النظر والعمل من المنظور الحي للفلسفة العربية
الدكتور أبو يعرب المرزوقي
كان لإشكالية العلاقة بين النظر والعمل بوجهيهما المجرد والمطبق ولا يزال لها منزلة كبرى بين مطالب الفكر الفلسفي والديني عامة وبين مطالبهما في الحضارة العربية الإسلامية على وجه الخصوص. ومع ذلك فدراستها الجدية تكاد تكون مغامرة محفوفة بمخاطر أكيدة مصدرها الحال التي آل إليها وضع الفكر في ميزان القراءة في الثقافة العربية الإسلامية الراهنة. وذلك لعلتين. أولاهما ورثناها عن تقاليد نفعية لا يهمها من الفكر إلا الثمرة المباشرة. لذلك فالبحث النظري عامة والبحث النظري في مسائل النظر خاصة يعده أصحاب الرأي النفعي السائد مجرد سباحة في الأوهام. وثانيتهما عودتنا عليها صور الفكر الفلسفي المنحطة منذ أن ازدهرت الطحالب في مستنقع أنصاف المثقفين الذين قصروا المعرفة على ملخصات الصحف الأجنبية ذات المنحى الجمهوري التقريبي، وظنوها بخلاف ما تقتضيه طبيعة دورها علماً وفلسفة يغنيان عن معرفة الأصول اليونانية والعربية والغربية الحديثة والمعاصرة.
فقبل عصر الانحطاط حُصر الفكر الديني والفلسفي في الشروح والتعليقات على متون اعتبرت نصوصها حقائق نهائية. وهو لم يتجاوز، منذ بداية النهضة عندنا، الدروس السطحية لتاريخ الفلسفة المدرسي الذي لا يكاد يتجاوز العرض الحدثي لحيوات الفلاسفة والعموميات المبتذلة حول مذاهبهم وبعض أعمالهم والثقافة الصحفية التي تخلط بين الفكر الفلسفي والتعبير الإيديولوجي عن المواقف الحزبية. لذلك فقد بات التوجه إلى القارئ العربي بخطاب جدي- فلسفياً نظرياً كان أو دينياً عملياً- شبه مستحيل لكونه سرعان ما يعزف عنه بمجرد غياب الكلام العام الذي عوده عليه فقهاء الوضع وأنصاف مثقفي الحاضر أو غياب النفعية المباشرة التي فرضها عليه أنصاف متكلمي الماضي وفقهاء الشرع: فصارت عموميات المنطق ومبتذلات الإبستمولوجيا وممضوغات النقد الأدبي وسطحيات التحليل الطبقي فكراً فلسفياً يعتد به.
والمرء منا يشق عليه أن يعترف بحقيقة مرة كان يمكن تجنبها لو لم يكن الاعتراف بها الشرط الذي لا مفر منه للشروع الفعلي في تكوين الفكر الفلسفي العربي الإسلامي المبدع. فلا بد أن نقطع مع التغني بتقويمنا الكاذب للماضي، ولا بد من الإقدام على النقد الجذري الذي يمكن من الاستئناف الفعلي على أسس حقيقية. ذلك أن فلاسفتنا الأوائل بالمعنى الاصطلاحي للكلمة (أعني الأسماء المعلومة وسيطاً: الكندي والفارابي وابن سينا والسهروردي وابن باجة وابن طفيل وابن رشد وحتى المولى صدرا فضلاً عن كون عصرنا منذ النهضة لا نجد فيه من بلغ ما بلغه هؤلاء من حذق لفن التفلسف، ربما بحكم طبيعة التكوين وبحكم ما أصبحت عليه السنن الفلسفية التي استبدلت موضوعها العلمي والعملي المفضلين بموضوعات هامشية ليس هنا محل بحثها) لم يفلسفوا الإشكالات النظرية (النابعة من علوم الطبيعة) والعملية (النابعة من علوم الشريعة) وما بينهما من إشكالات في الاتجاهين (أثر علوم النظر في العمل وموضوعه وأثر علوم العمل في النظر وموضوعه) وأصل هذه الأبعاد الخمسة أعني منزلة الإنسان الوجودية بمباشرتها على حالها التي حددتها ممارسة عصرهم النظرية والعملية، بل اقتصروا على شرح المتن الموجود في المنهج التعليمي التقليدي الذي ورثوه عن معلمي الإسكندرية وشراحها.
