درس عن الشيطان
القلق والألم والحزن هي ظلال الحياة، وليس هناك قلبٌ في العالم لم يشعر بلسعة الألم، ولا ذهنٌ لم يتخبط في ظلمة أمواج القلق، ولا عين لم تذرف دموعاً محرقةً من أسىً لا يوصف.
ليس هناك منزلٌ لم يدخله المدمِّـران العظيمان المرض والموت، ليمزقا القلوب ويلقيا بالظلال السوداء للحزن.
وفي شِـباك الشيطان التي تبدو منيعةً يسقط أبناء البشر بدرجات متفاوتةٍ ليعيشوا مع الألم والتعاسة وسوء الحظ.
يندفع الرجال والنساء في محاولةٍ منهم للإفلات من هذه الكآبة المخيمة اندفاعاً أعمى يستعينون بوسائل لا تحصى، ويسيرون في دروب يأملون في أعماقهم أن يجدوا في نهايتها سعادةً تدوم.
هذا ما يصنع السكِّـير والمومس اللَّـذان ينشدان اللذة الحسية، وكذلك هو المولع بالجمال الذي يغلق بابه في وجه أحزان العالم، ويحيط نفسه بالرفاهيات الموهِـنة، وكذلك هو من تشتد رغبته في الثروة أو الشهرة وينسى كل شيء آخر في طريقه إلى تحقيق هذا الهدف، وكذلك هم من يبحثون عن العزاء في تأدية الطقوس.
وحين يبدو أن السعادة المشتهاة آتيةٌ، تنخدع الروح لفترةٍ بالأمان الحلو الذي يُسكرها فتذهَل عن وجود الشيطان. لكن حين يأتي المرض في النهاية أو حزنٌ عظيم أو إغراء أو حظٌّ عاثر ليقتحم الروحَ غير المحصنة فجأةً، يتمزق النسيج الهش للسعادة المتخيلة.
يطوف سيف ديموكلين محملاً بالألم إذن فوق كل فرحةٍ شخصية، متأهباً ليسقط في أية لحظةٍ، ويسحق الروح غير المحمية بالمعرفة.
يبكي الطفل ليصبح رجلاً أو امرأة، ويتنهد الرجل والمرأة حسرةً على بهجة الطفولة. يغضب الفقير من نير الفقر الذي يقيده، وغالباً ما يعاني الثري خوفاً مستمراً من الفقر، أو يطوف العالم بحثاً عن ظلٍّ زائف يسميه السعادة.
تشعر الروح أحياناً بأنها وجدت مكاناً آمناً من السلام والسعادة في تبنِّـيها لعقيدةٍ معينة، أو في اعتناق مذهب فلسفي، أو في بناء مثاليات فكريةٍ أو فنية، لكن بعض الإغراءات القوية تثبت أحياناً عدم كفاية العقيدة، وعدم جدوى الفلسفة النظرية، أو ينظر المثالي الذي نذر جهد حياته لمثاليته ليرى تمثاله المثالي منهاراً تحت قدميه.
أليس من مفرٍّ، إذن، من الحزن والألم؟ أليس هناك وسيلةٌ تكسر قيود الشر؟ هل السعادة الدائمة، والرغد الآمن والسلام المستمر ليس إلا أحلاماً حمقاء؟
لا. هناك طريقة لقتل الشيطان إلى الأبد، وأقول هذا سعيداً. وهناك عمليةٌ يمكن من خلالها التخلص من المرض، والفقر، ومن أي محنةٍ بحيث لا تعود للظهور مرةً أخرى، وهناك أسلوبٌ يحقق للإنسان الرغد الدائم متحرراً من الخوف من عودة المحن، وممارسةٌ تُدخل في حياتك سلاماً لا يتزعزع ولا ينتهي، ونعيماً من البركة.
بداية الطريق المؤدية إلى هذا التجسد العظيم هي الفهم الصحيح لطبيعة الشيطان. فليس كافياً إنكاره وتجاهله، ولا يكفي أن تصلي لربك ليخلصك منه، بل إن عليك أن تجد سبب ظهوره في حياتك، وما الدروس التي يحملها لك.
لا جدوى من الاستياء والامتعاض والسخط من القيود التي تقيدك، بل عليك أن تعرف لماذا وكيف تقيدك؟ لذا عليك أيها القارئ أن تخرج من نفسك وأن تبدأ بتفحصها وفهمها.
عليك التوقف عن بقائك طفلاً متمرداً في مدرسة الخبرة، وأن تبدأ بتواضع وصبر بتعلم الدروس التي وضعت لتثقيفك، وتقريبك من الكمال؛ لأنك عندما تفهم الشيطان جيداً ستدرك أنه لم يُـخلق ليكون قوةً غير محدودةٍ أو سائداً في الكون، إنما هو مرحلةٌ عابرة في تجربة الإنسان، وهو من ثم معلمٌ لمن ينوون التعلم منه.
