تخطي إلى المحتوى

مقدمة في نظرية القراءة

ظلت نظرية الأدب و لحقب طويلة من تاريخها تولي عناية فائقة للنص الأدبي في علاقته بالمؤلف أو السياق المرجعي و قلما كانت تلتفت إلى القارئ . لقد غدا القارئ كائنا منسيا و غدت معه القراءة فاعلية هامشية لا تكاد في أحسن أحوالها، تخرج عن دائرة الانفعال، و رد الفعل، كما كان الأمر قديما مع شعرية أرسطو حينما عرف المأساة، و جعل وظيفتها منحصرة في ممارسة التطهير النفسي للمتلقي، و ذلك من خلال التخلص من العواطف الضارة عن طريق مشاهد الفزع و الخوف و الألم ....\r\n\r\nإن القارئ باعتباره أحد المكونات الأساسية في عملية الإبداع الأدبي، لم يأخذ مكانته في نظرية الأدب كفاعل و مشارك في صناعة المعنى إلا في الأزمنة الحديثة، و قد ترافق هذا مع هبوب رياح الحداثة على الأدب، و ظهور تيارات فكرية و نقدية جديدة كالبنيوية و التفكيكية و جمالية القراءة، و غيرها من مدارس الأدب التي عملت على تجسير الفجوة العميقة بين النص الأدبي و ارتباطاته الإنسانية العميقة.\r\n\r\nلقد قامت نظريات القراءة الحديثة على إعادة بعض الحقوق للقارئ و المتلقي عامة في الفهم و التفسير و التأويل... و هي الحقوق الطبيعية التي ظلت مصادرة منه طيلة عقود من الزمن ... و في ضوء هذا تحول النص الأدبي إلى فضاء لغوي تتنازعه إمكانات دلالية احتمالية متعددة ترتهن في تحققها بالقارئ. إن ميلاد القارئ، و اكتسابه سلطة مرجعية في الخطاب النقدي الحديث جاء نتيجة الرجة العنيفة التي أحدثها المفكر الفرنسي \"رولان بارت\" حينما أطلق صيحته الشهيرة عن \"موت الكاتب\" ، حيث أصبحت دلالة النص الأدبي لا تستمد من الكاتب و من قصدياته بل أصبحت تستمد من النص كتناص في علاقته بالقارئ...\r\n\r\nولقد ترتب عن هذا الانقلاب النظري الذي أحدثه \"رولان بارت\" تحول في مسار تبادل السلط بين الأطراف المكونة للعمل الإبداعي و الأدبي : المنتج- النص- المرجع-القارئ- و في نفس السياق انبرت أصوات فكرية و نقدية هنا و هناك تمجد القارئ، وتعتبر ألا سلطة تعلو على سلطته، و لقد عبر هذا التصور عن نفسه من خلال مجموعة من الإنجازات النقدية، تعد جمالية التلقي الحلقة النظرية و النقدية الأكثر نضجا و اكتمالا فيها.\r\n\r\nو حينما نتحدث عن فعل القراءة نستحضر مفهوم النص ،فالعلاقة بين الاثنين هي علاقة وجود و ترابط جدلي عميق، لا نتصور وجود هذا دون حضور الآخر،إنهما وجهان لفعل واحد: النص نداء والقراءة استجابة لذلك النداء، النص حدث يندرج في الزمن و القراءة حدث أيضا،فعالية لاحقة عليه،تحققه و تخرجه من حيز الإمكان إلى حيز التحقق ، النص إنجاز كلامي نوعي مفتوح على \" الصمت و الاقتصاد الخطابي و النسيان،و القراءة إنطاق للصموت و فعل للتذكر و تأثيث للفجوات و النقص العباري والدلالي..\" \"النص...فاعل، حي،مغلق،لا يكاد يبين، و أما القارئ (...) فهو نشاط فحولي يستولي على المكتوب،يفضه،و يهتك حجاب حياته، و يثقب أسوار انغلاقه، يحفزه في ذلك شيئان: شهوة تجعل النص يقول قولا لا يصح إلا صحيحه و لا يجوز إلا جوازه، و غيرة عليه مما ليس فيه و لا منه تجعله يعود به إلى مكنونه ليكون مرجع ذاته لا انعكاسا لغيره\".