فظلوا شبه أجانب عما يجري في اللحظة التاريخية التي تصوروها دون ما تصفه النظريات التي خصصوا لها شروحهم فاعتبروها مما ينبغي إلغاؤه لتعويضه بما يلائمه من واجب الوقوع بديلاً من حاصله. وهذا الموقف نراه يتكرر. فاللحظة التاريخية التي نعيشها منذ قرنين نقف منها موقفاً عدمياً لكوننا نعتبرها مما لا يستأهل الوجود، فنعمل كل ما نستطيع لنفيها وتعويضها بما نعتبره جديراً بالوجود، سواء كان من ماضينا أو من حاضر الغرب بدلاً من دراستها وفهمها لتغييرها بحسب العمل على علم. وإذن فليست هذه الغربة ناتجة عن موقف الفقهاء من الفلاسفة فحسب. بل هي بنت المنزلة والموقف اللذين اختارهما الفلاسفة: منزلة أساتدة الفلسفة التي حصروها في مضمون معين ظنوه الحقيقة النهائية، وموقف العدمية من الواقع الموجود باسم الواجب المنشود. رفضوا منزلة الفيلسوف الذي يمارس فعل التفلسف وموقف العالم بالمعنيين اللذين نقصدهما عندما نطلق هذين الوصفين على أفلاطون أو أرسطو. كنا نتمنى أن يقوم الواحد منهم بمثل ما قاما به علاجاً علمياً وما بعد علمي لظاهرات الطبيعة أو الشريعة وما بينهما من نسب متبادلة (من الطبيعة إلى الشريعة ومن الشريعة إلى الطبيعة: مجال التقنيات والفنون الجميلة) على أحوالها في عصرهم من خلال البحث فيها بتوسط التساؤل عن إشكالات علومها في علاقتها بموضوعها.
كل ما يمكن قوله، إذا أردنا الصدق وعدم خداع الذات: أنهم أغفلوا هذه العلاقات الجوهرية التي هي تاريخية بالجوهر فبقي كلامهم كما هو كلام المتفلسفين منا حالياً، وكأنه تفسير وشرح لنصوص مقدسة، فضلاً عن كون هذه الشروح لم تصل إلى شرطي النقلة من بُعد العرض القولي من المعرفة إلى بُعد البحث الفعلي منها. كنا نتمنى لو أن أحداً منهم أو منا بحث في تجاوز شروط المعرفة القولية إلى شروطها الفعليه فباشر الموجود لتشريحه وتعليله، إذا ما استثنينا القلة ممن لم يكن يطلق عليهم اسم الفيلسوف، وحاولوا التفلسف الحقيقي في علوم الشريعة، أو في تجارب الحياة الروحية والتاريخية متجاوزين شرح المتون الموروثه إلى ما يتعلق به الأمر في كل تنظير. وهم قلة قليلة ودونها بكثير من فعل مثل ذلك في علوم الطبيعة وتجارب الحياة المادية والكونية. وطبعاً فليس أسهل من الموقف المثالي بالقول لكونه موقفاً عدمياً من الموجود لا يتجاوز الذهن يلازمه موقف انغماسي فيه في العين: وذلك هو جوهر اغتراب الفكر الفلسفي العربي في الماضي وفي الحاضر.
كنا نتمنى لو أن أحداً من فلاسفتنا التقليديين أو المحدثين تساءل عن شروط التثبت من قصد صاحب الأثر المشروح أو النظرية الموضوعة، إذ لو فعلوا لما واصلوا الشرح اللفظي دون التساؤل عن شرط تجاوزه بمعرفة شروط الأثر الفيلولوجية وشروط النظرية المنطقية أولاً (شرط فقه اللغة والحضارة) وبمعرفة الحال التي عليها العلم في عصره من مصادر أخرى (شرط تاريخ النظر والعمل). فشرح الكتب والنظريات الفلسفية لا يمكن أن يحصل حقاً من دون تاريخ المضمون العلمي للقول الفلسفي الذي هو ما بعد علمي (شرط تاريخية المعرفة العلمية طبيعية كانت أو إنسانية أو متصلة بأدواتهما المشتركة أو بتطبيقاتهما المشتركة). وكنا نتمنى لو أن أحداً منهم أو منا تساءل عن شروط مواصلة الجهد العلمي وما بعد العلمي للفيلسوف المشروح، إذ لو فعلوا لما واصلوا الدرس الفلسفي كما مارسه شراح الإسكندرية ماضياً وبعض شراح التعليم الجامعي حاضراً، دون انتقال إلى ممارسته ممارسة المشروح من الفلاسفة المؤسسين أعني هنا أفلاطون وأرسطو وديكارت وكنط أو غيرهم ماضياً وحاضراً، أي من دون السعي الفعلي لمباشرة العلم في علاقته بموضوعه وبما بعده في عصر صاحب المحاولة.