ليس الشيطان شيئاً مجرداً خارجك، إنما هو تجربةٌ تعيشها في قلبك، ومن خلال تفحُّـصهِ بصبرٍ وتنقيةِ قلبك ستقود نفسك بالتدريج إلى اكتشاف أصل الشيطان وطبيعته، وسيتبع هذا بالضرورة التخلص منه تماماً.
كل شيطانٍ هو بمعنى ما مُـصلحٌ ومعالِـج، وهو من ثم ليس دائماً. إنه متجذرٌ في الجهل، الجهل بالطبيعة الحقيقية للأشياء والعلاقة بينها، ومادمنا في حالة الجهل تلك فسنبقى مستَـهدفين من قبله.
ليس من شيطانٍ في الكون كله إلا وتأثيره نتيجةٌ للجهل، ويقودنا في النهاية - إن كنا مهيئين ونعتزم أن نتعلم من تجاربنا معه - إلى مستوىً أعلى من الحكمة ليزول من حياتنا. لكن الناس تبقى حبيسة شياطينها التي لا تتركها؛ لأنهم لا يعتزمون التعلم من الدروس التي أتى يعلمهم إياها، أو هم غير مهيئين بعد.
عرفت طفلاً اعتاد البكاء كل ليلة حين تأخذه أمه لتضعه في الفراش طالباً منها أن تسمح له باللعب بالشموع، وفي إحدى الليالي وفيما أمه مشغولة عنه انتهز الفرصة ليمسك بشمعة قريبة منه، وحدث ما كانت تخشاه أمه، ولم يعد الطفل إلى تمني اللعب بالشموع مرةً أخرى.
تعلم الطفل من فعلٍ أحمق واحد، وتعلم درساً جيداً في الطاعة، وأضاف إلى معارفه أن النار تحرق. هذه الحادثة توضيح كامل لطبيعة كل الخطايا والشرور ومعناها ونتائجها.
كما عانى الطفل بسبب جهله للطبيعة الحقيقية للنار، كذلك يفعل الأطفال الأكبر عمراً بسبب جهلهم للطبيعة الحقيقية للأشياء التي ينتحبون من أجلها ويلهثون وراءها، والتي تؤذيهم عندما يحصلون عليها. الفرق الوحيد في الحالة الثانية هو أن الجهل بالشيطان أكثر تجذراً وعمقاً وإبهاماً.
استُخدمَ للشر دائماً رمزُ الظلمة، واستخدم النور للخير، ونجد ضمن هذا الرمز تفسيراً مثالياً للواقع؛ لأنه ما إن يغمر النور الكونَ حتى لا تعود الظلمةُ أكثر من بقعةٍ أو ظلٍّ يشكِّـله جسم صغير يحتجز بعض أشعة الضوء غير المحدود، نور الربِّ إذن هو الإيجابي والقوةُ المانحة للحياة والذي يغمر الكون، أما الشيطان فهو ظلٌّ غير مهمٍّ يتشكل من النفس التي تعترض الضوء وتحتجز بعضاً من أشعته المنيرة التي تستمر بالبحث عن مدخل.
عندما يغمر الليل العالم بستارٍ أسود لا يُـخترق، وبغض النظر عن حلكة الظلمة، فهي تغطي جزءاً صغيراً من نصف كوكبنا الصغير، في حين أن الكون كله يتَّـقدُ نوراً حياً، وتعرف كل روحٍ أنها ستستيقظ في ضوء الصباح التالي.
فلتعلم إذن حين يخيم سواد ليل الحزن والألم والحظ العاثر على روحك، وعندما تتعثر بخطواتك المتعبة غير الواثقة، بأنك تضع حاجزاً من رغباتك الشخصية يمنع عنك النور اللامحدود للفرح والبركة، واعلم أن ظـلَّ العتمةِ الذي يغطيك ليس إلا ظـلَّكَ أنت.
وكما أن العتمة في الخارج ليست إلا ظلاً سلبياً، غير حقيقي لا يأتي من مكان ولا يذهب إلى أي مكان، ولا يملك مكاناً يعيش فيه، كذلك العتمة في داخلك ظل سلبي يعبر فوق الروح المولودة من النور.
أتخيل أحدهم يقول: "لكن، لماذا المرور في ظلمة الشيطان أساساً؟" بسبب الجهل. لقد اخترت هذا، ولأنك من خلال قيامك بهذا ربما تفهم الخير والشر، وربما تقـدِّر النور أكثر بعد مرورك في الظلمة.
لأن الشر نتيجة مباشرة للجهل، فإنك عندما تتعلم دروسه تماماً، ينتهي الجهل، وتحل الحكمة محله. لكن، وكما يرفض الطفل المتمرد أن يتعلم في المدرسة، من الممكن أن ترفضَ تعلُّـم الدروس من التجارب، لتبقى بالنتيجة في ظلمةٍ دائمة، وتعاني باستمرار الأشكال المختلفة للعقاب سواء المرض أو خيبة الأمل، أوالحزن.
