف حين ننفق وقتا مع كتاب في الجيولوجيا أو في التاريخ أو في الجغرافيا، نكون ضحايا ما نقرأ لأننا نعود الي ماحولنا فلا نجده شبيها بما قرأنا، بل نجده فائق المسخ و يدعو إلى السخرية . حتي يقول:
«لكن هون عليك، ما زلت أفضل حالا من ذلك البائس الأكبر الذي يمضي ساعات طوال بين الكتب يقرأ عن الحرية وتداول السلطة… تطير معها بين جناحين عبر النهضة والتطوير والتقدم والمساواة ثم إذا بك حين تغلق الكتاب تتلقى صفعة الواقع المتربص بك من كل حدب وصوب» ثم ينهي كلمته:
لا تُفرِط في القراءة ..ما دمت تعيش هنا»
وجدت كلمته صدى في روحي فمن ناحية أنا أعرف عمق كتاباته وأفكاره. ومن ناحية أخرى جعلني اتذكر سخريتي وابتعادي عن هذه الأيام العالمية التي بيننا وبينها فراسخ من الزمن وضحايا قادمون. أعرف أن جملته الأخيرة بها إدانة لواقع الحال هنا وليست للقراءة، وكيف هي متماهية مع فكري وشعوري. علقت عليه عما شعرت به مع آخر كتاب قرأته وهو « تصورات العدالة في تاريخ الفلسفة» للدكتورة فريال حسن خليفة. وكيف صرت أنظر حولي في أسى مفتقدا العدالة. لم أتوسع في الرد. والحقيقة أن أحد أسباب قراءتي للكتاب هو دراستي للفلسفة ولكثير ممن جاء ذكرهم بالكتاب من الفلاسفة أيام الشباب. أفلاطون وأرسطو والرواقيين والفارابى وتوماس الاكويني وتوماس هوبز وجان جاك روسو وكانط وجون ستيورات مل. ظننت أني سأستعيد ذكريات جميلة مع أستاذ الفلسفة السياسية في الجامعة الدكتور عبد المعز نصر الذي كان يمنحني درجة الامتياز في مادته، ويسألني كيف قرأت كل هؤلاء في سن مبكرة هكذا، ويتمنى لي مستقبلا جميلا. لكن بعد القراءة للكتاب نظرت حولي وتحققت كلمات الدكتور عاطف معتمد قبل أن اقرأها. لقد قرأت كتبا كثيرة كتبت عن بعضها هنا وعن بعضها في صحف أخرى، ولم أشعر بما شعرت به من أسى بعد هذا الكتاب. الكتاب بحث فكري رائع، ولا أظن أن مؤلفته تصورت أن قارئا مثلي سينظر حوله بعد القراءة، فهي لا تتحدث عن مفكرين عرب كتبوا في العدالة في العصر الحديث، ولا ماذا جرى في البلاد، وتظل في ميدان الفكر العالمي، لكن رحلتهم لا تغيب عني منذ رفاعة الطهطاوي. وكل ما كتبوه أو التف حولهم الناس من أجله ضاع، وتحولت بلادنا الي ماحولنا من خراب في الدول ذات التاريخ والحضارات القديمة. لكن على الناحية الأخرى حملتني الذكرى التي أيقظها في الدكتور عاطف معتمد بحديثه عن يوم الكتاب العالمي، إلى كتب قرأتها أخذتني عن كل ماحولي إلي عوالم انسانية عظيمة، ولم تتركني تدهمني الرؤي حولي. كتب حملتني على بساط طائر من الراحة والجمال. روايات ومسرحيات دواوين شعرية. بعض الكتب كنت ولا زلت أضعها جواري فوق السرير وأنا نائم لا تفارقني. لا أنسى كيف فعلت ذلك مبكراعام 1969 مع رواية «صحراء التتار» لدينو بوتزاتي. أو مسرحيات مثل «في انتظار جودو» لصامويل بيكيت أو روايات مثل «الغريب» لألبير كامي والحديث طويل عن كتب لم تفارقني أياما. كلها أعمال وضعتني مبكرا على حافة اللاجدوي من هذا العالم فلم تشوهني هزائم صغيرة أوكبيرة وعلى رأسها هزيمة 1967. أخر ما وضعته جوار سريري كتاب للمهندس الفنان عادل واسيلي عنوانه « رائحة الفراغ» حافل بصور صورها لبنايات القاهرة القديمة والشوارع خالية أيام الكورونا، فصرت أنا الذي لا أترك البيت إلا نادرا لأسباب صحية، كلما اشتقت إليها أنظر في الكتاب.
كثيرة جدا هي الكتب التي سحرتني أو علمتني سحر الكتابة. ولا أنسى وأنا في الثالثة عشرة من عمري حين كنت متفوقا في دراستي الإعدادية فأهدتني المدرسة في عيد العلم بعض الكتب، منها أعداد من مجلة المقتطف التي كانت تصدر في مطلع القرن العشرين في مصر، وعدت إلى البيت أقرأ فيها فعرفت مبكرا أن هناك شعراء مثل طرفة بن العبد. لا أنسى معلقته التي يقول فيها:
أرى العيشَ كنزا ناقصا كل ليلة
وماتنقص الأيامُ والدهرُ ينفدِ
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفَتى
لكالطولِ المُرخى وثنياه باليدِ
أو المعري حين يقول:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي
نوح باكٍ ولا ترنّمُ شادِ
وشبيه صوت النعيِّ إذا قيس
بصوت البشير في كل ناد
أبكت تِلكمُ الحمامة أم غنت
على فرع غصنها الميّادِ
كانت أعداد مجلة المقتطف في ذلك العمر الصغير بها مقالات عن هؤلاء وغيرهم، وكانت كنزا دفعني إلى القراءة. استقرت الفلسفة الوجودية في روحي فكنت رغم شغفي بتغيير ماحولي لا ابتئس من الخسارات الشخصية، ولا حتى خسارات المجتمع الذي لم ولا أتخلى عن العمل والأمل في تغييره، في عمل حزبي يوما أو في مظاهرات. لكن زادت وطأة الخسارات العامة الآن وصرنا في كوارث فاقت كل خيال، وجاء حديث الدكتور عاطف معتمد ليقيمها حولي. الأهم أنه ذكرني بما أحاول أن أنسى. أعني يوم الكتاب العالمي. أنا الذي ابتعد عن هذه الاحتفالات بأيام صارت كالأحلام، وإن قلت لنفسي أيضا أن حياة بلا كتاب تعني العدم. لقد صارت الكتب هي الحياة الحقيقية مادمنا نعيش في هذه البلاد الضائعة. الكتاب ينتصر.