مقدمة
كثرت في اللغة العربية المعاصرة المشكلات المصطلحية، نجمت عن التقدم العلمي الذي نعيشه اليوم، والمصطلحات الجديدة التي دخلت ساحة المعرفة، فالثروة المصطلحية هي مرحلة تالية لازدهار البحث العلمي، والعناية بالمصطلح العلمي هي الطريق إلى جعل اللغة لغةِ البحث العلمي، تقوم بأدوارها كاملة في مجالات المعرفة والإبداع والعلوم، وتمكنها طاقاتها التعبيرية من مواكبة ركب الحضارة والإسهام فيه بنصيب.
إن ثروة اللغة العربية من المصطلحات العلمية لها خصوصية الماضي والحاضر، كانت مفرداتها وعاءً لمصطلحات مختلف العلوم، ابتدع أبناؤها من علومها ما كان فريداً في زمانه، ومن فلسفتها ما كشف عن مرونة اشتقاقاتها وطاقاتها على التعريب والتفاعل مع اللغات الأخرى.
وجَّه أسلافنا العلماء نشاطهم الفكري إلى ميادين العلوم المختلفة، واستوعبوا ثقافات أثرت مركباً ثقافياً جديداً هو الثقافة العربية الإسلامية، التي تحلت باللغة العربية، وتميزت بمنهجها العلمي ومحتواها الفكري، وبثروتها المصطلحية العلمية، وتراثنا حافل بالعلماء الذين عملوا في هذا المجال، لعدة عوامل لغوية وعلمية وحضارية.
ومع كل هذا التقدم المتسارع في ميادين العلم والمعرفة والمعلومات واتساع أثر المعلوماتية وتعاظمه في حياتنا، ومع الصعوبات التي تواجه اللغة العربية في عصر المعلوماتية، إلا أننا نجد مزاياها في قدرتها على المطالب المتطورة في ميادين العلم والمعرفة، وإيجاد المصطلحات العلمية المناسبة للمكتشفات الحديثة في مختلف المجالات العلمية، في حين تواجه اللغات الأجنبية صعوبة في وضع المصطلحات لافتقادها الجذور اللغوية.
ومما يشير إلى قدرة اللغة العربية واتساعها وكثرة استيعابها للمعاني الظاهرة والباطنة، القريبة والبعيدة، نزول الوحي الإلهي بها. لقد حققت حضوراً في المضمارين اللغوي والعلمي ترك علماء العرب أساساً علمياً بنى عليه علماء الغرب فكراً أفضى إلى الحضارة المعاصرة والفكر المعاصر، في حين تباطأ مفكرو العرب في هذا المجال، مما استدعى نقل علوم الأجانب إلى اللغة العربية، وإيجاد مصطلحات علمية مناسبة للمكتشفات الحديثة، وهي محطة تعترض سبيلنا حين نحاول ذلك.
ولكي لا تضيع المصطلحات العلمية في اللغة العربية بمتاهات واجتهادات شخصية فإنها بحاجة إلى وضع أصول الاصطلاح العلمي في اللغة العربية، وإيجاد الأسس المشتركة في وضعه، وهو الهدف الأساسي لهذا الكتاب، الذي يزود القارئ بمادة عميقة شاملة، تغطي جوانب أساسية من المصطلح العلمي في اللغة العربية، كما أنه يوضح تطور هذا المصطلح في اللغة العربية، منذ نشوئه حتى الزمن الحاضر، ويفتح باب الاصطلاح العلمي في مختلف الميادين العلمية، بمنهجية علمية واضحة، رابطاً ذلك بالحداثة الفكرية المعاصرة، وهادفاً إلى أن تستعيد اللغة العربية مكانتها بين اللغات العالمية الأخرى.
