تروي لنا الأكاديمية دانا السجدي في كتابها المهم «حلاق دمشق» أنّ صاحبنا البدير الذي عمل في مهنة الحلاقة، لم يكتب نصه عن حوادث دمشق اليومية 1740-1762 بأسلوب مختلف عما كان سائداً في زمانه. وإنما هو امتداد لبعض أشكال الكتابة التي عرفتها المدينة العربية الإسلامية منذ القرن الرابع عشر المملوكي.
كان تحوّل موقع القاهرة من مركز للإمبراطورية في زمن المماليك إلى ولاية في عهد العثمانيين، قد أثّر في حوليات ذاك الزمن. إذ لم يعد المؤرخون يولون للحوليات البيروقراطية مكانة كبيرة، ولذلك اتجهوا للتدوين عن العامة. ورغم استمرار علماء بلاد الشام في كتابة التاريخ باللغة الفصحى، إلا أننا نجد مع ابن طولون الصالحي، تغيرا في الأسلوب، ليس من حيث الشكل، بل من حيث المضمون أيضا. فقد تطرّق تأريخه لمعاناة العوام أكثر من العلماء. كما نرى هذا التحول في مدن عثمانية أخرى، مع ظهور ما سماه مؤرخ العثمانيات التركي جمال كفادار أسلوب «السرد بصيغة المتكلم». وهو السرد الذي فتح الباب واسعا لظهور أعمال اليوميات، وبالتالي يظهر البدير وفق هذه القراءات بوصفه امتدادا لتطورات أخرى عرفتها المدينة العربية على صعيد الكتابة منذ عهد المماليك تقريبا. والجديد في هذا الموضوع، هو صدور عدد من الأعمال في السنوات الأخيرة التي أظهرت دقة ملاحظة السجدي، ففي موازاة يوميات البدير، نلاحظ يوميات سابقة لها كتبها كمال الدين الحائك في مدينة حلب نهاية القرن السادس عشر. وفي هذه اليوميات، يبدو الحائك، الذي عمل في مهنة الخياطة والتجارة، شخصية قريبة أحيانا من بعض القائمين على إدارة الأوضاع في حلب مثل الدفتردار. كما يبدي الحائك، في هذه اليوميات، معرفة واسعة بالشعر، وثقافة لا بأس بها. فهو، كما يذكر، قرأ عددا من الكتب للمقريزي وابن خلكان وتاريخ ابن كثير، رغم ذلك، يصرّ في يومياته على تلوين بعض تفاصيلها بلغة عامية. فنراه يذهب في يومياته إلى تدوين تفاصيل عن أحد البقالين (محمد بن عفان) وعن مكان دكانه الذي يقع في حي (الدلالين) «موحش شمالا مطلة على البرية» وكان من أقل المناطق شهرة في المدينة، ويتكون من مبان متهالكة وغير مستخدمة، وسكانه في الغالب مهاجرون من الريف.
شوارع المماليك.. البدايات
ولعل موضوع كتابة الحلاقين والخبازين وغيرهم من أصحاب المهن ليومياتهم، سيشغل حيزا مهما من كتاب آخر للأكاديمي العراقي محسن جاسم الموسوي «جمهورية الآداب في العصر الإسلامي الوسيط». بدا الموسوي ميالاَ إلى ربط الأمر بزمن المماليك، وليس التحول نحو العثمنة فحسب، وربما ما ميز كتابه، تركيزه الكبير على الشعر وكتابات المسرح. كما أنه استفاد من قراءاته الواسعة في عالم ألف ليلة وليلة، الذي شارك العامة أيضا في كتابة بعض نصوصه خلال هذه الفترة. يعتقد الموسوي أنه مع سيطرة المماليك على بعض الحواضر العربية مثل دمشق والقاهرة، كان مركز الشعر يتحول بعيدا عن بلاط الحكم، خاصة أنهم شجعوا على تعلم اللغة التركية، وكانوا مقاتلين لا يمتلكون وقتا وشغفا بالشعر ليعتنوا به. وسيوجه هذا الأمر الشعر نحو الشارع وأماكنه العامة، ما سيتيح لأصحاب الحرف والمهن والتجار لعب أدوار فاعلة في الأدب. وهنا يلاحظ الموسوي أنّ مشاركة هؤلاء لم تكن تعني ترديا في الثقافة بالضرورة، خاصة أن بعض كتابات التجار مثلا بدت ذات جودة عالية، كما نلاحظ في مسرحيات الظل لابن دانيال وشعره، لكن في المقابل، عنى هذا الحضور، بلا شك، دخولَ لغة الشارع في النصوص نفسها، ما أجبر العاملين في الحقل الثقافي في ذاك العصر على مراجعة الأدب المعتمد لكي يستوعب الشارع تحت شروطه الخاصة.
