على الرغم من بداية ظهور المراسلة عبر شبكة الإنترنت في نهاية القرن العشرين، فإن شبكات التواصل الاجتماعي لم تصبح شائعة الاستخدام إلا مع بدايات القرن الحادي والعشرين، اعتماداً على تكنولوجيا الويب. وبعد ظهور تجارب عدة مهمة لهذه الشبكات، مثل "سيكس ديغريز" و"فريند ستير" و"ماي سبيس" وسواها، ظهرت تجارب أكثر تطوراً استقطبت مستخدمين من كل بقاع العالم، منها موقع "يوتيوب" الذي بدأ عام 2005 وموقع "فيسبوك" عام 2006، ثم توالت المنصات الأخرى وأهمها "تويتر" و"إنستغرام" و"واتساب" و"لينكد إن" و"ريد إت"، وغيرها من المواقع التي يمكن وصفها بالمليارية، نظراً إلى مليارات المشتركين الذين يستخدمونها بشكل يومي حول العالم.
وأفرزت هذه الشبكات، لا سيما "فيسبوك" و"إنستغرام" و"يوتيوب" ظواهر ثقافية تنوعت بين مجموعات ثقافية وأندية قراءة و"بوكيوتيوبر" وغيرها.
أتاحت هذه المجموعات تفاعلاً افتراضياً، ترواحت الآراء حوله بين تعظيم أثره والتهوين منه، فبينما يرى البعض أن هذه الكيانات حرّكت المياه الراكدة وأحدثت نشاطاً ثقافياً، يرى آخرون أنها لا تعدو مجرد حيل تجارية، تدفع بها بعض دور النشر، للترويج لعناوين ربما لا ترقى إلى مستوى جيد، من أجل تحقيق مكاسب مادية. وبين هذا وذاك، يصبح السؤال الأكثر إلحاحاً: ماذا يمكن أن تقدم هذه الأندية والمجموعات والقنوات للواقع الثقافي، وهل ستخطو باتجاه النضج، أم أنها لا تعدو كونها ظواهر فقاعية، مآلها الاندثار؟
بين المحترفين والأصليين
إبراهيم عادل، العضو المؤسس لـ"نادي القراء المحترفين" و"نادي القراء الأصليين"، يقول: "قبل ظهور فيسبوك، بدأ مجتمع القراء في خلق مساحة لهم على الفضاء الإلكتروني، فكانوا حاضرين بكثافة على موقع غودريدز الذي حقق شهرة واسعة منذ حوالى عقدين من الزمان. وأحدثت هذه التجربة نوعاً من الزخم الثقافي، تطوّر مع ظهور فيسبوك ومواقع التواصل الأخرى".
ويستطرد: "بدأ الأصدقاء من ذوي الاهتمامات المشتركة، لا سيما القراءة، يستخدمون المميزات التي يتيحها فيسبوك، ومنها إنشاء مجموعة تفاعلية، يتبادل أعضاؤها الآراء حول الكتب، ويرشّحون عناوين لبعضهم البعض، فتحوّلت نماذج منها بعدما شهدته من نجاح، من مجرد كيان افتراضي إلى دور نشر كبيرة وناجحة مثل ’عصير الكتب‘. وألهم نجاح تجربة ’عصير الكتب‘ دور نشر أخرى، فقامت بتكرار التجربة وتأسيس نادٍ للقراءة، مثلما فعلت دار نشر ’بتانة‘، عندما أنشأت ’نادي القراء المحترفين‘ على فيسبوك، الذي يزيد أعضاؤه حالياً على 200 ألف عضو. وكانت للنادي طموحات كبيرة، على رأسها عمل بطاقات عضوية وتوسيع نشاطه بشكل يضمن تنوع جمهوره، وتشجيع الناس على القراءة وكتابة عروض للكتب وإتاحة خصومات للأعضاء، لكن معظم هذه الطموحات لم يتحقق".
