كنت وما زلت أشعر بأن فراشي هو عالمي الحميمي الصغير، عالمي الذي من النادر أن يقترب منه أحد، ويقتحم خلوتي فيه، منذ بواكير عمري، كان ملجأ للكتب التي أقرأها قبل أن أنام، فقد كان الكتاب الرفيق الدائم الذي قاسمني الجهة الثانية من الفراش، ثم في غفلة مني تكاثرت الكتب والأوراق، ثم جاء عصر اللابتوب فحشر نفسه مع هذا الزحام، بحيث تقلصت مساحتي التي أشغلها في فراشي، فيما زادت مساحة أبطالي الوهميين وأحلامي الثقافية.
وعلى ما يبدو لست الوحيدة المصابة بلوثة الكتابة في الفراش، فمنذ أيام فتحت هذا الحديث مع إحدى الصديقات، ولأنها متزوجة شعرت بمدى صعوبة أن يتقبل زوج شريكا ثالثا في الفراش، لا يمكن القذف به من النافذة والتخلص منه، كما لا يمكن إزاحته بأدب وتحديد مكان آخر له في البيت، فهو يعود ليفصل الزوجين عن بعضهما بعضا، وينعم بأحضان الزوجة، ويفرض قوانينه.
تستمر هذه الحالة سنوات، ولا أمل من شفاء أحد الزوجين من هذه العادة، وفي حديث استمر ساعات اكتشفت أني أعيش هذا «المرض بسعادة عارمة» لكني أجهل الكثير عن أولئك الذين يحولون فراشهم إلى مكتب عمل، والذي في الغالب يكون سببا لطيفا لفصل أو انفصال زوجين أحدهما مصاب بهوس القراءة والكتابة في الفراش، والآخر لا. طبعا ليكن الله في عون الجميع، خاصة أولئك الذين يُبتَلون بزوجات قارئات أو كاتبات، كون الرجل تملكي في مشاعره وأكثر حدة في هذا الأمر مقارنة بالنساء.
ولكي يستوعب البعض علاقتي الشخصية بفراشي، سأصفه بالمختصر، إنه المكان الذي أرتاح فيه من تعب النهار والليل، من ضجيج الخارج، من الأضواء وصخب العلاقات اليومية التي تمتصني، هو المكان الذي استرخي فيه واستسلم فيه لأفكاري وصوتي الداخلي، وفيه تستيقظ أحلامي وتغمرني مثل موج ناعم، ولعل بنائي لعلاقة وطيدة بين الفراش والكتابة تبدأ من هنا، لإبقاء الحلم مستمرا، وكأني لا أريد أن أستيقظ من عالم النوم الذي يجردني من ضغوطات الحياة. فالإعلام في حد ذاته مهنة تضع صاحبها في موضع لا يحسد عليه، خاصة في السنوات الأخيرة حيث التنافس مع السوشيال ميديا أصبح كمن يواجه تسونامي وهو ليس سباحا ماهرا.
أعود مؤخرا لكتابة الشعر، وأشعر برغبة جارفة فعلا لكتابة قصص للأطفال أيضا، إذ ربما يجعلني هذا أشعر بنوع من التحرر من قيود المهنة وشروطها الصارمة وربما لأني أحاول إبقاء طفولتي لمزيد من العمر معي. إذ لاحظت أن أي تحضير لبرنامجي التلفزيوني، يدفعني دون تفكير إلى مكتبي، كأني مجرد مجندة يجب أن تلتزم بشروط كثيرة، وتسابق الزمن لتنجز المطلوب منها، كما أنني لسبب أجهله أشعر بأني شخص مبالِغُ في النضج والعقلانية، حين أحضّر موادي التلفزيونية.
هل يفرض المكان سلطته على الإبداع ونوعيته؟ لا أدري بالضبط أين يكمن السر في ذلك، لكنني قرأت أن الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي يكتب في فراشه، لكني أبدا ما تخيلت أن عباس محمود العقاد من هواة الكتابة فيه، فقد تخيلت دائما أن الأدباء الذين يكتبون وهم مسترخون في أسرتهم حالمون ورومانسيون، مثل أحلام مستغانمي التي قرأت لها في أكثر من حوار أنها تكتب في غرفة الخادمة أو في السرير مستعملة أقلاما ملونة.
