تخطي إلى المحتوى
دمشق القديمة لا تزال "قارورة عطر" رغم المآسي والتحولات... باب توما وباب شرقي كيف يصنعان سحر المدينة؟ دمشق القديمة لا تزال "قارورة عطر" رغم المآسي والتحولات... باب توما وباب شرقي كيف يصنعان سحر المدينة؟ > دمشق القديمة لا تزال "قارورة عطر" رغم المآسي والتحولات... باب توما وباب شرقي كيف يصنعان سحر المدينة؟

دمشق القديمة لا تزال "قارورة عطر" رغم المآسي والتحولات... باب توما وباب شرقي كيف يصنعان سحر المدينة؟

على الرغم من اتساع دمشق واكتظاظها الصاخب، والثقل العمراني المهيمن على العديد من مناطقها، وعلى الرغم أيضا من صورتها الثريّة المتراكمة عبر التاريخ، إلا أن الواصلين إلى العاصمة السورية، بل حتى سكانها، يتحسّسون طريقهم إلى أحيائها القديمة، مختزلين العاصمة بتلك المداخل الضيقة والحارات المتعرّجة. كثير من السحر يمكن اقتفاؤه هناك، سحر يمكن اختزاله بثقافة رمزية خاصة، تجعل دمشق برمتها تتكثّف في باب شرقي وباب توما. كأن المدينة هي هذان الحيّان.

يكمن جمال دمشق، على مرّ الحقب، خلف زاوية معينة أو جهة محدّدة، على الزائر أن يخطو إليها ويتجه نحوها. كل خطوة تتكشف عن رونق القديم فيها، والحاجة الماسة إلى التعلّق بذلك القديم والبقاء لأطول وقتٍ ممكن، فجمال المدينة يكمن في الجهة الشرقية من المدينة القديمة في باب توما وباب شرقي.

لعلّ أبلغ تعبير عن هذا الجمال، هو وصف الشاعر السوري نزار قباني حين قال: "هل تعرفون ما معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة" حيث يقبع في حارات دمشق القديمة.

ما إن يصل السائحون إلى دمشق، سواء أكانوا من أبناء المدن السورية، أم الدول العربية أو الأجنبية، سيعرف الدمشقيون وجهتهم، من هيئاتهم الخارجية أو لهجاتهم المختلفة أو الفضول الظاهر عليهم، وقبل الانتهاء من سؤالهم عن وجهتهم، ستشير أصابع سكان المدينة إلى الشارع المستقيم الذي لا تشوبه أي تعرجات أو نتوءات، يتحتم على الزائر قطع مسافة 1570 مترا هي المسافة التي عبرها القديس بولس الذي مشى من كنيسة حنانيا، حاملا على ظهره المسيحية إلى أرجاء أوروبا. يتدرج الزائر المنقّب عن الجمال على أرصفة ضيقة تكاد تسمح بمرور شخص واحد، إذ يصل عرض الشارع المستقيم إلى 26 مترا، وقد بُني على النمط اليوناني الشبيه بأسلوب المخطط الشطرنجي الهلنستي الذي يقسم الشوارع الصغيرة أحياء أصغر. يمتد الشارع من باب الجابية، غرب المدينة القديمة، إلى باب شرقي، شاطراً المدينة شطرين، شماليا وجنوبيا، أحدهما شارع باب شرقي، والثاني سوق مدحت باشا، ليستريح الشارعان التاريخيان عند قوس النصر الروماني الذي يشغل مساحة وفيرة في قلوب السوريين من عقود طويلة.

 

يتنوّع عشاق الحيين، بدءا من أبرز الأسماء في مجالات الأدب والثقافة والفنون، وصولا إلى العشاق الجدد ممن مسّهم الحب للمرة الأولى، إلى العمال البسطاء من بائعي الكعك والمرطّبات، الذين أحبوا المكان ولجأوا إليه

على خلاف الكثير من الأحياء القديمة التي فقدتها دمشق تباعا، المدينة القديمة، والأزقة التاريخية، التي لم تجد لها محافظة دمشق خطة لإبقائها، بقي للحيين سحر فريد. المكانة الروحية التي انتقلت الى السكان والسياح وإلى المخيلة أيضا، أسبغت عليهما جمالا خاصا، حولت المكان إلى جسد وراوٍ صامت يتحدّث بلغة خاصة إلى اختلافات عشاقه. أحياء مشابهة أنشات أدبا وفنونا؛ زكريا تامر في إصداراته الأولى، لؤي كيالي في لوحاته الحميمية عن البيوت الملتصقة المتراتبة كشجرة متينة، وصولا إلى الماغوط ونسائه الجميلات اللواتي سرن أمامه وفي دهشته.

