تخطي إلى المحتوى
الأرض التي نسيها الزمن وأظهرها الاستعمار الأوروبي.. كيف هُمشت أفريقيا في سرد الحداثة؟ الأرض التي نسيها الزمن وأظهرها الاستعمار الأوروبي.. كيف هُمشت أفريقيا في سرد الحداثة؟ > الأرض التي نسيها الزمن وأظهرها الاستعمار الأوروبي.. كيف هُمشت أفريقيا في سرد الحداثة؟

الأرض التي نسيها الزمن وأظهرها الاستعمار الأوروبي.. كيف هُمشت أفريقيا في سرد الحداثة؟

لا يزال العالم يُسيء فهم أفريقيا، وكثيرًا ما تحظى بالتشويه في المحادثات العالمية، سواء في أعمال دارسي القارة السمراء والمتخصصين في الشأن الأفريقي أو حتى في تقارير الصحفيين وتقارير أعمال الإغاثة.

كلهم يميلون إلى رؤية أفريقيا على أنها استثنائية ومختلفة، ويكاد دور القارة السمراء المركزي في صناعة الحداثة يختفي من تاريخ العالم السائد الذي يمنح الأولوية للمركزية الأوروبية، ويركز على قضايا مثل اكتشاف العالم الجديد وتطور المنهج العلمي وانتشار الفلسفات الأوروبية.

وقد شكلت مواجهة أفريقيا مع البرتغاليين بداية نقطة محورية في التاريخ الحديث منذ أواخر القرن الـ15 الميلادي حتى القرن الـ17، وغذّت تجارة الذهب والعبيد الاهتمام الأوروبي بأفريقيا وأسفرت عن إنشاء نظام مزارع الرقيق الذي كان حجر الزاوية للثروة الأوروبية والتفاوتات العالمية.

يقول الكاتب أولوفيمي تايو، في تقرير نشرته مجلة "فورين أفيرز" (Foreign affairs) الأميركية، إن أفريقيا من حيث المفهوم الجغرافي لا تزال توصف بكونها منطقة محفوفة بالمخاطر، وغالبًا ما تُقسّم القارة بين شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء، وهو تقسيم يعود إلى القرن الـ19 ومتجذّر في المعتقدات العنصرية حول الاختلافات بين المجموعات العرقية في المناطق الشمالية ذات الغالبية العربية وتلك الموجودة فيما كان يُطلق عليه آنذاك "أفريقيا السوداء".

تقف أفريقيا أيضا خارج الزمن، ذلك أنها القارة الوحيدة التي يكتفي المؤرخون باختزال تاريخها في 3 حقب فقط: حقبة طويلة قبل الاستعمار، وحقبة استعمارية قصيرة نسبيا، وحقبة ما بعد الاستعمار الحالية.

ونتيجة لذلك، يتمحور التاريخ الأفريقي حول الغزو الأوروبي في أواخر القرن الـ19 لجزء كبير من القارة، وهذا الفهم للماضي الأفريقي لا يقارن بأوروبا التي يقسم تاريخها إلى عدد كبير من العصور على غرار العصور المظلمة والعصور الوسطى وعصر النهضة، ولا أحد يجرؤ على اختزال تاريخ أوروبا بناء على الحقبة الاستعمارية. أما أفريقيا، فهي الأرض التي نسيها الزمن وظهرت في التاريخ فقط من خلال مواجهتها مع أوروبا.

ويضيف الكاتب أن النتيجة التي لا يمكن إنكارها لهذا النمط الفكري هي المحو شبه الكامل لأفريقيا من الناحية الاجتماعية والسياسية والثقافية ومن ناحية إسهاماتها الفكرية والسير الذاتية لمفكريها من سجلات التاريخ العالمي.

والتحدي المتمثل في استعادة أفريقيا من هذا الوجود الصامت هو الذي أخرج إلى النور كتاب "مولود في الظلمة: أفريقيا والأفارقة وصناعة العالم الحديث.. منذ 1471 إلى الحرب العالمية الثانية" للكاتب والصحفي هوارد فرينش.

يستكشف الكتاب العلاقات المعقدة بين الأفارقة والأوروبيين في القرون التي سبقت الاستعمار الرسمي في نهاية القرن الـ19، رافضًا كثيرا من المعطيات السائدة حول هذه الحقبة، ليوضح أن أفريقيا لم تكن قط هامشية في الأحداث العالمية بل هي مهد العالم الحديث.

ويشرح كيف تطور نظام زراعة السكر في ساو تومي بغرب أفريقيا لتنتقل إلى البرازيل والكاريبي؛ فتحدث تطورا اقتصاديا يفضي إلى توفير سعرات حرارية عالية أسهمت في تطور التصنيع وانتشار السفن، ومن ثم ولادة المجال العام الحديث.