يحق لنا أن نسأل: من منهم أو منا فلسف علم عصره، وعمل عصره، وذوق عصره، وتقنيات عصره، ومؤسسات عصره المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية (كما فعل ابن خلدون مثلاً غاية لمحاولات المتكلمين مضموناً ولمحاولات الفلاسفة المؤسسين شكلاً) فتساءل عنها بما فيها وبما في ما بعدها الوجودي والتاريخي، اللهم إلا إذا أردنا مواصلة الادعاء الكاذب بالسبق في كل شيء مع السكوت عن سبب حصول الحداثة العلمية والتقنية والفلسفية والاقتصادية والمدنية والسياسية إلخ.. عند غيرنا، وعن سبب عجزنا عن الاستئناف الناجح رغم السعي إلى ذلك منذ قرنين. ونفس الأمر حاصل الآن، بل إن الأمر أفدح: فهو لم يقتصر على غياب المعنى الكوني للتفلسف الذي هو علة كل إبداع، بل ذهب إلى حد غياب المعنى الموسوعي الذي هو علة التعلم بسوي الاتباع. كنا نتمنى لو أن أحداً من فلاسفتنا الأوائل أو الحاليين اجتهد حتى وإن لم يصب فوضع نظرية في الشعر أو في الأدب مستقرأة منهما بوصفهما أهم مميزات الحضارة العربية الإسلامية؟
وكنا نتمنى لو أن أحداً منهم تساءل عن خصائص تاريخ الفكر والعمران في صلته بنظرية النبوة عله يتخلص من سذاجة نظرية النبوة الموروثة عن علم النفس الأرسطي ومن نظرية الخطاب الموروثة عن تصنيف أرسطو المنطقي لضروب الأدلة فحاول تفهم العلاقة بين وظائف الأدب والأسطورة من حيث صورة مضمونهما وشكله، ومن حيث مادتهما من جهة والروحانية الدينية والأشكال العمرانية من جهة ثانية، خاصة والدين المحمدي يقدم نصه الذي له هذه الوظائف في شكل معجزة إبداعية؟ كنا نكون أسعد الأمم لو أن أحداً منهم أو منا حاول فهم الظاهرة السياسية في ظرفها التاريخي وعلة اتصافها بما اتصفت به في الحضارة العربية الإسلامية فتحرر من ازدراء الواقع الفعلي باسم الواجب النظري: إلى متى نكتفي بالتنديد بالدكتاتورية والقبلية والفاشية وتخلف الوعي بالمواطنة دون البحث المتأني في علل وجودهما وصمودهما العنيد أمام كل همهمات السحرة من الإيديولوجيين الذين هم أول المستفيدين من تواصل هذه الحال؟
وأخيرًا فإن حضارتنا كانت تكون قادرة على القيام المستقل لو أن أحداً منهم أو منا حاول ممارسة المابعد الفلسفي من العلم الطبيعي والرياضي بشروطه لتكون الممارسة قادرة على إفهامنا ما كان بصدد الاعتمال في الممارسة العلمية العربية الماضية التي حاولت تجاوز العلم اليوناني علماً وما بعد علم، وفي الممارسة العلمية الحالية التي هي بصدد النكوص بنا إلى حال أشبه بما كنا عليه في قرون الانحطاط بحكم ما آل إليه أمر جامعاتنا ؟ أليس فلاسفتنا الأوائل قد جففوا منابع الفكر بما زعموه تخليصاً للممارسة الفلسفية القديمة من الجدل وحفظاً لمضمونها العلمي المزعوم أعني خيارات أرسطو من بين الفرضيات التي امتحنها في مقدمات مصنفاته، رغم معارضتها لكل ما توصل إليه التقدم العلمي في عصرهم ؟ أليس فلاسفتنا الحاليون قد قتلوا الفكر من أصله عندما خلطوا بين حاجة مجتمعاتنا وحاجة المجتمعات الغربية الحالية ففصلوا مثلهم بين الفلسفة والعلم متناسين الفرق الجوهري بين التاريخيتين واقتصروا على النتائج الجاهزة التي يجدونها في ملخصات التقريب الجمهوري؟ هل منهم ومنا من درس شروط التجربتين الفلسفية والدينية الوجودية عند الذات المفكرة وشروطهما الحضارية خاصة وهي جوهر القص القرآني عند من يحسن القراءة ؟