\r\n\r\nإن علاقة القارئ بالنص هي أشبه ما تكون بعلاقة الإنسان بالمرآة، ذلك أن الذي الكاتب حينما أدرك جمال و اكتمال عمله الأدبي أراد أن يرى صورته لدى القارئ الذي يعتبر أول متلق لإنتاجه.. غير أن عملية التلقي هاته تبدو لدى هذا الفاعل ناقصة و غير مكتملة و هذا ما عبر عنه الكاتب و المنظر الروائي ميشال بيتور حينما قال \"و الروائي بالتأكيد هو قارئ غير كاف، يتألم من عدم كفايته و يرغب كثيرا في العثور على قارئ آخر يكمله،ولو كان قارئا مجهولا\"2 . و ليست القراءة كما هو متداول بالفعل البصري البسيط الذي يكتفي فيه القارئ بتمرير بصره على سطور النص.. و تدليل صعوباته المعجمية و لا هي بالقراءة التقبلية السلبية التي\r\n\r\nتعتقد أن معنى النص قد صيغ نهائيا، و لم يبق إلا البحث عنه للعثور عليه كما هو ماثل في النص \" إن القراءة في الخطاب النقدي الحديث، هي على خلاف ذلك، إنها \"أشبه ما تكون بقراءة الفلاسفة للوجود، إنها فعل \"خلاق، يقرب الرمز من الرمز، و يضم العلامة إلى العلامة، و سير في دروب ملتوية من الدلالات، نصادفها حينا، و نتوهمها حينا، فنختلقها اختلاقا، إن القارئ و هو يقرأ، يخترع و يختلق و يتجاوز ذاته نفسها مثلما يتجاوز المكتوب أمامه...\"3 .\r\n\r\nو لما كان النص الأدبي خطابا لغويا نوعيا، و نسيجا من الكلمات المحملة بالدلالات، و آلية من آليات التواصل الجمالي، فإن القراءة نشاط إنساني نفسي و اجتماعي و جمالي على درجة عالية من التداخل و التعقيد، هكذا أمكن الحديث عن سيكولوجية القراءة و سوسيولوجية القراءة و جمالية القراءة... ما دامت هذه القراءة تستلهم في مجملها الأبعاد الغنية و المتعددة للشخصية الإنسانية..\r\n\r\nو إذا كانت الغاية المتوخاة من ممارسة فعل القراءة هو الوقوف على طرق تشكل النص الأدبي و سر تفرده و الاهتمام به على امتداد الزمن.. فإن هذه الغاية ليست بالأمر الميسور و المتاح للجميع فهي تتطلب قارئا خبيرا مزودا بالمعارف و المؤهلات الفكرية التي تمكنه من الوقوف على قصديات النص و استراتيجياته المختلفة، و لذلك لا نعجب إذا ألفينا الناقد الإيطالي\" أمبيرطو إيكو\" يحلم بقارئ نموذجي، قارئ مر بنفس المراحل التي مر بها الكاتب في تجاربه القرائية.\r\n\r\nو في الخطاب النقدي الحديث لم يعد الحديث قائما عن النص و القراءة بصيغة المفرد، بل بصيغة الجمع، و من ثمة انفتح مفهوم القراءة في علاقته بالنص الأدبي على مفهوم التأويل الذي يشرع الباب أمام تعدد القراءات. لقد كسرت نظرية القراءة الحديثة في هذا السياق أسطورة المعنى المطلق المتعالي و الواحد، و هي الأسطورة التي ظلت تكبل النص الأدبي خلال أزمنة تاريخية مديدة و أصبح هذا النص فضاءا تتنازعه احتمالات دلالية متنوعة لا يتم تحققها إلا بواسطة سلسلة من القراءات المختلفة. فلا أفق في هذا السياق لدلالات النص و لا أفق أيضا لقراءاته .\r\n\r\nإن الانتقال من فضاء النص الواحد و القراءة الواحدة إلى فضاء النصوص المتعددة و القراءات المتعددة جاء ثمرة لجملة من التحولات التاريخية الفكرية و السياسية و الاجتماعية.\r\n\r\nفعلى الصعيد السياسي ، انهارت انظمة الاستبداد و الشمولية و تقدمت المجتمعات الغربية تقدما حاسما نحو بناء حداثتها السياسية من خلال الديمقراطية التي أصبحت اختيارا لا رجعة فيه . وهي تقوم على مفاهيم التعددية السياسية و المشاركة الشعبية و الحرية و تداول السلط في إدارة المجتمع .\r\n\r\nعلى الصعيد الفكري و الفلسفي، تراجع دور فلسفة الميتافيزيقا الباحثة عن الحقيقة المطلقة، و ظهر جيل جديد من الفلاسفة أمثال نيتشه و فوكو و ديريدا. عملوا على هدم الأسس و المرتكزات التي قامت عليها الفلسفة الحديثة فخلخلوا سلطة المعرفة و دعوا إلى نسبيتها و تعددها و انفتاحها الدائم على التأويل.\r\n\r\nوعلى المستوى الإجتماعي، شهدت بنية العلاقات الاجتماعية تحولات تجلت في \" تعدد فرص التواصل بين الأجناس و الثقافات، هذا التواصل فرضته عدة عوامل، منها الهجرة، و المثاقفة و الثورة الإعلامية الجديدة.