ولم يكن دور الممالك الأفريقية في تلك القصة -مثل مملكة حاكم إمبراطورية مالي الثرية مانسا موسى- في تلك القصة، بما في ذلك تجارة العبيد، أقل من نظيراتها الأوروبية، لكن انتقال الأفارقة لتشغيل المزارع الأوروبية في المستعمرات جعل القارة السمراء أضعف وأقل سكانا.

أفريقيا في المركز

لا تلعب أفريقيا إلا دورا محدودا في القصة التقليدية لنشأة العالم الحديث، فقد دفعت الحاجة إلى إيجاد طرق تجارية بديلة إلى آسيا رحلات الاكتشاف الأوروبية في القرن الـ15 وما بعده.

اكتشف الأوروبيون الأميركيتين بالمصادفة، ومن هناك بدأ تطور العصر الحديث: الإبادة الجماعية للشعوب الأصلية، وتوسع الاستعمار الاستيطاني، وتطور تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، وصعود الرأسمالية، والثورة الصناعية والإمبريالية التي جعلت أوروبا قوة اقتصادية عالمية.

لكن ما عاشته أفريقيا من أحداث لم يشغل حيزًا في هذه الرواية حتى ازدهار تجارة الرقيق، ليقتصر ظهور القارة كمصدر للكيانات التي وُظّفت من أجل تكوين ثروة هائلة.

ويذكر الكاتب أن أفريقيا لم تكن ساحة للهيمنة الأوروبية أو عرضا جانبيا في دراما الإمبراطوريات البحرية الناشئة، بل كانت مركزًا لقصة أكثر تعقيدًا.

ويقول فرينش في كتابه إن الدافع الأول لعصر الاكتشاف لم يكن توق أوروبا إلى العلاقات مع آسيا "كما درس كثير منا في المدرسة الابتدائية"، بل بالأحرى رغبتها التي تعود إلى قرون بإقامة علاقات تجارية مع المجتمعات السوداء الغنية المختبئة في مكان ما في قلب غرب أفريقيا "الأكثر ظلمة".

ويُذكّر فرينش القراء بأن أفريقيا لم تكن معزولة عن بقية العالم، بل كانت حاضرة في الخيال الأوروبي كمصدر للثروات العظيمة. ويعتمد فرينش على مواد رائعة من أرشيفات عديدة من جميع أنحاء العالم.

على سبيل المثال، يسلط الضوء على الاكتشاف الاستثنائي للتعليم المسيحي المنشور بلغة البانتو (أهم اللغات النيجيرية الكونغوية) في ليما (عاصمة البيرو) في القرن الـ17.

والتفاصيل التي يتضمنها الكتاب مفهومة في الغالب، مثل سرد رحلة البحارة البرتغاليين شرقًا على طول الساحل الأفريقي وكيفية تعاملهم مع التشكيلات السياسية المعقدة، مثل مملكتي بنين وكونغو، فضلا عن أن استحضار فرينش الدقيق لمثل هذه الأحداث يجعل غيابها الصارخ عن السرد التاريخي التقليدي أكثر وضوحًا.

وتكشف ديناميكيات هذه التفاعلات بين الأفارقة وشركائهم التجاريين الأوروبيين عن العديد من الأخطاء في أنماط التفكير السائدة، ومن ذلك فكرة أن الأفارقة كانوا بشكل أساسي ضحايا هذه المواجهات.

وعلى العكس تمامًا، يجادل فرينش بأن الزوار الأوروبيين للدول الأفريقية غالبًا ما كانوا يتعاملون مع مضيفيهم الأفارقة على قدم المساواة ويحترمون سيادتهم، حتى في الفترة التي أدت إلى ظهور تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي.

وقد يكون من الصعب رؤية هذا النوع من الفوارق الدقيقة والتاريخية بسبب المفاهيم الراسخة للتاريخ الأفريقي التي اختزلت كل ما حدث قبل أواخر القرن الـ19 إلى حقبة واحدة غير متمايزة لم يحدث فيها أي شيء يكتسي أهمية حقيقية.

من أسواق الرقيق إلى المقاهي

يشير الكتاب إلى أن أفريقيا لم تكن مجرد شرارة لانطلاق عصر الاستكشاف في أوروبا، وهو مصطلح لطيف مثير للفضول يشير إلى الرحلات التي أدت إلى الإبادة الجماعية والغزو والاستعباد.

ويطرح فرينش ادعاء أكثر طموحًا يمكّن المؤرخين من رصد أسس العالم الحديث في هذه التفاعلات الأوروبية المبكرة مع أفريقيا.