ملاحظة غياب هذه المسائل إيجاباً ليس للتنديد بل لمعرفة مهام الفكر المنتظرة في كل نهضة حقيقية. فغيابها يفسر الفشل الإيجابي في فكرنا الفلسفي. وحتى حضورها بالسلب عند ناقدي الفكر الفلسفي في حضارتنا فإنه لم يتجاوز المستوى الجدلي للدفاع عن مذهب صاحب النقد دون النفاذ إلى جوهر فعل النقد ذاته (نقد=فرق وميّز ومنها: فرقان = عقل) طلباً عقلياً شارطاً لتجربتي الفكر الفلسفية والدينية خاصة وأهم مفهوم قرآني هو نقد التحريف والسعي الدائب للتصحيح من خلال العودة بالنصوص إلى الممارسة التاريخية كما تقتضيها الفطرة معياراً منفتحاً لتحكيم النور الطبيعي للعقل؟ ومع ذلك فإننا نعتقد أن ما حدث في الحقبة العربية الإسلامية من تاريخ الفكر الإنساني كان كما سنرى ثورياً وبالذات بمقتضى ما يمكن أن نسميه بشروط النجاح السلبية: فهذه العوامل السلبية مع عوامل أخرى أهملها الفكر الفلسفي وأهمها طبيعة الثورة المحمدية هي التي ننسب إليها ما أثمره الصدام بين التجربة الدينية الحية التي كانت بصدد التكوين الحي لمضمون الوعي الديني ولشكل أدواته النظرية والعملية والتجربة الفلسفية التي ظلت شبه غريبة ولم تندمج في الحضارة العربية الإسلامية إندماجاً حياً إلا عندما بلغ رقي التجربة الدينية إلى درجة التفلسف في آخر لحظات تاريخ فكرنا كما نصف ذلك في هذه المحاولة.
ولما كان هذا الاندماج والاكتمال غير واعيين بنفسيهما وعياً يجعلهما مؤثرين بصورة تمكن من تجاوز الفكر القديم ببعده الديني الموروث عن السنة التوراتية الإنجيلية وببعده الفلسفي الموروث عن السنة اليونانية اللاتينية، فإن الوجه الثوري من اللحظة العربية ما يزال بحاجة إلى التحديد. لذلك فلن يصبح تأثيره حقيقياً إلا بعد تثبت الفكر التاريخي النقدي من هذه الإضافة السلبية التي ننسبها إلى الفكر العربي الإسلامي ونعتبرها دوره الرئيس في تاريخ الفكر الإنساني: فبعده النقدي الساعي إلى تجاوز هاتين السنتين هو ثورته الرئيسية، وهو ليس مؤثراً ببعده المدرسي المواصل للمضامين الميتة فيهما، خاصة والإنسانية في لحظتها الموالية للحظتنا قد ذاقت الأمرين في سعيها إلى التخلص منها. تلك هي الفرضية التي نقدمها سواء صحت أو لم تصح لكون الأمر المهم هو اكتشاف البنية المحركة للفكر وجعلها مادة للجدل الفكري سواء سلمنا بوجودها أو بعدم وجودها.
لكن هذه العقبات الناتجة عن ممارسات الماضي والحاضر في مجال الفكر وتأثيرها على الفكر وتقاليد القراءة عندنا لا ينبغي أن تحول دون الإقدام على العلاج الفلسفي بحسب قواعد الفن شكلاً وبحسب متطلبات المرحلة مضموناً. فلا يمكن للفكر العربي أن يسعى إلى علاج قضايا العصر علاجاً فلسفياً مع البقاء دون ما تقتضيه السنن الفلسفية العالمية من دقة التحليل وعمقه وجدية الصياغة وفنيتها مهما عارض ذلك ما ساد من تقاليد تعوق الفكر وعادات تكبل سوق القراءة فيما يراد تسويده من ثقافة عامية. لذلك فسنعالج الوجه المجرد من علاقة النظر والعمل علاجاً ينطلق من تأريخ صياغاتها الفكرية التي حددت مقوماتها الفلسفية والدينية عامة لنعين ما تحقق بفضل لقائها مع الواقع العيني، كما صورته الحضارة العربية الإسلامية في المرجعية الفلسفية الميتافيزيقية بصورتيها المشائية والإشراقية وفي المرجعية الدينية الميتاتاريخية بصورتيها الفقهية والصوفية، سواء انتسب ذلك إلى ما قبل عصر الانحطاط أو إلى عصر النهضة في القرنين الأخيرين.