ويردف عادل: "تركتُ نادي القراء المحترفين، وقمت بتأسيس نادٍ آخر هو ’نادي القراء الأصليين‘، لكنني ما لبثت أن انسحبت أيضاً، بعد أن أنهكتني مساوئ التواصل الاجتماعي، التي وجدت طريقها إلى أندية القراءة، بحيث أصبح همّ الكثيرين مجرد الحصول على أعداد من الإعجاب (لايك)، وباتت التعليقات والعروض خالية من أي مضمون". ويضيف: "هناك الكثير من السلبيات الأخرى التي واجهتُها أثناء نشاطي هذا، على رأسها تطاول أو هجوم البعض على عرض يمدح كاتباً، أو ينتقده، فضلاً عن تدخل دور النشر في توجيه الكثير من العروض، للترويج لكتب من إنتاجها، بهدف تحقيق مكاسب تجارية. وهذا ما أفقد المجموعات الثقافية كثيراً من مصداقيتها".
لكن عادل وعلى الرغم من ذلك، يصرّ على الأثر الإيجابي لهذه الأندية في إنعاش المناخ الثقافي وإفادتها لصناعة النشر بشكل عام. فالكل -على حد قوله- مستفيد سواء دور النشر أو الكتّاب أو القراء.
مجموعة "بوك بنك"
أما فادي فريد، مؤسس مجموعة "بوك بنك"، فيقول: "الرغبة بإيجاد من يشبهك وتبادل الخبرات دائماً ما يكونان بمثابة الدافع لخلق المجموعات الافتراضية، على وسائل التواصل الاجتماعي".
ويوضح أن الهدف من إنشاء "بوك بنك"، مشاركة شغف القراءة وتبادل الخبرات والمراجعات عن الكتب. ويذكر أن غالبية الأعضاء من الفتيات، بينما تترواح الفئة العمرية للمشتركين من 20 إلى 50 سنة.
أما طبيعة المضامين التي تتصدر المشهد التفاعلي، فيؤكد تنوعها بين التاريخ وأدب الجريمة والفانتازيا، وإن كان "بوك بنك" يحرص على تناول المضامين الخفيفة، بهدف استقطاب المزيد من الأعضاء، لا سيما المبتدئين في نشاط القراءة.
ويعتبر فريد "نادي القراء المحترفين"، أحد أهم المجموعات الافتراضية، التي تشهد تفاعلاً حقيقياً ومؤثراً في المشهد الثقافي، وأنه وغيره من المجموعات وأندية القراءة، يمكن اعتبارها أهم إضافة إلى المناخ الثقافي، نظراً إلى ما أنجزته لجهة تحريك المياه الراكدة منذ سنين، وما أتاحته من فرصة للتفاعل بين الكتّاب والقراء وبين القراء وبعضهم البعض.
وعن أهم الكتّاب الذين نجحوا في التفاعل مع أندية القراءة، وتصدَّرت عناوينهم المشهد التفاعلي، يعدد مؤسس "بوك بنك" بعض الأسماء، من بينها محمد المنسي قنديل، ريم بسيوني، هشام الخشن، عمر طاهر، أشرف العشماوي، إبراهيم عيسى، حسن كمال، كمال رحيم، أحمد القرملاوي وغيرهم.
طفرة ثقافية
غدير حسين "بوكيوتيوبر"، أو صانعة محتوى على "يوتيوب" تقول: "قبل أن أبدأ بتأسيس قناة على يوتيوب، انضممت إلى بعض أندية القراءة على السوشيال ميديا لرغبتي بالتعرف على مجتمع القراء عن قرب. حققت هذه الأندية طفرة ثقافية، وساعدت على التعريف بالكثير من الكتب والكتّاب، وخلقت حالة من التكامل بين المشهد الثقافي في العالم الافتراضي ونظيره في العالم الواقعي".
وتواصل: "اكتشفتُ أهمية يوتيوب من خلال مشاهدتي لمحتويات عربية وأجنبية، وأدركتُ أن برامج الكتب أصبحت دليلاً للقرّاء لاختيار كتب بعينها، لا سيما أثناء فعاليات معارض الكتاب".
