كثيرًا ما يُسأل الروائيون عن مصادرهم في اجتراح ما يكتبون، وغالبًا يُسقط القارئ في لحظة تلقي تلك البنية الحكائية بمجملها السردي، والمعرفي، واللغوي على حياة الكاتب الخاصة. الأمر الذي تقف قبالته إجابتان: واحدة تنفي تلك العلاقة الإشكالية، والأخرى تؤكدها على نحو لا قطيعة فيه عن المنطق في مصادر المخزون واستثماراته. الذين ينفون خضوع مواجهاتهم الماضية، ومعايشاتهم الحاضرة يخشون من تهمة الضعف في القدرة على استعمال المخيلة في الاشتغال الروائي، والذين يقرون بأن ما راكمته السنين مصدر بنسبة ما لما يكتبون يمجدون بطريقة أو أخرى دور الذاكرة في هذا الشأن. ومثلما تطرح الرواية أسئلة ينهمك القارئ باستيلاد إجابات لها، يطرح القارئ أيضًا أسئلة مثل هذا الذي يقودني إلى التساؤل حول علاقة الذاكرة بالمخيلة في لحظة العصف الروائي. من المسلَّم به أن الذاكرة والمخيلة منطقتان مجردتان يتبناهما العقل بمعناه البيولوجي، لكن الفلاسفة يذهبون في اتجاه آخر، مثل (بول ريكور، واسبينوزا، وديكارت)، وآخرون؛ إنهم يرون علاقة الذاكرة بالمخيلة مسألة مرتبطة بعلم النفس؛ إذ يقول عالم اللسانيات والفيلسوف الفرنسي “بول ريكو”ر في كتابه (الذاكرة، التاريخ، النسيان) والذي ترجمه جورج زيناتي أن ” الذاكرة مقاطعة تابعة للخيال” يقول ذلك رغم أنه من دعاة فصل الذاكرة عن المخيلة، هذا الفصل الذي لا يقر به “ديكارت”.
الذاكرة منطقة مجردة معنية بالماضي، والمخيلة معنية بالمستقبل. واحدة مهمتها الاستعادة، والثانية دورها الاستشراف والرؤية الميتافيزيقية. إذن نحن أمام مفهومان مجردان يقومان على الوعي بالزمن وهذا يؤكده ما ذهب إليه “أرسطو “من “أن الذاكرة هي الزمن”.
إن في لحظة الكتابة الروائية اشتباك بين هاتين المنطقتين المجردتين، فلا يمكن الاتكاء على المخيلة من دون الذاكرة، ليس لمواجهة الواقعي بالخيالي، إنما باجتراح الخيالي بناء على عناصر الذاكرة. من هنا فاني أؤمن بأن ما يفكر به الروائي حتى لو كان عبثيًا، وغرائبيًا، وفنتازيًا، أو يقع في نهج “اليوتوبيا” و”الدوستوبيا” فهو حقيقة إن لم تكن حدثت فإنها ستحدث ذات يوم. إن علاقة الذاكرة بالمخيلة تخلق شكلًا طريفًا من المنطق المجرد، فما تراه العينان، هو نفسه ما تراه عينا الذاكرة والمخيلة، لكن ببعدين مختلفين. إنها مشتركات مذهلة تقوم عليها خطواتنا اليومية. على سبيل المثال حين يتأمل شخص قادم من الشرق بيتًا في إحدى شوارع لندن يراه للمرة الأولى، فهذا لا يمكن أن يكون بمعزل عن الذاكرة، بل إنه يحدث من خلال نافذتها، لكن أثر ذلك البيت لن يتلاشى؛ إنه يخوض رحلته في الطريق إلى التراكم، هنا يلعب الزمن بمفهوم أرسطو دورًا مهمًا في علاقتنا بالأمكنة، ويخلق تلك النسب المتفاوتة. هذا الرؤية بالضرورة تؤدي إلى سؤال آخر: هل ما يراه مسن أوربي، هو ما يراه شاب عربي؟ المكان واحد، لكننا أمام رؤيتين. ما الذي خلق الفوارق بين هاتين الرؤيتين؟ هل هي المخيلة؟ أم الذاكرة؟ كلاهما معًا؛ إننا نصنع زوايا تصوراتنا بناء على أرضية مجردة في الذاكرة التي يبنى عليها كل شيء يتراكم مع مرور الوقت. هذه الأرضية التي ربما نجد تفسيرًا لها عند (كارل غوستاف يونغ).
أتذكر أن الأيام الأولى لي في الصحراء الأردنية الشرقية عام 1990 لم تكن سهلة، بل أحدثت عندي ما يشبه الارتباك الروحي. ارتباك قادم من تعقيدات السلالة، وما يراه (ك يونغ) حيالها، خاصة ما يتعلق بنظرية الوعي الجمعي، فأنا ابن بيئة تقع في المنطقة الوسطى بين عالم البداوة وعالم القرية، لهذا أنفقتُ وقتًا لأفهم الصحراء، ومن ثم أحبها؛ فأراها جيدًا، حينها وجدت أنها أخذت تتسلل إلى الكتابة. في البدء كتبت الشعر رغم أني سارد قبل أن أكون شاعرًا، لكن المزاج الصحراوي فرض علي شكلًا طريفًا من أشكال المقاومة، فكتبت قصائد فيها أيائل، وأنهار، وخضرة شاسعة، ومستويات تخييل لم أسلك دربها من قبل، أمر أضاف فيما بعد الكثير من رصيدي الذي أتكئ عليه لكتابة الرواية. ثمانية عشر عامًا من العيش الصحراوي ما تزال تترك أثرها في رواياتي، إنه عامل الزمن وما نتج عن علاقة الذاكرة بالمخيلة التي تجعل من النص الروائي تأريخًا شخصيًا لنا من جهة الموضوعي، بناء على إيماني بأن الرواية مواجهة وبحث ذاتيين عبر بوابة الموضوعي. لكن هل يأخذ النقد، والتلقي القرائي بالحسبان تلك العلاقة عند معاينة النص الروائي، سواء كان كتابة معرفية على كتابة روائية؟ خاصة إذا ما سلمنا بتمايز الرؤى لشيء واحد، أو لنص واحد؟