تخطي إلى المحتوى
حينما أَبصرَ طه حسين بعينَيْ سوزان! حينما أَبصرَ طه حسين بعينَيْ سوزان! > حينما أَبصرَ طه حسين بعينَيْ سوزان!

حينما أَبصرَ طه حسين بعينَيْ سوزان!

لا تزال قصص الحب العظيمة تلهب خيالنا وتدفئ قلوبنا، فيرى كل شاب في فترة من حياته أنه قيس العربي أو روميو الغربي وترى الفتاة مثله أنها ليلى أو جولييت. ولدى كل شعب من شعوب العالم قصة مماثلة يحلم بها العشاق ويتغنى بها الشعراء، فلكل مكان بل وزمان قيسُه، وكلٌّ يغني على ليلاه. غير أن القاسم المشترك في قصص الحب العظيمة يقوم على حرمان المحبّ من حبيبه، فيُجنّ العاشق أو يموت كمدا. لكننا عاصرنا قصة حب عظيم لا المحبّ جُنّ أو مات ولا المحبوبة حُرمت من وصال حبيبها، بل تزوّجا وأنجبا وعاشا ستا وخمسين سنة مرتبطين برباط الزوجية المقدس، بعد أن عرفا قبل الزواج بسنتين قصة عشق لا تقرأ إلا في الكتب.
تقول الحكاية إنّ شابا مصريا مسلما أعمى البصر متوقد البصيرة ابتُعث إلى فرنسا لإكمال دراساته العليا وهو في السادسة والعشرين من عمره، تعرّف على فتاة فرنسية من أسرة كاثوليكية محافظة في العشرين من عمرها، لتقرأ له كتب الأدب والفلسفة، فكان هو أوّل أجنبيّ تراه الفتاة، وكانت هي أوّل بنتٍ تزوره في سكنه. وقد أرّخ الشاب طه حسين، الذي أصبح في ما بعد ملء سمع الدنيا وبصرها، ذلك اللقاء بدقة متناهية زمانا ومكانا فكتب في سيرته الذاتية الشهيرة «الأيام»: (كان ذلك في اليوم الثاني عشر من شهر ماي سنة 1915 في مدينة منبيليه في وقتٍ يقع بين السادسة والسابعة مساءً) وكانت نتيجة هذه اللقاءات اليومية المتواصلة أن يلتهب قلب طه حسين عشقا، ومدخله – وهو الذي كان لا يرى ـ صوتُها، فالأذن تعشق قبل العين أحيانا. وكان أثر هذا الصوت عليه عظيما فكتب في مذكراته فصلا كاملا عنه عنوَنَه بـ«الصوت العذب» واصفا تأثيره الشديد عليه بكلمات مُترعة وجدا فقال (وكيف تجد الوحدة أو الوحشة إلى نفسه سبيلاً… وفي نفسه صوتٌ عذبٌ رفيقٌ يُشيع فيه البرَّ والحنان، ويقرأ عليه هذا الأثر أو ذاك من روائع الأدب الفرنسي القديم؟).
وحين طلبت منه جامعته الرجوع إلى مصر وإيقاف دراسته لمدّةٍ كان يجهلها، لم يجد يومها سنداً له سوى هذا الصوت يشجّعه ويدعمه فـ(ليس في نفسه إلا شيء واحد، هو هذا الصوت العذب الذي طالما قرأ عليه آيات الأدب الفرنسي، وهو الآن يناجيه في حزن أليم.. وقد صحبه هذا الصوت يشفق عليه من الأحداث، ويمنّيه الانتصار والخروج منها).
وحين أُعيد ابتعاثُه كان أول ما فعله أن صارح طه حسين سوزان بحبه، ومن حظنا أننا سمعنا تفاصيل الموقف في روايته وروايتها، فكلاهما سجل هذا الحادث المفصلي في حياتيهما، أما هو فكتب (سمع نفسه يلقي إليها في صوتٍ أنكره هو قبل أن تنكره هي، أنّه يحبّها. ثمّ سمعها تجيبه بأنها هي لا تحبّه. قال: وأيُّ بأسٍ بذلك؟ إنه لا يريد صدًى ولا جواباً، وإنّما يحبّها وحسب) في حين وصفت هي ما حدث قائلة (وذات يوم، يقول لي: اغفري لي، لا بدَّ من أن أقول لكِ ذلك؛ فأنا أحبّكِ. وصرخت وقد أذهلتني المفاجأة، بفظاظة: لكنّي لا أحبّكَ. كنت أعني الحبَّ بين الرجل والمرأة ولا شكّ. فقال بحزن: آه، إنّني أعرف ذلك جيّداً، وأعرف جيّداً كذلك أنّه مستحيل). لكن هذه الفظاظة منها وما كان يراه هو حبا مستحيلا، برز منها شعاع ضوء في عتمة هذا الرفض الصريح حين قالت له قبل ذهابه إلى العطلة الصيفية في مصر، بأنها إذا دعته لقضاء بعض الصيف مع أهلها فهي موافقة على طلبه، وإلا فالصداقة الصادقة بينهما ليس غير. وأنجده الصوت مرة أخرى حين أخبرنا بأن (الصوت العذب يدعو صاحبنا في رفقٍ وعطفٍ وحنانٍ، ويشعر بأنّه منذ اليوم سيُخلَق خلقاً جديداً). ومن يومها أصبح طه حسين وسوزان بريسو توأما سياميا لم يفرق بينهما إلا الموت.