ويُبيّن فرينش أنه يمكن عزو جميع المؤسسات والممارسات تقريبًا التي ترمز إلى الاقتصاد الحديث، ومصادر ثروة أوروبا وأميركا الشمالية، وظهور أشكال ثقافية أصلية ضرورية جدا للحياة الحديثة؛ إلى أفريقيا والعلاقات المبكرة بين الأفارقة والأوروبيين.

كما أن النموذج الاقتصادي الذي أنتج ثروة الدول الرائدة في العصر الحديث في أوروبا الغربية والأميركيتين بُني على الاستغلال المفرط للعمالة الأفريقية، في المقام الأول، وبعد ذلك سرعان ما انتشر إلى العالم الجديد مع كل الوحشية البشعة المتأصلة فيه.

القهوة والسكر وتشكل الفضاء العام

أسهم استغلال العمالة السوداء في أماكن أخرى في تطوير أشكال ثقافية لا تزال منتشرة وقوية اليوم. ولم تنتج العبودية الأساس المادي لثروة العصر الحديث فحسب، بل كانت أيضًا جزءًا لا يتجزأ من إنتاج القهوة والسكر.

ووفقًا لفرينش، فتح أول مقهى في أوروبا الغربية أبوابه عام 1650 في أكسفورد، وجذب توفر المشروبات الساخنة والمحلاة والمحفزة الناس إلى المقاهي في جميع أنحاء أوروبا وساعد في بناء ثقافة الحوار والنقاش التي من شأنها أن تؤدي في النهاية إلى تشكّل الفضاء العام الحديث.

مفارقة إغفال المثقفين الأفارقة

رغم أن الكتاب يُغير قواعد التفكير السائدة، فإنه لا يخلو من بعض الإغفالات المؤسفة، فقد كان الدافع الرئيس لفرينش استعادة الفعالية والحيوية الأفريقية والدور الذي لعبته القارة في سرديات أصول الحداثة.

لكن المفارقة تكمن في أنه لم يعتمد على المشاركات الفكرية للمفكرين الأفارقة في الجدل حول الحداثة، وتجاوز رد فعل المثقفين الأفارقة على الغزو والاستعمار الأوروبي.

وتعدّ المفارقة أعمق بالنظر إلى الدور المركزي لغرب أفريقيا، بما في ذلك غانا الحديثة، في تطوير الاستجابات الفلسفية والسياسية الأكثر أهمية للحداثة، مثل دستور اتحاد فانت الصادر في عام 1871، الذي يصنف من بين أهم المحاولات الأولى لوضع دستور ليبرالي خارج أوروبا والولايات المتحدة.

ويستحق دستور جمهورية ليبيريا كذلك اهتمامًا جادًّا، لاعتماده شبه الكامل للمبادئ التأسيسية لدستور الولايات المتحدة.

ويرى عرض "فورين أفيرز" أنه كان بإمكان فرينش استكشاف كتابات القرن الـ19 للكاتب السيراليوني جيمس أفريكانوس بيل هورتون، والمفكر الليبيري إدوارد ويلموت بلايدن، والكاهن الأميركي الأسود ألكسندر كروميل، الذين سعوا جميعًا إلى إصلاح المجتمعات الأفريقية وإعادة تشكيلها واتهموا المستعمرين الأوروبيين بالنفاق عبر حرمان الأفارقة من العقيدة الأساسية للعصر، وهي حق البشر في أن يكونوا أسياد أنفسهم.

وتطرق العرض إلى استناد عدد متزايد من السياسيين وغيرهم في السنوات الأخيرة، في أوروبا وأميركا الشمالية، إلى الخطاب القديم للقرن الـ19 في الإشادة بالفضائل الاستثنائية المفترضة للحضارة الغربية وإهانة ثقافات الآخرين، فهم يرون الحداثة على أنها التراث الشرعي لمجتمعاتهم، ويصوّرون أفريقيا على أنها تقليدية أو حتى متخلّفة.

بل إن منظري إنهاء الاستعمار، المناهضين للعنصرية، يرون العالم من منظور ثنائي يظهر فيه الأفارقة ضحايا دائمين لجشع الأوروبيين.

لكن فرينش يقدم وجهة نظر مختلفة تمامًا تقول إن قرونًا من التفاعلات بين الأفارقة والأوروبيين أظهرت أن الحداثة لا تنتمي إلى ثقافة معينة بل هي إرث بشري.

إن فرينش لا يعيد صياغة التاريخ الأفريقي بقدر ما يسعى إلى إعادة صياغة التاريخ العالمي وكيف يتخيل الناس مكانهم في العالم.

المصدر : الجزيرة + فورين أفيرز