\"4\r\n\r\nهذه التحولات المجتمعية و غيرها، ألقت بظلالها على نظرية الأدب و مناهج مقاربة النص الأدبي، و جعلت القارىء في قلب معترك المعنى النصي مساهما في تشكله وبنائه، ليس من فراغ و لكن في ضوء خلفيات فكرية و جمالية و اجتماعية و انطلاقا من رصيد قرائي .\r\n\r\nولما كانت القراءة ممارسة لاحقة على النص، فإن القراء المحققين لفعل القراءة ومن خلاله لوجود النص و كينونته مختلفون و متعددون بتعدد انتماءاتهم الإيديولوجية و الاجتماعية و الجغرافية و اختلاف مشاربهم الجمالية و التجربة القرائية. و في وسعنا أن نتحدث في هذا السياق عن أنماط من القراء تختلف تسمياتهم من هذا الناقد إلى ذاك، لكنهم يتفقون تقريبا في نفس الدلالات و المضامين، و من هؤلاء القراء :\r\n\r\nالقارئ الفعلي، و هو الذات الفردية المادية القارئة التي اقتنت الكتاب و مارست فعل القراءة، و هو القارئ الذي اهتمت به الدراسات و الأبحاث التي تندرج ضمن \"سوسيولوجيا القراءة\"\r\n\r\nالقارئ النصي هو القارئ الذي يركز اهتمامه على البنى الأسلوبية و الدلالية للنص، ولا يلتفت كثيرا إلى السياقات الخارجية . وقد تستوقفه في هذا النص أو ذاك سمة جمالية إيقاعية أو صرفية أو تركيبية...\r\n\r\nالقارئ الافتراضي و هو القارئ الذي يضمره الكاتب، حيث يصوغ في النص صورة عنه و صورة عن نفسه، إنه يصنعه كما يصنع صورته الثانية.\r\n\r\nالقارئ المثالي هو المتسلح بكل الأدوات المعرفية و المنهجية التي تمكنه من فك شفرات النص، إنه القارئ الذي يزاوج بين المعرفة الواسعة و القدرة على التذوق و الخبرة الطويلة في القراءة.\r\n\r\nالقارئ النموذجي و قد صاغه أمبرطو إيكو لوصف القارئ الذي يحتاج المؤلف إلى تخيل ردود أفعاله التأويلية عند كتابة النص. و هي ردود أفعال يحتاج إليها المؤلف من أجل الإيصال، إنه قارئ يماثل الكاتب و يفترض فيه أن يجتاز نفس المراحل و التجارب القرائية التي عاشها الكاتب.\r\n\r\nلقد حاولنا في هذا البحث أن نتتبع عدة سيرورات شهدتها دلالة النص الأدبي في علاقتها بسلطة منتجه و سياقاته المرجعية المختلفة ، قبل أن تستقر هذه الدلالة في إطار سيرورة نظرية الأدب عند آخر مطافاتها و هو القارئ.\r\n\r\nو إذا كانت جمالية التلقي أو ما يعرف بمدرسة\" كونستانس الألمانية\" قد شكلت التعبير النظري و النقدي الأكثر اكتمالا عن الأهمية الفائقة التي أصبح يحتلها القارئ في الدراسات الأدبية الحديثة باعتباره شريكا حقيقيا و مشروعا للمؤلف في بناء المعنى النصي، فإنه في نفس الوقت لا ينبغي تجاهل الانجازات النظرية و الاسهامات النقدية للعديد من النقاد الذين جددوا اللغة النقدية، حيث عملوا على إدماج القارئ و القراءة في صلب عملية التحديث التي طالت لغتهم و من هؤلاء \"رولان بارت\"و\"جون بول سارتر\" و آخرون التفتوا في العديد من كاتباتهم إلى مستويات و زوايا أخرى في فعالية القراءة همت الجانب السوسيولوجي .\r\n\r\nإن ما كتب و ألف في نظرية القراءة الحديثة كثير و كثير في الثقافة الغربية، و هي فيض زاخر من الدراسات النظرية كشف عن غنى الموضوع و خصوبته و إشكاليته أيضا. و إذا كنا في هذا البحث، وفي نطاق الزمن المحدود المخصص لإنجازه قد اكتفينا باستعراض بعض العناوين الكبرى المتعلقة بنظرية القراءة الحديثة.فإن سعة الموضوع و دقته و تشعبه قد فتحت أمامنا أفقا فسيحا من أجل تعميق البحث مستقبلا في هذا الموضوع، و الإلمام ببعض من جوانبه، حسبي أنني و ضعت الخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل.