تخطي إلى المحتوى
مدارس الكتابة مدارس الكتابة > مدارس الكتابة

مدارس الكتابة

ار نقاش كثيف في الأيام الماضية حول نوع الأدب المنتشر الآن، خاصة في أوساط الشباب، وأنه مجرد أدب سطحي، يفتقر للموضوعية والعمق والرقي، ويؤثر كثيرا في تلقي الناس للآداب الراقية، حين ينتشر بهذه الكثافة.
في الحقيقة علينا الاعتراف أولا بأن الآداب والفنون لم تعد من النكهات المفضلة التي يتعاطاها الناس هذه الأيام، بسبب ما تحدثنا عنه كثيرا من عدم استقرار سياسي واقتصادي في كثير من الدول العربية، وتركيز المواطن في هذه الدول، على البحث عن الأمن أولا، ثم لقمة العيش ثانيا. وإذا أضفنا عامل الحروب وما يسببه من دمار شامل في البنى التحتية، نجد أن الصحة أيضا في تدهور، وبالتالي لا فائدة من القراءة، ولا فائدة من المعرفة حتى إن كانت ثمة معرفة ستجنى من وراء القراءة، وحقيقة لا ميزانية للكتب.
لذلك كان استغرابي كبيرا حين خاطبني أحد الشباب، ليخبرني عن تكوين جماعة للقراءة في السودان، هدفها إنشاء مكتبات عامة في الأحياء المختلفة لمدينته، وذلك لتشجيع الناس على القراءة، وأنهم يودون دعم الذين همهم الكتابة والقراءة. وقد رددت عليه بأنني أشجع ذلك النشاط تماما، وبالطبع أود دعمه بما أستطيع، لكني أتساءل عن المواطن الذي سيقرأ؟ كيف سيوجد؟ وكل ما حوله دمار، الماضي لم يعد ماضيا يسر الذكريات أن تستعيده، والحاضر كما هو حاضر بائس جدا، والمستقبل لا يمكن تذويقه بأي لون من الألوان المبهجة، بأي حال من الأحوال. وحتى إن استطاع هذا النشاط استقطاب أحد في النهاية، فليس لزمن طويل، لأن ما ينتظر القارئ المفترض، من مطبات الحياة الراهنة، كثير جدا.
هذه ليست نظرة تشاؤمية، ولا محاولة لإلغاء عادة القراءة، لأن القراءة موجودة في أي عصر مهما كانت مآزقه، وهناك أشخاص يقرأوون تحت القصف، وعلى أضواء الشموع، وفي أي بقعة يعثرون فيها على شيء من الأمل.
لذلك كله، سنحتفي احتفاء كبيرا بالأدب الذي يشد الشباب نحو القراءة، في هذا الزمن، حتى لو كان أدبا عاديا بلا لغة معقدة ولا عمق فكري، وإنما فنتازيا وأساطير، وشيء من السحر والجنون.
والفنتازيا صراحة ليست أدبا سيئا، وهناك كتاب كثيرون في أمريكا، وأوروبا، يكتبونها بحرفية عالية، وتندمج في عالمها ولا تحس حتى ينتهي الكتاب. وحين تقرأ مثلا رواية «المحيط في نهاية الدرب» لنيل جايمان، لا تحس بأي فرق بين الواقعي والأسطوري. هو يكتب لك قصة عادية جدا عن أطفال يلعبون في حي ما، ويعثرون على شيء غريب، يتضح أنه غلاف لمجهول يحملهم بعيدا. وترى موتى يعيشون بعادية مع الناس، وأشياء كثيرة غريبة لكن لا تستطيع بترها من لحمة النص، ولا نبذها، ولا الخوف منها أيضا.
الواقعية السحرية فيها أشياء مثل هذه، لكن في رواية الفنتازيا توجد اختراعات خاصة بالكاتب، مثل اختراع نباتات غير موجودة، وماركات عطور غير موجودة، وحتى سيارات تسير بشيء آخر غير البنزين والكهرباء، وكثير من الحيل الأخرى التي اعتبرها جاذبة للقراءة.
لو نظرنا إلى رواية «هاري بوتر»، للإنكليزية رولنغ، أكثر الكتب انتشارا في تاريخ القراءة، سنجد فيها هذه الغرائب كلها، وسنندهش منها كلما قرأنا جزءا جديدا. وشخصيا لا أحس بأي خجل من القول بأنني قرأتها واستمتعت بها، ولا أحس بأي استغراب من تزاحم الناس بجانب المكتبات، كلما أعلن عن صدور كتاب من هذه السلسلة.
طيب، هل الأدب الراقي الذي يحتفي بالتاريخ، والفلسفة، وجذور المجتمعات، هو أدب جامد، ويخلو من الفنتازيا في بعض مقاطعه؟
بالطبع لا، في كثير من النصوص التي كتبها متمكنون أمثال هاروكي موراكامي، وعندنا في العربية صبري موسى في روايته «فساد الأمكنة» التي أعتبرها من عيون الأدب العربي، بالرغم من أنها لم تنتشر وسط الأجيال الجديدة من القراء. أيضا ما كُتب عن أساطير النوبة ومجتمعهم في مصر، مثل رواية محمد خليل قاسم اليتيمة «الشمندورة»، وحتى رواية مثل «طرف من خبر الآخرة» للكاتب المصري الراحل عبد الحكيم قاسم، بالرغم من أنها أدب شديد الرقي، لكن لديها جانبها الغريب أيضا.
هناك ما يسمى الأدب التجاري، في أوروبا وأمريكا، وهو أدب قائم على الإثارة بمختلف أنواعها، لكنه أدب مشروع، ونجد في إعلانات الوكلاء الأدبيين الذين يروجون للكتاب، من يكتب أنه يقبل الأدب الراقي، ومن يكتب أنه يقبل الأدب التجاري، ويعرف هؤلاء الوكلاء، ونعرف كلنا أن كلا من النوعين، له زبائنه الذين يحتفون به.
وحين تقرأ للصينية وي هيوي رواية مثل «الزواج من بوذا»، ستجد كثيرا من المقاطع الجنسية، والأحداث المثيرة، ولن تعثر على لغة شعرية أو مقاطع مصاغة بطريقة أدبية. هنا إما أن تستمر في القراءة، أو تترك الكتاب، وقطعا هناك من يستمر، وربما هناك من لا يستمر، وفي النهاية لن تقول إن هذا ليس أدبا، إنه أدب فقط تجاري، ويعشقه الكثيرون.
منذ سنوات، كنت في الخرطوم، وكنت عائدا إلى قطر، وفي المطار التقيت بأحد الشباب، وكان يحمل في يده رواية اسمها «أدب رخيص» لشارلز بوكوفسكي. وقف الشاب معي في أحد الأركان، وسألني: هل قرأت هذه الرواية من قبل؟ قلت قرأت لبوكوفسكي، لكن هذه الرواية لم أقرأها. أهداني إياها، وكتب لي إهداء على الصفحة الأولى الداخلية، حملتها في يدي، ودخلت بها الطائرة، وبدأت أقرأها وكانت أقرب للسوقية في لغتها وتعاملها مع الإنسان، خاصة المرأة. لكنني لم أستطع تركها وظللت أقرأ طوال الرحلة، وفي مطار الدوحة أثناء إنهاء إجراءات السفر، وفي بيتي حتى اليوم التالي، رواية سوقية جذابة جدا، وأيضا هنا أقول، إنه أدب مختلف، ولكنه أدب في النهاية.
لنكتب إذن أدبنا الراقي الذي قد لا يكون مفضلا لدى الجيل الجديد من القراء، ونترك الآخرين يكتبون تجاريا، ولن نخسر بانجذاب الناس للقراءة.

المصدر: 
القدس العربي
USD
  • USD
  • EUR
  • SAR
  • TRY
  • AED