شهدت البحرين في السنوات الأخيرة ظهور موجة من الاهتمام بالتاريخ المحلي وبنشوء هذا البلد، بعضها ذات طابع أنثربولوجي عروبي يدافع عن دور العرب في تشكيل هذه المدينة في القرن العشرين، مقارنة بالرواية التي تركز في المقابل على دور الغربيين والدول الإقليمية في تطور المجال الحضري داخل المنامة.
والمهم في هذا السياق، أنّ هذا الأمر لن يقتصر على الباحثين والمؤرخين حسب، بل سيشهد أيضاً مشاركات مهمة من خارج هذه الحقول، مثل أعمال نادر كاظم، وبالأخص كتابه «لا أحد ينام في المنامة» الذي قرأ فيه ما شهدته المدينة من تغيرات ثقافية مع تأسيس شركة نفط البحرين (بابكو) وقدوم أعداد من الأمريكيين والبريطانيين للعمل فيها، ما خلق مشهداً آخر في هذا البلد.
ففي العادة، تصوّر مدن الخليج العربي بوصفها مدناً بدوية أو محافظة، بينما نرى أنّ هجرة الغربيين للعمل في المنامة، أضفى أنماطاً استهلاكية وذوقية جديدة. وكان الرحالة الإنكليزي رودريك أون، قد عثر في منامة الخمسينيات على شباب يرتدون القمصان المقلّمة وبناطيل الجينز، كما لاحظ انتشار بعض شاشات عرض السينما في المدينة. وفي الستينيات، سيشهد العالم العربي قدوم موجة الأفكار القومية العربية، ولن تكون البحرين بعيدة عن ذلك، إذ سينقل لنا الروائي السعودي غازي القصيبي (ابن تاجر عاش في البحرين) في روايته «شقة الحرية» قصة سفر مجموعة من الشبان البحريين للدراسة، إلى القاهرة، التي بدا أحد شوارعها (شبرا) آنذاك أكبر من مدينتهم الصغيرة، وفي هذه الرحلة سيبدي الشبان تأثّراً بالخطابات النارية للرئيس المصري جمال عبد الناصر حول القومية العربية ومواجهة الاستعمار، وعند عودتهم حولوا مدينة المحرق القريبة من المنامة «وكراً لهم» وأخذوا ينشطون في سياسات الهوية والتعريب في البلاد وتحويل المنامة إلى مدينة عربية بعد أن كانت مدينة كوزموبوليتانية، وفق ما يذهب إليه كاظم في كتابه. وستشهد المدينة في السبعينيات تطورات جديدة مع قدوم خميني إلى إيران، وهذا ما سينعكس عليها من خلال ارتداء أقسام واسعة من أبناء الطائفة الشيعية الشادور والعمامة. لكن التطور الأهم سيكون مع التسعينيات مع قدوم موجة العمالة الآسيوية، التي ستحول مدينة المنامة هذه المرة إلى «هند صغيرة» ما أثار قلق أبناء المدينة الأصليين، وخلق نوعاً من الحنين نحو فترة الماضي. وفي ظلّ هذه الأجواء، عمل كاظم على كتاب آخر في مجلدين بعنوان «تاريخ الأشياء في البحرين». حاول من خلاله العودة مرة أخرى إلى الفترة الممتدة بين الثلاثينيات وحتى الستينيات تقريبا، لتدوين تواريخ نشوء بعض المؤسسات التعليمية والثقافية في المجال العام، مثل مؤسسة المدرسة والمكتبات وتاريخ بعض الشوارع، التي افتُتحت مع قدوم السيارات للمدينة في الثلاثينيات. كما نراه يلجأ إلى قراءة تاريخ الجماعات الأوروبية والأمريكية المهاجرة إلى هذه المدينة، ليس عبر سجلات آبار النفط هذه المرة، بل من خلال التنقيب في أرشيف أول وآخر مقبرة مسيحية في المدينة، التي ضمّت قبور عدد من الأوروبيين والأمريكيين ممن هاجروا من أجل التبشير، أو لاحقاً للعمل في الإدارات الكولونيالية والمؤسسات النفطية.