هموم الشارع
المهم في نصوص العامة هذه، أنها باتت تكشف لنا عن لغة جديدة، وأيضا عن هموم العامة في الحواضر العربية القديمة، ما شكل مصدرا جديدا لدراسة المدينة العربية الوسيطة. ففي ديوان «الكان والكان في الشعر العربي القديم» يذكر كامل مصطفى الشيبي قصة شاعر مجهول الهوية كتب قصيدة من أربعة وتسعين بيتا يناشد فيها أصحاب المهن والحرفيين والتجار واحدا تلو الآخر أن يتنزهوا عن غش زبائنهم. ويبدو أنّ الشاعر على دراية بالسوق ومعاملاته واقتصاده، فيفصّل دقائق كل مهنة. وكان على كل شاعر عامي ذكر اسمه في هذا النوع من التأليف ضمن بيت أو بيتين، تأكيدا لهوية معينة مطلوبة في سوق مربحة للشعر والحكايا الشعبية. وبذلك كان هذا الشاعر وعشرات الشعراء الآخرين القادمين من الشارع، يولّدون فضاء متعدد الأصوات الاجتماعية، بدا أنه يناهض أي محاولات لغوية مركزية. من ناحية موازية، نرى أنّ كتابات التجار وأصحاب المهن أخذت تُدخِل على الثقافة المكتوبة والمقروءة مزيجا جديدا من الشفهية والإنتاج النصي الجماعي الذي يُقرأ ويُعرض في كل المساحات العامة والخاصة وخصوصا السوق. فعلى سبيل المثال، أصبح الجنس الأدبي الشعري (الموشحات) شائعاً في الأندلس والمغرب، كما اختلطَ لاحقاً دون قصد مع الزجل في المشرق العربي.
ما يلاحظه الموسوي أيضاً في هذا السياق، أنّ الإنتاجَ الضخمَ من الأدبِ القصصي الشعبي اشتملَ على الفكاهةِ والضحكِ. إذ احتفظَ مسرحُ خيالِ الظلِّ بمكانةٍ متميزةٍ ضمن جمهورية الحواس، فهو يقدّمُ مشهداً كرنفالياً يتفاعلُ مع عددٍ من الأحاسيس والمشاعر، بينما في الوقت نفسه يحفّزُ وجود رؤية نقدية تقلبُ التراتبية الاجتماعيةِ والسياسيةِ رأساً على عقب، فالضحك عادة ما يخلخلُ حدودَ العالم وقواعده التقليدية، وعبر هذه النصوص يتّخِذُ القصُّ حياةً ملموسةً عبر التفاعلِ بين كتّابِ النصوص العامة وجمهورهم، ولذلك لم يكن مستغرباً مثلا أن تبدي السلطات العامة والمحتسبين حالةً من القلق تجاه هذه التجمعات، ولاسيما أنّ نصوصَ الفكاهةِ تمكّنت من تفريغِ خطابات البلاط والفكرِ المحافظِ الصارمِ من خلال التندّرِ والضحك. ولعلّ هذا الضحك هو الذي بقي يهربُ إليه العامةُ وكتّابها إلى يومنا هذا، للتهكّمِ على واقعهم، وليبقوا قادرين على التخيِّلِ قليلاً.