لا أعرف هل تصدى علماء الاجتماع لدينا لدراسة ما ينشر على الفيسبوك وما يستتبعه من ردود أفعال أم لا؟ لكن المؤكد أنه بات من الضروري جدًا عمل هذه الدراسة بانتظام حتى يمكن لنا أن نفهم أنفسنا ونتأمل تحولات شعوبنا الفكرية والمزاجية.
لا ريب في أن الفيسبوك صار جزءًا من الحياة اليومية لملايين المصريين والعرب، وأن وسائل الإعلام التقليدية تتراجع كل لحظة أمام سطوته المتزايدة، حيث غدا الوسيلة الأهم لتداول الأخبار والمعلومات بحرية تامة، فلا رقابة حادة من دولة، ولا تدخل من رؤساء التحرير أو القنوات الفضائية كما يحدث في الوسائل الإعلامية القديمة، الأمر الذي يعني أننا بصدد قفزة نوعية حققها البشر في سبيل الحرية والفرار من سجن الرسميات، ولكن هل كل ما ينشر في الفيسبوك يضاف إلى رصيد الناس في بنك المعرفة والعلم والحرية الفكرية والإعلامية؟
بصراحة شديدة -قد تكون موجعة- فإن أغلب ما ينشر في الفيسبوك يقع في بند التفاهات، وأعتذر عن الوصف، لكن هذه هي الحقيقة، إذ كيف نصنف بوستات تحتوي على هذه العبارات: (أنا زهقان يا جماعة/ بنت خالتي ماتت... الله يرحمها/ اتخنقت من مدرس الكيمياء/ حد يقول لي أعمل البيتزا إزاي/ هاقابل صاحبتي الأنتيم بعد ساعة/ الفتّة علينا حق) إلى آخر هذه النماذج الشائعة، فهل نحن شعوب تافهة إلى هذه الدرجة؟ أم أن هذه البوستات تعبر عن حالة تراجع عامة بعد إخفاق ثورتين في تحقيق أحلام الملايين في العدل والحرية والكرامة؟
أضف إلى ذلك بوستات المرض والموت، علاوة على طلب المغفرة والأدعية وهي بلا حصر، وتتناسل بصورة سريعة جدًا في أيام الجمع والأعياد الدينية، وكلها تدور في فلك (ابتزاز المشاعر) إذا جاز القول، من أجل جلب اللايكات والتعليقات والتشييرات!
أما الصور الشخصية وصور الأبناء وربما الأحفاد فهي تزين الفيسبوك بانتظام، وتنشر بكثافة مصحوبة بعبارات إطراء وأدعية تدعو الله أن يحفظ الجميع، وليس عندي اعتراض على نشر هذه الصور، وإنما أتساءل: أليس من الأجدى أن نتخفف منها قليلا حتى لا يعترينا الغرور ونصبح مثل (نرسيس) في الأسطورة اليونانية الشهيرة؟!
هذه هي الصورة العامة لمحتوى الفيسبوك، حيث تتراجع إلى أدنى مرتبة القضايا الجادة والأفكار اللامعة والأسئلة المثيرة، الأمر الذي يفسر لنا إلى حد كبير السر في أن بوستا يقول (أنا زهقان يا جماعة) يحصل على 300 لايك مثلا، بينما بوست يناقش قضية جادة في الفكر أو الثقافة أو السياسة فلا يحظى عادة سوى بلايكات لا تتعدى العشرة!
لاحظ أنني لم أتحدث عن الألفاظ البذيئة والسوقية التي فاحت رائحتها في فضاء الفيسبوك، حتى صارت البذاءة عنوانا لزمن بائس، فتلك قضية أخرى، لكل هذا أطالب بعمل دراسات جادة عن محتويات الفيسبوك لعل وعسى أن نعي أنفسنا أكثر فنعمل على تغيير حياتنا إلى الأجمل والأغنى.
حقا ما أحوجنا الآن إلى رجل بقامة رائد علم الاجتماع الدكتور سيد عويس (1903/ 1988) الذي طاف بمدن مصر وقراها يرصد ما يكتبه الناس على الجدران وعربات النقل ويحلله بذكاء بالغ في كتابه المدهش (هتاف الصامتين).
أجل.. ننتظر كتابًا مهمًّا عن (دنيا الفيسبوك).