سار كاظم في مؤلفه الجديد هذه المرة وراء المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل، الذي عُرِف بدراسة الظواهر الاجتماعية والثقافية خلال فترات طويلة، أو وفق ما يدعوه «الزمن الطويل». وهذا ما ظهر في المجلد الأول من كتاب بروديل «الحضارة المادية والاقتصاد والرأسمالية» الذي تناول فيه قرابة ثلاثة قرون من حياة الأوروبيين اليومية، بدءا من القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر. وبالتالي يضع كاظم عمله ضمن محاولة كتابة تاريخ اجتماعي آخر بعيد عن اللحظة السياسية الحالية التي تعيشها البلاد منذ عام 2011. تبدأ يوميات الماضي الجميل مع بدء التغيير في شوارع المنامة جراء قدوم السيارات.. ففي عام 1911 كانت المدينة تضم سيارتين لتاجرين الأول بحريني والثاني سعودي، لكن في عام 1926 ستقدّر عدد السيارات بقرابة 140 سيارة، مما كان يعني ضرورة إنشاء شوارع جديدة تناسب حجم السيارات مقارنة بالشوارع الضيقة التي عُرِفت بها المدينة القديمة. وما يُحسب للمؤلف هنا، وهو يتابع العملية الجراحية في جسد المدينة التقليدية، أنه سيتابع يوميات هذا التطوير من خلال الأرشيف البريطاني الموجود، وأيضا عبر اعتماده على ما نشره من صور ومن يوميات تتناول تلك الفترة، وبالأخص يوميات البريطاني تشارلز بلغريف الذي عمل مستشارا للحكومة البحرينية (1926ـ1957). والمهم هنا أنّ كاظم يبدي انفتاحاً على هذه المصادر، خلافاً لما درجت عليه العادة لدى قسم كبير من مثقفي العالم العربي، بحجة أنها يوميات استعمارية، بينما يراها المؤلف مصادر أصلية وتنقل الصورة الأدق عن تلك الفترة.
تاريخ المكتبات
وفي زاوية أخرى من الكتاب يتحدث كاظم عن تاريخ المكتبات الحديثة في البحرين، التي بدأت مع قرار ثلاثة شباب إنجيليين متحمسين من طلبة مدرسة نيو برونزويك اللاهوتية في نيوجيرسي تأسيس إرسالية تبشيرية لهداية مسلمي الجزيرة العربية، وهؤلاء هم جيمس كانتين وصموئيل زويمر وفيليب فليبس. ولما وصلوا أسسوا مكتبة الكتاب المقدس في المنامة في سنة 1893، وبدت في البداية عبارة عن مخزن كتب في غرفة مستأجرة صغيرة ومظلمة بلا نوافذ وتقع فوق مستودع وبجوار مقهى كبير في منطقة الصباغين، وكانت هذه الغرفة الصغيرة المظلمة المليئة بالفئران متعددة الاستعمالات، لكن هذا الواقع سيتغير مع عام 1900 عندما أخذت رفوف المكتبة تمتلئ بكتب أكثر تنوعا من أي وقت مضى، بعد أن بدأت المكتبة في التعاون مع جمعيات الكتاب المقدس والإرساليات العربية في بيروت والقاهرة، من أجل تزويدها بالكتب العربية الجديدة، «أسلحة الحرب» كما سماها زويمر، وقد بقيت المكتبة ناشطة إلى قرابة 1920عندما فقدت بريقها بعد تأسيس المكتبات التجارية المحلية منذ عام 1920 فصاعدا (مكتبة التاجر، والمكتبة الكمالية، والمكتبة الوطنية، مكتبة البحرين، مكتبة الأندلس) إلا أن عام 1967 حمل بشائر إيجابية