وبهدف اتساق جوانب الكتاب، فقد تم تحديد الأبعاد والمحاور التي دار حولها وهي: اللغة العربية، البحث العلمي، المصطلح العلمي، المصطلح العلمي والتقانة الحديثة، وذلك من خلال اتجاهين متلازمين؛ الحفاظ على اللغة العربية والواقع الأمثل لها، والنظر إلى المصطلحات العلمية بمنهج علمي، والواقع الأمثل لاستخدامها، متبعاً المنهج التاريخي بهدف الوصول إلى الحقيقة التاريخية والمنهج الاستقرائي من خلال البحث عن المتغيرات وإعادة بناء الماضي بكل زواياه ووقائعه.
وقع الكتاب في ستة فصول تضمن كل منها عدداً من المباحث: تناول الأول اللغة العربية والمصطلح، وبحث الثاني وسائل نمو اللغة العربية، ووضّح الثالث المصطلح العلمي، وعالج الرابع المصطلح والبحث العلمي، واهتم الخامس بتوليد المصطلحات العلمية الجديدة وتوحيدها، وعرض السادس المصطلح العلمي والتقانة الحديثة.
لقد قمنا بتأليف هذا الكتاب لتحقيق الصلة الوثيقة بين البحث في المصطلح العلمي وقضاياه، وبين دور اللغة في مجالات الإبداع والعلوم والمعرفة، ولما تعانيه اللغة العربية اليوم من نقص حقيقي في المصطلحات العلمية، آملين أن يكون مثمراً وبنّاءً، وأن ينتفع به موضوعاً ومحتوى قاعدة واسعة من القراء المهتمين باللغة العربية والمصطلح العلمي، الذين يحققون أو يضعون ألفاظاً عربية، وهي أهم قضية تعترض السبيل، فيما نحاول جعل اللغة العربية صالحة للتعبير عن حاجات الحياة العصرية والمكتشفات الحديثة، وأن يكون مشجعاً للباحثين العلميين على متابعة المسيرة في مجال اللغة العربية والمصطلح العلمي.
إننا ندين بالفضل العظيم في كل ما قدمناه في هذا الكتاب إلى الله عز وجل، الذي قدرنا على إنجازه، كما ندين بالشكر إلى تراث أسلافنا العلماء العرب الذين كان لهم باع كبير في مجال اللغة العربية ومصطلحاتها العلمية، والشكر موصول إلى العاملين في مجال البحث العلمي والمصطلحات العلمية.
ويسرني أن أتقدم بالشكر والامتنان والتقدير إلى دار الفكر على ما لاقيناه من تجاوب ودعم لإخراج هذا الكتاب إلى حيّز الوجود، نفع الله به من أراد المزيد من العلم والمعرفة في مجال المصطلح العلمي في اللغة العربية.
أسأل الله التوفيق والسداد، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
دمشق في 14 جمادى الثانية 1431هـ
27 آيار/مايو 2010م
أ. د. رجاء وحيد دويدري
المصطلح العلمي في اللغة العربية
ما دور المصطلح العلمي اليوم في الثورة المعرفية؟
كيف تستطيع اللغة العربية أن تستوعب المصطلحات الجديدة، وتعرّبها وتستخدمها؟
أهي قادرة على ذلك؟
هل حققت العربية حضوراً في المضمارين اللغوي والعلمي، كما تقول المؤلفة؟
إن في المسألة نظراً..
فالمؤلفة ترى أنه من أجل ألا تضيع المصلحات العلمية في اللغة العربية بمتاهات واجتهادات شخصية فإنها بحاجة إلى وضع أصول الاصطلاح العلمي في العربية، وإيجاد الأسس المشتركة في وضعه.. وهذا هو الهدف الأساسي للكتاب الذي يزود القارئ بمادة عميقة شاملة في بابته، ويوضح تطور المصطلح العربي منذ نشوئه، ويفتح باب الاصطلاح العلمي بمنهجية أكاديمية رابطاً ذلك بالحداثة الفكرية المعاصرة بهدف أن تستعيد لغتنا مكانتها بين اللغات العالمية.
إنه كتاب جاد