تخطي إلى المحتوى
تأثير البدايات الجديدة.. لم تظن مطلع كل عام أنك ستصبح شخصًا مختلفًا؟ تأثير البدايات الجديدة.. لم تظن مطلع كل عام أنك ستصبح شخصًا مختلفًا؟ > تأثير البدايات الجديدة.. لم تظن مطلع كل عام أنك ستصبح شخصًا مختلفًا؟

تأثير البدايات الجديدة.. لم تظن مطلع كل عام أنك ستصبح شخصًا مختلفًا؟

يعتقد الكثيرون أن بداية العام الجديد هي الوقت المناسب تماما لإجراء التغييرات في حياتهم وتحسين أنفسهم. أنت على قيد الحياة منذ نحو 20 أو 30 عاما وربما أكثر، عشت هذه السنوات بطريقة معينة وبطباع وصفات وعادات محددة، لكنك في بداية كل عام "تأمل" أن تصبح شخصا مختلفا بحلول نهايته، ربما مختلفا "تماما" عن الشخص الذي كنته من قبل.

لعلك أخفقت طوال سنوات عمرك في إتقان اللغة الإنجليزية أو تعلم بعض من فنون العزف على آلة العود، لكنك تأمل خلال العام الجديد أن تنجح في إنجاز هذه الأحلام، ربما لم تواظب من قبل على ممارسة الرياضة لأكثر من 3 مرات متتالية، حيث تتوقف ولا تجد في نفسك الرغبة في الاستمرار، لكنك ما زلت تأمل في العام الجديد أن تذهب إلى صالة الألعاب الرياضية 5 مرات أسبوعيا طوال العام.

ممارسة قديمة

حسنا، نحن لسنا هنا لنوبخك أو لنحبطك بطبيعة الحال، لكن لنشرح لك لماذا يحدث كل ذلك. في البداية دعنا نخبرك أن التوقعات المرتفعة والرغبة العارمة في التغيير والتطور مع بدء العام الجديد (أو ربما كل حقبة مفصلية جديدة) هي ممارسة قام بها البشر منذ آلاف السنين. جرى الاحتفال ببداية العام الجديد لأول مرة منذ 4000 عام في مدينة بابل القديمة، وعلى الرغم من أن البابليين لم يكن لديهم تقويم مكتوب، فقد قرر المؤرخون أن البابليين كانوا يرصدون بدايات العام الجديد في أواخر مارس/آذار مع حلول فصل الربيع.

خلال الاحتفال الديني البابلي الضخم بالعام الجديد، والذي كان يستمر 12 يوما، كان البابليون يتوجون ملكا جديدا أو يُعيدون تأكيد ولائهم للملك الحاكم، كما يُقدّمون وعودا للآلهة بسداد ديونهم وإعادة أي شيء كانوا قد اقترضوه. يمكن اعتبار أن هذه الوعود كانت بمثابة نسخة سابقة من قرارات العام الجديد التي نتخذها الآن. كان البابليون يعتقدون أنهم إذا التزموا بوعودهم فإن آلهتهم الوثنية ستمنحهم البركة والنعمة للسنة القادمة.

يمكننا أن نجد التقليد نفسه عند الرومان تقريبا منذ تولى يوليوس قيصر العرش في عام 49 قبل الميلاد(2)، في ذلك الوقت كانت قرارات العام الجديد (الذي يبدأ في شهر يناير) ذات طبيعة أخلاقية، مثل التعاطف مع الآخرين، فقد حرص الرومان على تقديم التضحيات للإله، كما حرصوا على تقديم الوعود بحسن السلوك للعام المقبل. بالنسبة إلى المسيحيين الأوائل كذلك، أصبح اليوم الأول من العام الجديد مناسبة تقليدية للتفكير في أخطاء الماضي وعزم المرء على تحسين وتطوير ذاته ليكون أفضل في المستقبل.