للمكتبة، فخلال الستينيات تصاعدت الإضرابات في عدن لإخراج البريطانيين، ما دفع ببعض العاملين في مكتبة الإرسالية الدنماركية إلى مغادرتها في اتجاه البحرين، وبالأخص بعد حرق المكتبة، وهناك سيعرض على بعضهم، يورغن بيدرسن وزوجته، العمل في مكتبة الإرسالية الأمريكية من أجل توسيع متاجر الكتاب المقدس الثلاثة في الخليج، الكويت والبحرين وعمان، وقد تمكن بيدرسن بعد عام 1968 من تطوير مكتبة الإرسالية الأمريكية القديمة التي كانت تحتضر في سوق المنامة القديم، واقترح تغيير اسم المكتبة من «مكتبة الكتاب المقدس» إلى اسم جديد هو «المكتبة العامة» وخلال سنوات تمكن من إحداث ثورة في عالم المكتبات الأجنبية في البحرين والشرق الأوسط، من خلال الحصول على ترخيص من حكومة البحرين بافتتاح فرع للمكتبة في مطار البحرين الدولي ، وتغير اسم المكتبة لاحقا ليصبح «مكتبة العائلة» رغبة منهم في أن يكون الاسم مقبولا من قبل المسلمين الذين ينبغي ألا يجدوا حرجا في زيارة المكتبة، مع ذلك لن تتمكن المكتبة من الاستمرار مع انخفاض الطلب على الأدبيات المسيحية، وعلى هذا طرح في بداية الألفية الجديدة (2004) بيع المكتبة، ليسدل الستار على أول مكتبة إنجيلية في البحرين والخليج.
سيرة مقبرة أوروبية
غالبا ما تكون تواريخ الأشياء مفاجئة للقارئ، فهي تحتوي على قصص طريفة وجديدة، وهذا ما ينطبق على أحد فصول الكتاب، الذي تناول فيه المؤلف سيرة مقبرة أوروبية في البحرين. في هذا المكان، لا نعثر فقط على قبور أوروبيين زاروا المنطقة ودُفِنوا فيها، بل على يوميات منسية من تاريخ هذا البلد. ففي المقبرة، التي بُنِيت لدفن موتى الأوروبيين المقيمين، نعثر على قصة عائلة عراقية متنصّرة لجأت إلى البحرين في بدايات القرن العشرين، وتوفي عدد من أفرادها بسبب الكوليرا خلال انتشارها في البلاد، وسرعان ما أخذ الوباء يحصد أرواح أطفال الجالية الأوروبية وحتى الكبار، لتبدأ المقبرة بالتوسّع. كما ضمّت في عام 1905 جثمان الدكتورة مكاريون ويلز تومز» وهي أول طبيبة للعيون في هذا البلد وفتح قدومها، ضمن الإرساليات التبشيرية، آفاقاً جديدة في علاج مرض العيون في هذا البلد. كما تروي لنا بعض القبور قصة تحطّم عدة طائرات فوق البلاد ودفن بعض ركابها ممن عُثِر على جثثهم. مثلما حدث في عام 1950 عندما تحطّمت طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية قبل هبوطها في مطار البحرين، ما أسفر يومها عن وفاة ستة من أفراد الطاقم وأربعين راكباً، والغريب أنه بعيد يومين من هذه الكارثة (15 يونيو/حزيران) تحطّمت طائرة أخرى فرنسية. وفي مكان آخر من المقبرة نعثر أيضاً على مقابر عمال بريطانيين تابعين لسفينة شحن بريطانية لقوا حتفهم بعد انفجارها في مياه البحرين، ولعله لم يتوقع أحد أن يعاد إحياء سير هؤلاء الموتى، لولا الحفر الممتع والمهم الذي قام به كاظم في تدوينه لتاريخ الأشياء في البحرين.