لم يمر ارتباطهما بسهولة فقد كان متوقعا معارضة أهلها، لخصتْ ذلك في كتابها في جملة شديدة الدلالة (كيف؟ من أجنبيّ؟ وأعمى؟ وفوق ذلك كلّه مسلم، لا شكّ أنّك جننت تماماً) لكنّ ما عرف عنها من عناد، ومساندة عمٍّ لها كان قسّاً ومعجبا بشخصية طه حسين ذلّلا كل العقبات، فأغراها هذا العمُّ بعقل طه حسين لا بقلبه حين قال لها (لا تخافي، بصحبة هذا الرجل يستطيع المرء أن يُحلِّق بالحوار ما استطاع إلى ذلك سبيلاً). وتزوج العاشقان بعد سنتين من الحب الجارف، حبٍّ مبني على توافق عقلي بالدرجة الأولى، وقد سمّيتُه في كتابي «أبصرت بعينيها.. المرأة في حياة طه حسين وأدبه» حبّاً علميّا وصف يومياتِه طه حسين بطرافة حين كتب (وانظر إلى فتاة وفتى ينفقان أكثر النهار في درس اللاتينية حين يصبحان، وفي قراءة الترجمة الفرنسية لمقدّمة ابن خلدون حين يرتفع الضحى. فإذا جاء وقت الغداء أقبلا على تاريخ اليونان والرومان فقرآ منه ما شاء لله أن يقرآ. فإذا كانت الساعة الخامسة انصرفا عن تاريخ اليونان والرومان إلى الأدب الفرنسيّ فقرآ منه ما شاء لله أن يقرآ كذلك).
وكانت نتيجة هذا الزواج ولدين أمينة ومؤنس، وستًّا وخمسين لا يفترقان وإذا ما افترقا لسبب ما كتب لها تسعين رسالة في ثلاثة أشهر تحمل توسّل المتيمين واشتياق العذريّين (ابقي، لا تذهبي، سواء خرجتُ أو لم أخرج، أحملكِ فيَّ، أحبّكِ. ابقي، ابقي، أحبّكِ. لن أقول لكِ وداعاً، فأنا أملككِ، وسأملككِ دوماً. ابقي، ابقي يا حبِّي). أكثر من نصف قرن كان يراها عينيه اللّتين يبصر بهما كما كتب مرة، وكانت تراه «رسالةً» تؤديها كما وصفت علاقتهما صديقتها المقربة. كان أثرها عليه واضحا وكبيرا في ملبسه وهي الفرنسية العارفة بالأناقة، وفي مأكله وقد اهتمت بصحته ومواعيد أدويته، وحتى في علاقاته وحمايته من المتطفلين. فوفرت له الجوّ الذي يفرّغه لما هو منذور له من قراءة وكتابة وتفكير، وكانت تراعي مشاعره إلى حدّ أنه فشل في إقناعها بشراء جهاز تلفزيون. عرفت معه شدة العيش وهو طالب يعيل أسرةً بدراهم معدودة من منحته الجامعية، كما ذاقت معه نعيمها وهو باشا في العهد الملكي وعميد كلية الآداب ورئيس مجمع اللغة العربية ووزير للمعارف بلغ صيته مشارق الأرض ومغاربها. وقد أذابت وجودها في وجوده وعاشت له و«معه» كما هو عنوان كتابها عنه، الذي وصفته في جملة إضافية في الغلاف بـ«قصّة حبّ خارقة». وكان طه حسين مقدّرا لهذه التضحية الكبيرة منها، ممتنا لهذا الحب الكبير الذي لم يَزِدْهُ الوِرْدُ إلا عَطَشَا، فأهدى لها كتابيه «مع المتنبي» و«القصر المسحور» كما كتب في ديباجة كتابه «قصص تمثيلية» (إلى زوجي التي جعل الله لي منها نوراً بعد ظلمة، وأنساً بعد وحشة، ونعمةً بعد بؤس، أرفع هذا الكتاب).
كثيرون انبهروا بقصة الحب الكبيرة التي جمعت طه حسين بسوزان، لكن بقيت في قلوب الكثير أيضا غصتان شابَتا هذه الحكاية المثالية، لخّصت الأولى سهير القلماوي تلميذة طه حسين الأثيرة، في حوار لها مكتوب مع مفيد فوزي تلمّحُ فيه أكثر مما تصرح فقالت عن أستاذها (كان يرى الحياة من خلال زوجته الفاضلة سوزان… فالنظرة لم تكن مصريةً خالصةً، لقد سكبت في وجدان زوجها الراحل القيم المادّيّة الغربيّة) وهذا التأثير العقلي والعاطفي أشار إليه أيضا سكرتيره الأخير محمد الدسوقي، حين ذكر أنها ضربت حوله سياجا بدافع الحرص عليه، حال حتى بينه وبين التواصل الطبيعي مع أقاربه وأصدقائه. وقد عزا صاحب مجلة «الرسالة» أحمد حسن الزيات سبب فتور علاقته بطه وهو صديقه منذ الشباب، إلى زوجته التي كانت تحول دون لقائهما. أما الغصة الثانية فرغم هذا الحب الأسطوري من السيدة سوزان وهي التي عاشت في مصر سبعين سنة كاملة (توفيت سنة 1989) ودفنت في القاهرة، إلا أنها لم تكلّف نفسها أن تتعلم لغة الشعب الذي تعيش بينه وتتعامل معه يوميا، أو تبذل جهدا لتقرأ على الأقل ما كتبه زوجها عنها أو تطّلع على أدبه الذي وصل إلى العالم العربي من محيطه إلى خليجه، لكنه بقي مجهولا عند من تقاسمه ليله ونهاره.
تلك حكاية عاشقَيْن تختزلها جملتان: قال لها في حياته (دونك أشعر بأنني أعمى حقا) وقالت له عند موته (ذراعي لن تمسك بذراعك أبدا، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس).

المصدر: 
القدس العربي