أما الوجه المطبق من علاقة النظر بالعمل فسندرسه من خلال التحقق العيني لتلك الصياغات بوجهيها الديني والفلسفي وبحقبتيها الوسيطة والحالية في الوجود العمراني العربي الإسلامي: إذ لا معنى لفكر لم يتعين في مؤسسات العمران المدنية والسياسية وقبلهما في أخلاق السلوك العام. ذلك أن تاريخ واقعنا في صياغته الفلسفية والدينية يحتاج إلى التخليص من السلوك العجيب الذي يعتبره خارجاً عن سنن التاريخ الكوني مادةً (المجتمع) وصورةً (الدولة) ببعديهما المادي والروحي فيبحث له عن خصوصيات ما أتى الله بها من سلطان: سيكون هدف مسعانا الأساسي في هذه المحاولة إدراج الفكر العربي الإسلامي تصوراً وواقعاً في مجرى التاريخ الكوني بدلاً من دمغه بخصوصية وشذوذ مرضيين.
لذلك فلن نولي، في مزاوجة كلتا المرجعيتين الدينية والفلسفية بين المنظارين المجرد والمطبق، أدنى أهمية للإشكالية الزائفة التي تقابل بين الكلي الإنساني الذي حُصر في الفكر الغربي والخصوصي الحضاري الذي حُصر فيه الفكر العربي. فكل مقابلة بين الجماعات البشرية تتجاوز ما يقتضيه معنى التنوع الضروري للتدافع على أساس الوحدة النوعية ليست إلا من علامات الحمية الجاهلية كما يؤكد الإسلام ذلك في نقده للفكر الديني المتقدم عليه، مركزاً على الكلية البشرية في العقيدة منذ البداية دون نفي لتعدد الشرعة والمنهاج شرطي التنوع والتدافع الحائلين دون الفساد في الأرض والقهر الديني. لكن إشكالية المقابلة بين الكلية والخصوصية التي تجاوزها الإسلام منذ البداية أصبحت جوهر الموقف الديني والفلسفي في فكر نجوم الصحوة الحالي: أهمل هؤلاء المفكرون مرجعية الكلية الدينية جاعلين من الإسلام خاصية قومية للمسلمين (ومن شروطها تجاوز التقابلين بين الشرائع والطبائع منهما منطلقين للتقابل) وأهملوا مرجعية الكلية الفلسفية جاعلين الفكر الفلسفي مقصوراً على تصورات العالم الخاصة بالأمم أمة أمة (ومن شروطها تجاوز التقابلين بين النظري والعملي منهما منطلقين للتقابل).
ولما كنا نعتقد أن الثورة الفلسفية الحديثة ليست في الحقيقة إلا تحقيق هذه المزاوجة الحية بين ما بعد الفكر الفلسفي (ما بعد الطبيعة) وما بعد الفكر الديني (ما بعد التاريخ) للتجربتين العلمية المنطقية (النظر) والسياسية التاريخية (العمل) لتحديد المضمون الديني والشكل الفلسفي الحيين بجدلهما وبتزاحم الوجدان والفرقان صياغة للوجود وتعبيراً عنه وكنا نسعى بهذا العمل إلى الإسهام في تحقيق شروط استئناف هذه الثورة في فكرنا فإننا قد اعتبرنا أول لحظة حققت هذه المزاوجة في تاريخنا الفكري بؤرة التاريخ الكوني للفكر الفلسفي والديني، رغم كونها قد تجمدت عندنا ولم تتطور لتصبح منبع الفكر الحي المتجاوز لذاته نحو أفق مثالي متعال يتحدد ذاتياً، ولا يكون فيه الماضي الذاتي ولا الحاضر الأجنبي بديلين منه. فقد كانت هذه اللحظة مديدة التكوين والتصوير، فضلاً عن تعقيدها. فتحديدها قد حصل في حركة تاريخية فكرية دامت ستة قرون هي عينها قرون الحضارة العربية الإسلامية المبدعة لبدايات العلاقة الحيوية بين الفكر الفلسفي والفكر الديني من خلال مسألة العلاقة بين النظر والعمل.