الكاتبة الفرنسية جورج صاند، والكاتب الإيرلندي جيمس جويس، والكاتبة الأمريكية إديث وارتون أول امرأة حاصلة على جائزة بوليتزر، كانت أسرتهم معبرا للنجاح الأدبي، وقد شرحت هذه الأخيرة أن عبء الثياب في عصرها كان يزعجها، فقد كانت المرأة تضطر لارتداء «عُدة» بكاملها من التنانير، والمشدات والجوارب والأحزمة والبدلات حتى يكتمل الزي اليومي الذي يستقبل به الضيوف في البيت، أو الخروج به إلى السوق مثلا، فكانت تبقى بقميص نومها طيلة ساعات الصباح، متكئة على وسائد فراشها وكلبها الهادئ إلى جانبها، فتكتب وتترك أوراقها تتساقط على جانب السرير، حتى تحضر لها خادمتها فطورها، وتقوم بجمع أوراق سيدتها لترسلها للتصفيف، لقد توفر لهذه الكاتبة ما لم يتوفر لغيرها من دلال، لكن في الغرب عموما نجد أنواعا كثيرة من «الجنون» الذي يصعب علينا ممارسته في بيئتنا. لن نجد كاتبا عربيا يعزل غرفته ويغلق شبابيك بيته تماما حتى لا يفسد الغبار والأصوات القادمة من الخارج عزلته الكتابية، أما بروست فقد فعل ذلك، وقصته من أكثر القصص الجميلة التي سمعتها وقرأت عنها، فقد عانى من مرض الربو وكانت تلك وسيلته للتغلب على الظروف المستفزة للمرض، وقد أصبحت الكتابة والقراءة في سريره عادة لديه، بسبب شعوره الدائم بالتعب والانزعاج مما يتنشقه من هواء ملوث…
وفي حوار قديم لمارك توين نشر عام 1902 في «نيويورك تايمز» أشار إلى أن الكتابة في الفراش مريحة أكثر منها على مكتب، كان يضع لوحا صغيرا على ركبتيه لتثبيت أوراقه ويدخن غليونه ويكتب، ولعل أشهر صوره هي تلك التي تختصر هذه الوضعية بالذات، يقول: «يسهل تدفق الأفكار في هذه الوضعية، ولا يتطلب الموقف سوى القليل من الجهد حتى تظهر الكلمات على الورق».
وفي حوار قديم لمارك توين نشر عام 1902 في «نيويورك تايمز» أشار إلى أن الكتابة في الفراش مريحة أكثر منها على مكتب، كان يضع لوحا صغيرا على ركبتيه لتثبيت أوراقه ويدخن غليونه ويكتب، ولعل أشهر صوره هي تلك التي تختصر هذه الوضعية بالذات، يقول: «يسهل تدفق الأفكار في هذه الوضعية، ولا يتطلب الموقف سوى القليل من الجهد حتى تظهر الكلمات على الورق». وقد قيل إن مارك توين لم يمتلك مكتبا في بيته أبدا، وإنه لم ينزعج من الصحافيين حينما يزورونه ويأخذون له صورا في فراشه وهو في حالة إبداع كاملة. الغريب أن توين انتقل بين عدة منازل، وكان يفرشها في كل مرة بما يناسب حجمها وعدد غرفها، لكنه ظل وفيا لسرير واحد، هو السرير الذي اشتراه عام 1878 من البندقية مع زوجته أوليفيا، حين أثثا معا قصرهم الفيكتوري المكلف جدا في كونيتيكت والمعروف باسم «مزرعة نوك». حظي هذا السرير بأكثر لحظات عمر توين الجميلة، وعاش فيه أكثر مما عاش في مكان آخر، ولفظ آخر أنفاسه فيه، في الثاني من إبريل/نيسان 1910 بأزمة قلبية.
الغرابة تكمن في ارتباط تدفق الأفكار بالاستلقاء على السرير، فكما قال الكاتب الأمريكي ترومان كابوت حين وصف نفسه بـ»الكاتب الأفقي» وأنه من الصعب أن يفكر إلا إذا تمدد على كنبة، أو سرير وفي يده فنجان قهوة وفي اليد الأخرى سيجارة! ولعل أغلبنا يعرف تلك اللحظة التي تتجاذبنا فيها الأفكار والنعاس، فنعجز حتى عن فتح أعيننا وتدوينها في دفتر قريب من السرير، وهي اللحظة العجيبة التي تؤكد بشدة أن الأسِرة مُلهِمة، فما إن يرمي الواحد منا بنفسه على سريره وهو في قمة تعبه، حتى تجتاحه أفكار كأنها حشرات مضيئة، تنقله فجأة لعالم لذيذ وجميل، ومن المحزن أن الاستسلام للنوم لعدم القدرة على مقاومته يجعل كل تلك الأفكار تغادر إلى الأبد، ولا يمكن استعادتها في وهجها نفسه، مهما فعلنا حين نكون في حالة استنفار ونشاط.
هل السر في الأسرة؟ أم في حالة الاسترخاء التي تسمح لأفكارنا بالتجدد؟ لقد أردت دوما أن أفهم هذا الأمر من خلال علاقتي بفراشي، لكن يبدو أن منظره وهو مليء بالكتب والأوراق والدفاتر يثير سعادتي، ويجعلني أشعر بنوع الخصوصية والتميز. هذا غير النول غير المرئي الذي يغزل خيوط أحلامي كلما تناثرت على الفراش مع أوراقي وحضنتها ليس «كحبيب» لكن كجزء مني أفتقده طيلة النهار، واسترجعه في تلك اللحظات الفارقة، مع شعور لا يمكنني اختصاره عن حجم الحرية الذي أشعر به وأنا في فراشي، رغم رفض عشاق الكتابة في المقاهي لهذه النظرية، لكن على رأي المثل «إسألوا مجرب..».