لذلك يجب على من يريد أن يحرر نفسه من الشيطان الذي يتلبَّـسه أن يعتزم التعلم، وأن يتحضر للمرور بعملية التهذيب التي لا يمكن الحصول على بذور الحكمة والسعادة الدائمة والسلام من دونها.
ربما يعزل الإنسان نفسه في غرفة مظلمةٍ، وينكر وجود الضوء، لكن الضوء يبقى في كل مكان خارج هذه الغرفة، ولا توجد الظلمة إلا في غرفته الصغيرة هذه.
ويمكنك أن تسـدَّ الطريق في وجه نور الحقيقة، أو أن تبدأ بهدم الجدران التي بنيتها حول نفسك من التحاملِ والسعي إلى إرضاء الذات والخطأ، لتفسح المجال للنور المجيد الموجود في كل مكان.
اعمل جاهداً، من خلال المراقبة النزيهة للذات، وليس بمجرد التمسك بالنظريات فقط، على إدراك أن الشيطان ليس إلا مرحلةً عابرة، وظلاً مخلوقاً ذاتياً، وأن كل آلامك وأحزانك وتعثُّـر حظِّـك وصلت إليك من خلال عمليةٍ خاضعة لقانون مثالي تماماً وغير منحاز، وأنها وصلت إليك لأنك تستحقها وتحتاج إليها، وأنك من خلال تحمُّـلها أولاً ومن ثمَّ فهمها تصبح أكثر قوةً وحكمةً ونبلاً.
عندما تصل إلى الإدراك التام لهذا تصبح في موقع يخوِّلك أن تصنع ظروفك، وأن تحول كل شر إلى خير، وأن تحيكَ نسيجَ قدرك بيدٍ ماهرة.
ماذا عن الليل أيها الحارس. ألم تره بعد؟!
ذلك الفجر المتألق على أعالي الجبال
المبشر الذهبي بنور الأنوار
هل وضع قدميه اللطيفتين على رؤوس التلال؟
ألم يأتِ بعد ليطارد الكآبة
ويطارد معها كل شياطين الليل؟
ألم يطلق سهام أشعته إلى عينيك؟
ألا تسمع صوته، صوت فناء الخطايا؟
أتى الصباح يا محـبَّ الضوء
يلون بالذهب سفوح الجبال
أرى بلا وضوح الدرب الذي يسير عليه الآن
بقدميه المتألقتين ملاحقاً ظلمة الليل.
ستزول العتمةُ وكل الأشياء
التي تحب العتمة وتكره الضياء
ستختفي إلى الأبد مع اختفاء الليل
ابتهج!
واستمع إلى أغنية هذا البشير وهي تتعالى.
هل صحيح أنّ أفكارنا هي التي تصنع أنفسنا؟
ما دور عقولنا في ذلك؟
وما دخلُ الظروف الخارجية؟
هذا ما يتناوله الكتاب، ليتحدث فيه المؤلف عن علاقة الشخصية بالتفكير، وتأثير نوع التفكير في الظروف، وفي صحة الجسد، وفي الأهداف، وفي تحقيق الإنجازات والمثل العليا والصفاء النفسي.
هذه النقاط هي التي تقود إلى النجاح، وتبعد الألم، وتؤدي إلى الخروج من المآزق والظروف غير المرغوبة.. وتساعد الإنسان في السيطرة على قواه..
الكتاب يخدم الإنسان من أجل اتزانه وسعادته.
يضم هذا الكتاب قسمين، الأول ((الإنسان كما يفكر يكون))، والثاني ((درب الغنى)).
هدف المؤلف في القسم الأول أن يقول للناس: أنتم الذين تصنعون أنفسكم، بسبب اختياركم لنوع الأفكار التي تشجعونها، والتي ينسجها العقل البارع برداء من الشخصية الداخلية والظروف الخارجية، وليس بالتجاهل والألم، بل بالاستنارة والسعادة.
حول هذا الموضوع تناول المؤلف عدداً من النقاط التي تؤدي إلى ذلك، وهي علاقة الشخصية بالتفكير، وتأثير التفكير في الظروف، وتأثير التفكير في صحة الجسد، والتفكير وعلاقته بالأهداف، ودور عامل التفكير في تحقيق الإنجاز، ودور الرؤى والمثل العليا، وأخيراً الصفاء النفسي,
أما القسم الثاني فأراده المؤلف أن يكون دليلاً للنجاح والسعادة؛ ومن هنا قدّم موضوعات أربعة، تدور حول الفكرة العامة، فوقف في أولها عند الشيطان ليأخذ منه درساً يقي من الشقاء والألم وسوء الحظ، وبين في ثانيها أن العالم الواقع انعكاس للحالة الذهنية، وفي الموضوع الثالث تحدث عن طريق الخروج من الظروف غير المرغوبة، وأخيراً فالموضوع الرابع يؤكد فيه على ضرورة سيطرة الإنسان على قواه.
الكتاب يخدم الإنسان من أجل اتزانه وسعادته.