تأثير البداية الجديدة

ما الذي يجعل بدايات الأعوام تمتلك هذا التأثير المتوارث على مدار قرون؟ لفهم الأمر، قدّم باحثون من جامعة بنسلفانيا في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2013 توثيقا لمصطلح أطلقوا عليه "تأثير البداية الجديدة"، يقصد الباحثون بهذا المصطلح أن المعالم الزمنية البارزة، مثل بداية العام الجديد، غالبا ما تحفز السلوك الطموح، مثل القرارات الثورية التي تهدف إلى تغيير حياة المرء وتطويرها، والتي قد يكون منها في نسخة حياتنا الحديثة: اتباع نظام غذائي صحي، أو تعلم لغة جديدة، أو تغيير عادة سلبية ما.

يعني ذلك أن الناس من المرجح أن يسعوا إلى تحقيق أهدافهم فورا بعد المعالم الزمنية البارزة. خلال 3 دراسات، وثق الباحثون الظاهرة من خلال مجموعة واسعة من الناس. كانت الدراسة الأولى بسيطة للغاية، حيث راجع الباحثون خلال هذه الدراسة أرشيفات محرك البحث جوجل لمعرفة متى بحث الأشخاص عن كلمة "نظام غذائي"، فوجد الباحثون أن عمليات البحث قد ارتفعت بنسبة 82٪ بعد ليلة رأس السنة مباشرة. في الدراسة الثانية، نظر الباحثون في ملفات السجل الخاصة بصالة ألعاب رياضية مُلحَقة بجامعة، فوجدوا أن الحضور زاد في بداية العام وبدايات الأشهر والأسابيع.

أما الدراسة الثالثة فاستخدمت بيانات من موقع "stickK.com" على شبكة الإنترنت، يُمكّن هذا الموقع مستخدميه من إنشاء "عقود التزام"، تتضمن تعهداتهم بتحقيق أهداف أو التزامات محددة، فوجدت الدراسة أن المستخدمين في الأغلب يبرمون عقود الالتزام الخاصة بهم في بداية الأسابيع والأشهر والسنوات.

وفقا للبيانات التي جمعتها الدراسات الثلاث السابقة، فنحن نقوم بعقد آمال جديدة على أنفسنا، ونجدد الثقة في قدراتنا وقوة إرادتنا مع البدايات الزمنية الجديدة. يرى باحثو جامعة بنسلفانيا أن هناك آليتين محتملتين لتفسير تأثير "البدايات الزمنية الجديدة": أولا، نحن نود أن نعتقد أننا نتحسن بمرور الوقت، لذلك ننسب أخطاء الماضي إلى الإصدارات أو النسخ السابقة من أنفسنا، أي أن "الأنا القديمة" هي من لم تحقق الأهداف سابقا، هذه "الأنا" لم تعد موجودة اليوم، لكنها تطورت وأصبح هناك "أنا جديدة" يمكنها تحقيق ما لم تحققه سابقتها.

الآلية الثانية التي رصدها الباحثون تتعلق بأننا، في العديد من الأنشطة، نغفل عن النظرة الكلية ونتوه في التفاصيل التي تستغرقنا تماما، فقط حينما نتوقف نستطيع أن نفكر بشكل أكثر شمولية وتجريدا، ننظر إلى الطريق الذي نسير فيه ونتذكر السبب أو الدافع الذي دفعنا للسير فيه. تتيح المعالم الزمنية الجديدة لنا الوقت اللازم للتوقف؛ ما يجعلنا نلقي نظرة سريعة على ما مرّ، وننظر في أهدافنا النهائية. قد نصبح بعد ذلك أكثر حماسا لتحقيق هذه الأهداف، سواء أردنا إنقاص الوزن أو تعلم لغة جديدة.

تفسر عالمة النفس "ماريانا سترونجين" سبب كوننا نعيد خلال بدايات العام الجديد تقييم حياتنا وجردها قائلة إن رأس السنة الجديدة يمنحنا إحساسا بـ"التجدد"؛ ما يدفعنا إلى التفكير في مجالات في حياتنا التي نرغب في تحسينها أو تغييرها، مضيفة أن بداية الوقت ونهايته يبدو دائما كأنه التوقيت المناسب للقيام بالتغيير.