يتنوّع عشاق الحيين، بدءا من أبرز الأسماء في مجالات الأدب والثقافة والفنون، وصولا إلى العشاق الجدد ممن مسّهم الحب للمرة الأولى، إلى العمال البسطاء من بائعي الكعك والمرطّبات، الذين أحبوا المكان ولجأوا إليه. فأغلب سكان دمشق لا يزالون يطلقون على الحيين اسم "الحارة" كأنما دفاعا عن الماضي الجميل، وهو ما جعل لتلك الحارات أدبا ودراما وقصصا، قد يكون آخرها، وليس أفضلها، "باب الحارة"، بل ربما قد يكون أجملها رواية "قصر شمعايا" للكاتب الفلسطيني السوري علي الكردي الذي تحدث عن مصائر عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في هذا القصر ورحلة العذاب التي كابدوها في هجراتهم المتكررة، لكنه لم يغفل عن قصص الحب وحالة التعايش بين اليهود والفلسطينيين التي تجسّدها جولييت اليهودية وروميو الفلسطيني الذي أحرق نفسه احتجاجا على زواجهما المستحيل، لتقرر الحبيبة وضع حد لحياتها عبر تجرّع السم واللحاق به إلى عالم الأموات.

 

خصوصية معمارية

في مدار الأبنية القديمة والأحياء التاريخية ينشأ ارتباط مع السكان، لكن تعود الخصوصية الدمشقية إلى سحرها. كثير من الأحياء القديمة تلاشى، بفعل النسيان والبناء الحديث، إلا أن الحداثة لم تستطع محو حضور تلك الأبنية. لم يكن سؤالنا للمهندس المعماري خالد أبو سلو فقط عن طبيعة العمران وجماله بل أثره في السكان. يقول لـ"المجلة": "يشير مصطلح مورفولوجية المدينة إلى تحليل هيكل المدينة وتشكيلها من الناحية الهندسية والمعمارية، ويمكن القول إن دمشق تتميز بمورفولوجية فريدة تعكس التراث الثقافي والتاريخي لها، فالبيوت المتراكبة بنسيج عمراني متضام يعود إلى ما قبل التاريخ وشهدت حقبات عديدة كالرومانية وصدر الإسلام".

يؤكد أبو سلو أن تصميم المدينة يتّسم بأزقتها المتعرّجة التي تعكس التصميم العمراني التقليدي، حيث استخدام الحجارة والطوب الأحمر في تشييد المباني، إلى جانب أنظمة بناء تعتمد على الطين واللبن مدعوما بخشب الزان، مع وجود زخارف تقليدية معقدة على الجدران والسقوف، ويختم حديثه بأن الأثر النفسي لهذه الأحياء "يتعلق باستخدام عناصر محببة وودودة ونسب تصميمية إنسانية. فمثلا، يشعر الزائر بالرهبة العظيمة أمام مبنى يفوقه في الارتفاع بعشرات المرات، لكنه يشعر بالاحتواء إذا ما وقف أمام مبنى نسبته لا تتعدّى ضعفي طوله، بالإضافة إلى أن حالة التراكب وخلق الظلال في الشوارع تؤمّن جوا بيئيا لطيفا، خاصة في فصل الصيف".

تشكّل الحارات القديمة، إذن، على الرغم من ضيقها وقدمها، الوجه الجميل والنضر المضاد لتلك الحارات المستندة إلى إسمنت مغشوش وحديد هش في أحياء العشوائيات التي تمثل القبح والبؤس معا. ما الذي يجعل الحيين القديمين مكانين ساحرين وخاصين؟ هل هو مقدار الشعور بالجمال تجاههما ومدى تأثرنا وانغماسنا في ذلك الشعور الذي يمدّنا بالألفة والراحة البصرية عند الولوج داخلهما والرغبة العارمة بالبوح كأننا نتخلص من حمولة مثقلة بالذنوب يعقبها الغفران؟

 

ملاذ المخذولين

لا يمكن للزائر أن يتخطّى حي حنانيا دون المرور بكنيستها الشهيرة التي تعدّ الأقدم في حي باب توما وتعود الى الحقبة الرومانية. تقودك قدماك نحوها لتنزل إليها عبر درج يفضي إلى فسحة سماوية يصل عمرها إلى اكثر من 2000 عام. أثناء تجول بصرك بين تحفها التاريخية يستوقفك صوت خفي يتضرع إلى الله لتكتشف بعد ذلك عند خروجه أنه يحمل مصحفا صغيرا في يده، وحين تلتفت إلى جهة اليمين تلسعك رائحة الزيت الحار الذي أخذته الأم على عجل وخوف  لشفاء ابنها المريض. عند الخروج تتعثر بشاب وسيم أنيق يفتح معك حديثا متشابكا عن البورصة والسينما بكل طلاقة، ثم يبدأ بالدوران حول نفسه دون تعب، لتستنبط بعد قليل من الجيران أنه مجنون برتبة مثقف، فقد زوجته وطفله في صاروخ حوّلهما أشلاء متناثرة تناثر معها عقله.