وتؤكد أن قرارها بتأسيس قناة على "يوتيوب" كان يهدف في الأساس لإفادة الشباب واليافعين، لذا عملت على تقديم مضمون مختلف من حيث أسلوب العرض ونوع المحتوى، الذي يركز على الأعمال الفكرية إلى جانب الأدبية، ويعمد إلى طرح مراجعات لأعمال كبار الكتّاب مثل نجيب محفوظ، فضلاً عن الاهتمام بمخاطبة القارئ الجديد في عالم القراءة من خلال تقديم نصائح لجعلها إحدى عاداته، بحيث يتأتى كل ذلك من خلال تجربة بصرية ممتعة. وترى حسين أن قنوات الكتب العربية عبر "يوتيوب" بدأت متأخرة عن مثيلتها الأجنبية، لكنها لا تزال تملك فرصاً كبيرة للنمو والانتشار.
منافسة الوسائل التقليدية
هل كان بروز أندية القراءة و"بوكيوتيوبر"، عبر وسائل التواصل الاجتماعي تعبيراً عن نقص مساحة البرامج الثقافية على خريطة الإعلام التقليدي؟ يجيب الإعلامي خالد منصور، قائلاً: "بطبيعة الحال أحدثت مواقع التواصل الاجتماعي وازدياد الاعتماد على الإنترنت، تغييراً في مختلف نواحي الحياة، بالتالي امتد هذا التغيير إلى عالم الكتاب وعالم الإعلام".
ويكمل: "هناك بالفعل نقص في مساحة البرامج الثقافية أمام حجم الحراك الثقافي من إصدارات وفعاليات وقضايا ثقافية، ولكن ظهور مجموعات وأندية القراءة له الكثير من الأسباب، التي تختلف بحسب الأطراف المتصلة بالكتاب. وجد الناشر في هذه الأندية سبيلاً لتسويق إنتاجه، أما القارئ الذي كان قديماً يبعث برسالة إلى الكاتب، أو إلى "بريد القراء" في صحيفة، أو مجلة، أو ينتظر حواراً صحافياً أو تلفزيونياً أو ندوة تستضيف الكاتب، يستطيع الآن التواصل معه بشكل مباشر. بينما بإمكان الكاتب الرد على قرائه ومعرفة آرائهم وتأويلاتهم لعمله. وهكذا وجد كل طرف ضالة ما في هذه المجموعات، التي أتاحت سرعة التفاعل بين القراء والكتّاب".
ويضيف: "من أجل تقييم أداء هذه المجموعات والأندية والبرامج تقييماً موضوعياً، لا بد من التوصل إلى إحصاءات حول قراءة الكتب، والتوقف عن الجلد المستمر للذات، وترديد فكرة أننا ’لا نقرأ‘، كذلك ليس المهم كم نقرأ فقط، ولكن أيضاً ماذا نقرأ؟".
وحول المآخذ التي يمكن اعتبارها ضمن نقاط الضعف في مجموعات القراءة، يشير منصور إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي في كثير من الأحيان، تجمع المتشابهين في مكان واحد، أكثر من كونها تثير الفضول نحو المختلف. كما أن مساحة الحرية الموجودة في كل مجموعة أو نادٍ هي مساحة نسبية ربما لا تسمح بالتعرف إلى اتجاهات جديدة، ولا تعرّض القراء لتجربة قراءة عمل مختلف عما اعتادوا عليه.
ونظراً إلى عمل هذه المجموعات داخل عالم افتراضي، يؤكد منصور أن ذلك يسهل إمكانية صنع "نجوم وهميين"، بخاصة إذا افترضنا وجود دعم لمشاركات على مواقع التواصل الاجتماعي على سبيل المثال، أو حتى من خلال فرض رقابة على ما يُصدّر عن كاتب بعينه، فيتم إظهار المدح، بينما يُخفى الذم. وهذا الأمر إضافة إلى اعتماد معيار "ترافيك" و"تريند"، يساعد على استمرار الأسوأ ما دامت له قدرة أكبر على الانتشار. أو ربما يستمر من يستطيع اكتساب ثقة جمهوره من خلال تفاعله مع القراء. أما الإعلام التقليدي، - وفقاً لمنصور- فسينحو للتكامل بشكل أكبر مع التطور الحاصل وإلا طواه النسيان.