ذلك أن تحديد الصلح الخارجي بين بؤر التزاحم التي أبرزها اللقاء الخارجي بين الفكرين الديني والفلسفي تطلب قرنين هما قرنا تكوين الفكر الكلامي والصوفي وتوطين الفكر الفلسفي بفرعيه المشائي والأفلاطوني الثالث (بداية من الكندي ونشأة مدارس الكلام الرئيسية والتصوف) والرابع (اكتمال النسق الفلسفي والكلامي والصوفي). وقد اكتمل الصلح الخارجي بين الفكر الفلسفي والفكر الديني الذي حصل خلالهما بانفجار الفكرين خلال القرن الخامس بفضل الصدام بين فكر ابن سينا وفكر الغزالي. وقد كانت غاية هذه اللحظة قرني حسم التزاحم بين الفكرين على أسس جديدة أعادت النظر في أصل المقابلة الخارجية لتبين أنها عين القلب الحي لكلا الفكرين مما يبين أنهما فكران متحدان في الجوهر لوحدة القلب منهما (أعني العلاقة بين النظر والعمل أو بين الحقيقة والمعنى في التجربتين الفلسفية الطبيعية والدينية التاريخية): ذلك هو دور القرنين السابع والثامن.
لاتزال إشكالية العلاقة بين النظر والعمل أهمية كبرى على صعيد الفكر الفلسفي والديني في الثقافة العربية.
ففريق يرى أولوية العمل على النظر لأنه أحد متطلبات الواقع العربي المعاصر فالوجود مهدد، فمن يصارع من أجل البقاء؟ والمشروع الصهيوني يتحقق يوماً بعد يوم فمن يحمي الديار؟ وما دور الفيلسوف والمفكر والمثقف؟ أيقبع في فلسفته يعلمها صنعةً لجيل قادم من الحرفيين؟
هل يواجه الاحتلال بالبيان، والاجتياح بمؤتمر قمة، والعدوان بالشجب والإدانة؟
أين الفعل في مواجهة الفعل والألم في مواجهة الألم؟
وآخرون يرون أن الظرف الحالي للعرب والمسلمين يقتضي تقديم النظر على العمل. فالفشل العملي الخانق ناتج عن فقدان النظر والبحث الجاد. والبحث ليس بمعنى الثرثرة التي صارت تقدم باسم الفلسفة.
إن مشكل العرب الحالي هي كثرة المتصارعين على العمل المضطرب، والتنافس على الفعل المباشر وخاصة السياسي.
ومشكل المشاكل هو خلوّ المجتمع العربي من المتفرغين للنظر، وخلوه من الفهم والتحليل اللذين يمكنان من العمل الصحيح.
هذا الموضوع الشائك فلسفياً، يتصدى له فيلسوفان عربيان مرموقان من أجل أن نعيد النظر في أولوياتنا.
يتناول هذا الكتاب حوارية بين فيلسوفين عربيين مرموقين حول إشكالية العلاقة بين النظر والعمل وأولوية كل منهما في الخروج من المأزق الحضاري العربي والإسلامي الراهن.
يكتب كل منهما بحثه وتعقيبه على بحث الآخر مستقلاً.
يعرض أولاً النظر والعمل من المنظور الحي للفلسفة العربية الإسلامية، ويوضح مراتب الحضارة، ويشترط المعرفة النظرية للحرية العملية، ويبين الدلالة الحضارية للعلاقة بين النظر والعمل.
ويتحدث عن أهم محطات العلاقة بين النظر والعمل في مدخل تاريخي يبين العلاقة بينهما في المدخلين التقليديين الفلسفي والديني، ويبين المدخل التاريخي البديل بينهما، بدراسة البنية المحورية ونظريات المقولات الفلسفية القديمة والحديثة، ونظريات الآية الدينية القديمة والوسيطة والحديثة والمعاصرة، بالأبعاد الفقهية والصوفية والجدلية في الفعل الديني السياسي المحمدي.
ويعرض لمبدأ تاريخ الفلسفة (بنية العقل العميقة)، ومبدأ فلسفة التاريخ (نظر العمل).
ويدرس ثانياً ضرورة الحوار، وأولوية العمل على النظر أو النظر على العمل، ويبين أن أحد متطلبات الواقع العربي المعاصر هو أولوية العمل على النظر، في المنزل العربي الذي يحترق، ويحتاج إلى من يطفئ النار، ويصارع من أجل البقاء، في واقع مؤلم مهين يواجه فيه العرب الاحتلال بالبيانات والمؤتمرات دون أي فعل في مواجهة الألم.
ويبين دور المثقف والفيلسوف في الحل، فالفلسفة رسالة، والثقافة رؤية، والفكر موقف، والعلم التزام.