متلازمة "الأمل الكاذب"

الخبر السيئ هنا أن ذلك التأثير السحري للبدايات الجديدة لا يضمن لنا النجاح، حيث تنتقل أهدافنا ذاتها معنا من عام إلى عام، وعلى الرغم من إخفاقنا في تحقيقها مرارا في الأعوام السابقة، فإن هذا لا يمنع أبدا تضمينها في قائمة أهداف العام الجديد، مع التحلي بأمل حقيقي بتنفيذها حقا هذا العام.

يرجع ذلك بشكل رئيسي إلى ميلنا إلى المبالغة في تقدير التزامنا وقدراتنا في المستقبل مقارنة بالحاضر. تثبت التجارب أن معظم الناس يملكون صورا مستقبلية أفضل حالا عن حقيقتهم الحالية؛ ما يجعل توقعاتهم من أنفسهم مرتفعة بشكل غير واقعي. يفسر "مارك غريفيث"، أستاذ الإدمان السلوكي، سبب عدم التزام الأشخاص بأهدافهم بأنهم قد يكونون بالغوا بشكل غير واقعي في وضعها، المبالغة هنا يُقصد بها ربما عدم ملاءمة الأهداف لصفات الشخص وطباعه المتأصلة التي اتصف بها طوال عمره السابق.

يرى "غريفيث" أن هذه المبالغة قد تكون ناتجة عن وقوع الشخص ضحية لما يُعرف باسم "متلازمة الأمل الزائف". تتميز متلازمة الأمل الكاذب بتوقعات الشخص غير الواقعية حول السرعة المحتملة ومقدار ومدى سهولة وعواقب تغيير سلوكه. حاول الباحثون من خلال دراسة "متلازمة الأمل الزائف" مراجعة الأسباب التي تجعل الكثير من الناس يميلون إلى الفشل في محاولاتهم لتغيير الذات، ثم حاولوا فهم كيفية تفسير الناس لهذه الإخفاقات بطريقة تجعلهم يواصلون المحاولة مرارا وتكرارا.

التفسير الأبسط للأمر أن محاولات التغيير الذاتي توفر بعض المكافآت الأولية لصاحبها حتى عندما لا تنجح، وهو ما يجعلنا نكرر المحاولة مرة بعد مرة، لكن المشكلة الأبرز هي أن التوقعات غير المنطقية تستمر في ممارسة تأثيرها الطاغي، وتمنع الناس من النظر بعمق في إخفاقاتهم السابقة، ومن ثَم تستمر متلازمة الإخفاق عاما بعد عام.

لماذا نفشل؟

في ضوء ذلك كله، ربما لن تفاجئنا نتائج دراسة من المملكة المتحدة وجدت أن حوالي ثلثي الأشخاص يتخلون عن قرارات العام الجديد في غضون شهر من بدء العام. شارك في الدراسة حوالي 180 من الأستراليين والبريطانيين الذين أكملوا استطلاعا عبر الإنترنت 4 مرات على مدار شهرين. تشير نتائج الدراسة إلى أن ما يقرب من ثلثي المشاركين تخلوا عن قرارات العام الجديد (معظمها يتعلق باتباع نظام غذاء صحي وممارسة الرياضة) خلال الشهر الأول من العام، مع العلم أن أكثر من نصف الأشخاص قد اتخذوا القرارات نفسها، أو قرارات مماثلة، في العام السابق.

تُفسر "أماندا إي"، المعالجة والكاتبة، سبب التراجع عن الرغبة في تحقيق الأهداف قائلة: "يستمتع الكثير من الناس بالحلم ووضع القرارات لأن هذا يجعلهم يشعرون بالإثارة ويُشعرهم بقدرتهم على تغيير حياتهم، لكنهم لا يفكرون في الواقع في الإجراءات والخطوات العملية التي سيتطلبها الأمر لتحقيق هذه الأهداف والقرارات التي وضعوها".