المراقب من بعيد
ويرى الكاتب والمستشار الثقافي السابق لمؤسسة "ألف" عماد العادلي أن الظواهر الثقافية التي أسفر عنها انتشار وسائل التواصل الاجتماعي من غروبات ثقافية وأندية قراءة وقنوات على "يوتيوب"، مثلها كمثل أي نشاط بشري يستفيد من التطور التكنولوجي. ويؤكد أن مجال القراءة والمعرفة يُعدّ أقل المستفيدين من التكنولوجيا الحديثة، ولا يزال محدوداً.
ويرى أن عمل هذه الأندية لم يسهم إلا بنسبة بسيطة في تحسين المناخ الثقافي لأنه عمل غير مؤسسي ولا يمكن اعتباره نشاطاً نقدياً، إذ ينبع من محبي القراءة، وليس من أهل الاختصاص. وهذا لا ينفي – بحسب العادلي - إيجابية هذه الكيانات الافتراضية، لكن لا يُعوَّل عليها في إحداث حراك ثقافي، لا سيما مع توجيهها لأهداف تجارية، وتأثرها بعلاقات شخصية، تجعلها وسيلة للإشادة بمضامين، ربما لا تستحق، والعكس.
ويضيف أن المتابع لنشاط هذه الأندية يجد أن غالبيتها يصدّر آراء انطباعية، غير مفيدة وغير ناضجة، ولا تشتبك مع العمل الأدبي، وأحياناً تُسائل الكاتب أسئلة أخلاقية ودينية. وهذا ما دفعه -على حد قوله- إلى العزوف والوقوف موقف المراقب من بعيد.
ويؤكد العادلي أن مثل هذه الأندية والقنوات يمكن أن تلعب دوراً ثقافياً كبيراً إذا وجدت دعماً مؤسسياً، وإذا أدركت المؤسسة الثقافية أهميتها في نشر الثقافة والمعرفة، وإذا أدارها ذوو الاختصاص.
بين التراثي والغربي
أما الباحث والمتخصص في مجال النشر خالد عزب، فيعتبر أن التطور التكنولوجي فرض واقعاً جديداً، لا سيما في المجال الثقافي، وأن شبكات التواصل الاجتماعي أتاحت نوافذ جديدة للمثقفين، فظهرت كنتيجة لها منتديات افتراضية ثقافية متخصصة للمؤرخين والأثريين وعلماء الاجتماع وغيرهم.
ويرى أن هذه التجمعات تجاوزت فكرة القالب الوظيفي للمؤسسات الثقافية الرسمية، التي شهد دورها انحساراً جاء في صالح هذه الأندية الافتراضية. ويقارن بين أداء المجموعات الثقافية الافتراضية الغربية، ونظيرتها في العالم العربي، مؤكداً أن الدول الغربية لا تضع عوائق أمام المثقفين، لذا تتواءم الكيانات الافتراضية والواقعية لتحقيق الهدف ذاته، وهذا لا يحدث في مصر والعالم العربي عموماً.
ويعدّد عزب إيجابيات أندية القراءة الافتراضية، مشيراً إلى ما تعززه من "نوستالجيا" تستدعي أسماءً مثل طه حسين وزكي نجيب محمود وبدر شاكر السياب وحسن حسني عبد الوهاب وغيرهم.
وأشار إلى أن الواقع التكنولوجي، الذي استثمره رواد مواقع التواصل الاجتماعي قضى على المركزية الثقافية للعواصم، وقلَّل من التكلفة المادية للحراك الثقافي، وأسفر عن انتقال المعرفة والتعليم من الحيز الافتراضي إلى الواقعي، موضحاً أن ذلك تجلّى في زيادة الاهتمام بالخط العربي والنحو والصرف وببحور الشعر وغيرها من معارف، ما ساعد على إيجاد تعليم موازٍ غير نمطي.