على الرغم من مرور مئات القذائف فوق رؤوس سكان حيي باب توما وباب شرقي وهمجية القصف والقصف المضاد، غير أن سكانهما وزائريهما والواقعين في غرامهما ظلت أيديهم مرتجفة دون أن يقووا على قطع حبل السرة معهما، فظلوا يواظبون على زيارتهما بعد ساعات قصيرة من إعلان لائحة طويلة من الضحايا في شريط إخباري عاجل، وكأن عزوفهم عن زيارتهما هو بمثابة تهديد لوجودهم  وإشعار رسمي لانتصار الموت، ليصبح السير إليهما علاجا للآلام وتطهيرا من الخطايا أو ربما نذورا يقطعها الناس على أنفسهم إلى حين انتهاء الحرب. تقول السيدة الأربعينية أمل التي لم تنقطع عن زيارة حي باب توما طوال 20 عاماً حتى في أحلك الظروف وأقساها: "اكتسبت عادة المرور بباب توما عندما سكنت في منطقة دويلعة القريبة من الحي القديم، اعتدت السير إليها صباحا أيام الشتاء ومساء في الصيف، واحتفظت بهذه العادة طوال سنوات الحرب، لم أرغب في تركها وهي تتألم من وقع شظايا القذائف، لم أتخلّ عنها أبدا".

لا يقتصر الحيّان على أماكن السهر فقط، بل يتحوّلان إلى تمارين للروح ومحاولة انعتاقها من كل شوائب عالقة فيها. فعلى الرغم من ضوضاء الحيين تحاول مدربة اليوغا تاليا اختيار حيّز ما لتنقية أفكارها، تقول: "أعمل حتى 10 ساعات يومياً، موزعة بين عملي في القطاع الحكومي صباحا، ومدربة يوغا مساء، يتصدّع رأسي من إلحاح المراجعين وأسئلة المتمرنات، إضافة إلى الأعباء المالية وسوء الأوضاع الخدمية، لذا آتي إلى حديقة القشلة بباب توما لأستريح وأطرد الطاقة السلبية".

على الرغم من مرور مئات القذائف فوق رؤوس سكان حيي باب توما وباب شرقي، غير أن سكانهما وزائريهما والواقعين في غرامهما ظلت أيديهم مرتجفة دون أن يقووا على قطع حبل السرة معهما

كذلك يحاول تامر، وهو شاب عشريني التقيناه في أحد أماكن السهر، مقاومة الضغوط عبر إطلاق العنان لجسده بالرقص، فهي طريقته الوحيدة في النجاة الفردية ريثما تصله تأشيرة الدخول إلى بريطانيا. يقول الشاب: "أعاني من ضغوط اجتماعية، يرفض أهلي أن أرقص، فأنا انحدر من عائلة محافظة، هنا فقط أستطيع ممارسة شغفي، فالناس هنا من جيلي يتقبلون ما أفعله بكل حب". مهما يكن وصف الحيين، لكن لا يمكن نكران قدرتهما على جعل الحياة أفضل وألطف أو على جعل أحلام شبانهما وشاباتهما قابلة للتدوير، في بلاد تحولت أقصى الأحلام فيها إلى امتلاك مقعد في حديقة أو سيارة أجرة أو سرير في مستشفى.

دفء المنازل

تخضع الأحياء الدمشقية القديمة إلى تقسيمات هندسية موزعة بحصص جمالية وحسية بما يوحي بعبقرية العمران في منازلها، فبعد المرور بأزقتها الضيقة إلى حين الوصول إلى باب الدار، على الزائر أولا الطرق عدة مرات باليد المعلقة على جسد الباب الكبير التي تسمى بـ"السقاطة" كي تعطي إنذارا لأصحاب البيت أن أحدا ما في الخارج. بعد ذلك يتوجب الانحناء قليلا للولوج داخله الشبيه بدهليز طويل يقودك إلى باحة واسعة يطلق عليها الدمشقيون تسميتهم المفضلة "أرض ديار" تتوسطها بركة مياه مصنوعة من الرخام في نقوش وزخرفات متشعبة تسيجها دائرة من أزهار النارنج والليمون والورد الجوري وتتفيأ تحت أشجار باسقة من الياسمين أو العنب. أما في صدر الباحة فتجد الإيوان لاستقبال الضيوف وإقامة العزائم والاستقبالات النسائية، بينما تمدّ النوافذ رؤوسها من بين الحجارة الطينية المتكئة بعضها على بعض، وقد تصادف الكثير من الأبواب المواربة أو المفتوحة على مصراعيها، فهي ميزة استأثرت بها بعض العائلات الدمشقية كأنها ترحب بأي عابر سبيل أو غريب أو شريد بلا مأوى.