أما "سابرينا رومانوف" فتفسر الأمر بقولها: "غالبا ما نفشل في تحقيق الأهداف الموضوعة أو حتى الحفاظ على الرغبة في تحقيقها، لأننا في الأغلب نريد الحصول على نتائج فورية، بينما تستغرق الأهداف وقتا لتحقيقها، فيصاب العديد من الأشخاص بالإحباط، ويتراجعون في النهاية قبل تحقيق الهدف".

كسر الدائرة

نصل الآن إلى السؤال الأهم: هل بإمكاننا حقا أن نكسر هذه الدائرة؟ وهل يمكن أن يأتي يوم نضع فيه أهدافا ونلتزم بها؟ يشرح "سكوت هاس"، دكتور في علم النفس الإكلينيكي وكاتب ومؤلف كتاب "لماذا تكون سعيدا؟ طريقة القبول اليابانية"، خلال مقال نُشر له على موقع "سايكولوجي توداي (psychologytoday)" كيفية حدوث التغيير بشكل حقيقي وواقعي قائلا: "قبول حدود وقوة شخصية المرء يوفر راحة البال الحقيقية. لتغيير حياتك حقا، تحتاج إلى المراقبة والاستماع والتواصل مع العالم بشكل مختلف".

وفقا لـ"هاس"، فإن القدرة على إحداث تغيير دائم هي أمر يأتي تدريجيا، وبطرق وخطوات صغيرة تتشعب تدريجيا في حياتك. يعتمد التغيير على القبول والزمان والتوافق مع الطبيعة. بداية، علينا أن نسعى جاهدين لقبول موقعنا وأنفسنا وهويتنا وما نحن عليه، ثم إدراك أن أي تغيير هو عملية تستغرق وقتا بالضرورة، ثم السعي للتناغم مع عالمنا الداخلي ومع العالم الذي نعيش فيه. القصد من ذلك كله أن عملية التغيير هي عملية تكيف مع متغيرات الحياة، وليس شكلا من أشكال الرفض لحياتنا الحالية.

في سياق مشابه، يُقدّم الدكتور "بيل كناوس"، وهو مؤلف أكثر من 20 كتابا، بعض النصائح التي قد تساعد على الوفاء بالقرارات السنوية التي تضعها لنفسك في بداية العام الجديد. لجعل قرارك للعام الجديد حقيقة واقعة، ينصح "كناوس" بأن تحدد هدفا له معنى حقا بالنسبة إليك ويكون قابلا للقياس والتحقيق. لا يهم إذا كان هذا الهدف هو الإقلاع عن التدخين، أو إكمال الدراسة للحصول على شهادة جامعية، المهم أن يعني الأمر شيئا بالنسبة إليك حقا. للتحقق من قوة التزامك، سيكون عليك أن تُجيب عن سؤال، وهو: "هل المكسب يستحق ما تتخلى عنه؟"، إذا لم تكن الإجابة "نعم"، فأنت هنا تكون قد عقدت العزم على تحقيق هدف ليس مهما بالنسبة إليك بما يكفي، وسيكون من الأفضل اختيار هدف آخر.

وفقا لنصائح "كناوس"، يجب ألا تهمل التخطيط أيضا، فهو يرى أن معظم قرارات السنة الجديدة تتعثر بسبب نقص التخطيط. المقصود بالخطة هنا هو وضع تصميم كامل بالخطوات والإجراءات اللازمة لتحقيق الهدف. إذا كنت تريد إنقاص وزنك والحفاظ عليه، فحدد ماذا تفعل أولا، ثم ثانيا، وثالثا، ماذا تفعل إذا داهمتك الرغبة المُلحّة بتناول أطعمة دسمة خارج خطة نظامك الغذائي؟ خلال خطتك، سيكون عليك تنظيم وتنسيق أفكارك وعواطفك وأفعالك للوصول إلى هدفك وتحقيقه.

المصدر: 
الجزيرة نت