 

مطاعم  ومقاه

يتعامل السوريون مع حيي باب شرقي وباب توما بمنطق "صخب الليل يمحو مكابدات النهار"، فالظفر بكرسي في أحد مطاعمهما  يندرج في خانة الانتصارات الصغيرة في ظل انعدام الكبيرة، فالسهر تحت نجومهما المرصعة له سحر خاص لا يضاهيه أي مكان آخر وسط المدينة مهما كان فخما وراقيا، فنشوة السير ليلا والرغبة التي تكتسح السائرين بالمشي حفاة على أروقة أحد أبواب دمشق السبعة تكفي لتجرّع كؤوس من الأمل تكفي لبدء يوم جديد بحمولة خفيفة. تشتدّ أجواء الصخب ويزدحم طالبو السهر في طوابير لا تنتهي يوم الخميس في طقس بهيج يثأرون فيه من كل أيام الحرب، كيف لا وهو متنفسهم الوحيد الذي يذكرهم بأنهم لا يزالون على قيد الحياة. تستمر الحفلات حتى الثالثة فجراً، تعلو خلالها الأصوات وتتمايل أجساد الراقصين حتى التعب.

 

أما المقاهي القديمة بصورتها التراثية العمرانية فتشكّل هامشاً ثقافياً وحيزاً لممارسة الحريات المنضبطة وتبادل الآراء الاجتماعية الجريئة، وشاهداً على التحولات السياسية. كانت المقاهي الدمشقية في القرن التاسع عشر تحتل مساحة كبيرة في النشاط السوري ويومياته، ليصل عددها إلى أكثر من 110 مقاهٍ، بوصفها حاضنة للعديد من الكتاب والمثقفين العرب وليس السوريين فحسب. كان الشاعر العراقي مظفر النواب أحد الرواد النشطين لمقهى الهافانا، ومن أشهر المقاهي المنتشرة آنذاك مقهى السكرية بباب الجابية، ومقاهي الدرويشية والعصرونية والمناخلية، ومقهى الجنينة في سوق الخيل، ومقهيا العمارة وجاويش في القيمرية، والرطل في باب توما. لكن في السنوات العشر الأخيرة خضعت معظم المقاهي الشهيرة لإعدادات الحداثة واذعنت أخيراً لمعايير العصرنة وما يطلبه الجمهور، إذ وجد أصحاب المقاهي أنها لم تعد تدرّ لهم الأموال كما عهدوها من قبل، وذلك بفعل تغير المزاج العام والحاجة الملحة للترفيه وإدخال المتعة السريعة، فمعظم المقاهي تحولت إلى أماكن لمشاهدة المباريات والغناء والطرب أو مخبأ من قيظ الصيف أو برد الشتاء أو للحصول على ساعات معدودة من الكهرباء والإنترنت المدفوع الأجر، ينجز مرتادوها أعمالهم ودروسهم المتأخرة. أما المقاهي بصورتها المعهودة فباتت شبه مختفية، فخلت المقاعد الواحد تلو الآخر، وأصبحت خاوية من أرواح من جالسوها، منهم من فارق كرسيه بمرض أجبره على ملازمة المنزل، وآخر تخلى مجبرا عن مقعده لسبب قاهر خارج عن إرادته وهو الموت، ولا يزال ذاك الكرسي الأعوج في يسار مقهى النوفرة شاغرا في انتظار صاحبه الذي كان يصر على الجلوس عليه لشدة شبهه بقدمه الملتوية مثله، كان يردّد ممازحا حين يطلبون منه تغيير الكرسي بالقول: "لن أجلس على كرسي سليم كي لا يعيّرني بعاهتي، أما ذاك الأعقف فأنا وهو نتساوى بالاعوجاج". أما من بقي فتراه يحتسي عشرات فناجين القهوة على شرف الأصدقاء الغائبين.

المصدر: 
مجلة " المجلة"