تخطي إلى المحتوى
شهرزاد الحكواتية الذكية شهرزاد الحكواتية الذكية > شهرزاد الحكواتية الذكية

شهرزاد الحكواتية الذكية

في وقت ما من طفولتي كنت مع رفيقتي وشريكتي في هوى الحكايات، ننتظر بشغف عند غروب كل شمس – قبل أن يجبرنا أهلنا للذهاب إلى النوم- سؤال ماما نعيمة الساحر:
ـ كان يا ما كان في قديم الزمان، نحكي ولّا نام؟
كانت تعرف الجواب، إلا أنه كان يحلو لها أن تستفزّنا، أو ربما هي تريد أن تستمتع بسماع أصواتنا الصغيرة تردد بحماس: نحكي.. نحكي.
وماما نعيمة، كانت جارتنا الأميّة التي لا تعرف القراءة والكتابة، إلا أن خيالها الجامح، كان يفيض حيوية وخلقا وابتكارا. ما زال صوتها الهامس يهدل في أذني. وهي تقص حكاياتها علينا في ليالي الشتاء، حكاية الجنيات اللواتي يغزون الممالك العامرة، حكاية الوزة التي أرادت أن تطير مثل الطيور. حكاية السنبلة والمطر. تتماهى في وصف شخصياتها، كأنها تعيش معهم، كان هذا يسحرنا ويشحذ خيالنا، كأننا نعيش حياة ثانية ، قد يبدو أنه لا منطق في الأمر، لكن ربما هذا سر قوته وسحره. لقد عشتُ أشياء أخذت مني، وحتى هذا اليوم، الكثير من هذا اللامنطق السحري. ماما نعيمة كانت أول من أيقظ مارد القراءة الصغير في داخلي، ليس هذا فقط، بل جعلتني أؤمن بأن قوة الخيال ليس في كونه ملهما فقط، بل في إمكانية كونه محفزا ومغيراً أيضا..
في أول يفاعتي، عثرت على كنزي الساحر.. ما زلت أذكر مكانه، كان على الرف الثاني من مكتبة بيتنا القديمة، كتاب ضخم مجلد باللون الوردي الغامق، كتب عليه بخط عربي جميل «ألف ليلة وليلة» الميلودراما الشرقية الذائعة الصيت، المجهولة الكاتب والنسب – التي تباينت الآراء في ما إذا كانت تنتمي إلى الهندية أو الفارسية أو العربية. قرأت الكتاب بذائقة غضة، حاول والدي أن يمنعني من قراءته، اعتبر أنه من المبكر عليّ قراءة كتاب كهذا، لكن الأوان كان قد فات، والجذوة كانت قد اشتعلت، وقعت في غواية هذا الخيال الجامح، فلم تعوزني الحيلة من أن أنتحي كل زاوية في البيت وأقرأ الكتاب. كان تمردي القاسي الحنون الأول. وكأني كنت أطل على الدنيا من خلاله. بدا لي الأمر متناقضا وقلقاً ومشوشا. كنت منجذبة إلى عالم الرواية الساحر، لكني كنت حزينة في الوقت ذاته، والأحرى غاضبة، وأنا أقرأ بذائقة لم تنضج بعد، حكاية الملك شهريار- الذي يتزوج كل ليلة صبية ويقتلها عند بزوغ الفجر انتقاماً من خيانة زوجته الأولى – مع ابنة الوزير شهرزاد، التي قدمت نفسها عروساً له، لتغيير قلبه وتحويل مصيرها ومصير مئات النساء، من الموت إلى الحياة، بسلاحها الناعم، سلاح الخيال والحكاية.
ليلة إثر ليلة، كانت شهرزاد تتزين وتتعطر، لتسحر شهريار بأنوثتها، وحكاياتها التي تبدأها بقولها الشهير:
«بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي الرشيد» .
وتجعله يعيش في أجواء ساحرة وعوالم غامضة، ليل وأغان ورقص وجوار، تكايا وطنافس وبخور وعطور، وصوتها العذب يسرد حكايات مليئة بالإثارة والمغامرات والتشويق والأسرار. وعند بزوغ كل فجر، تتوقف وتقول له بدلال جملتها الشهيرة: وهكذا يا مولاي أدرك شهرزاد الصباح وتوقفت عن الكلام المباح. تتركه أسير الشوق والشغف. لقد أيقظت فضوله، لكنها أيقظت شيئا آخر في داخله، معنى الرحمة والحب والتسامح، بدت له شهرزاد وهي تسرد حكاياتها في غسق الليل، غامضة ورقيقة، لامس خوفها روحه، وهي تنتظر مصيرها عند كل فجر، وفي كل ليلة كان يؤجل إعدامها ليلة أخرى بحجة سماع نهاية الحكاية.
وفي الليلة الألف، قرر شهريار العفو عن شهرزاد، وعن كل النساء. لقد وقع في فخ الحكواتية الذكية.
بعد أن تقدم بي العمر. كنت أعود للكتاب بين الحين والآخر، أقرأه بذائقة مختلفة. فعلى الرغم من الطبيعة الخيالية لحكايات ألف ليلة وليلة، حيث يمتزج الواقع بالمتخيل، والتاريخ بالخرافة، إلا أني لم أر في هذا الخيال ترفاً أدبياً بقدر ما كان قوة جذب للكلمة، يبنى على معطيات الواقع، وهو المعادل للإبداع، الذي يعكس في طياته واقعا معقداً ومواضيع إنسانية عميقة، لقد وعيت معنى الرؤية الفكرية والفلسفية التي تعكسها أجواء ألف ليلة وليلة – ليس في ما يتعلق بشهرزاد فقط، التي أرادت أن تبين، أنه داخل كل امرأة – تعيش امرأتان، الأولى الأنثى التي تتقن فن الغواية، والأخرى المرأة الذكية القوية، التي تريد تفكيك وتحليل عالم الرجل الداخلي، لتدخل منه إليه، بل وبكل الحكايات التي كانت تسردها، حكاية علاء الدين والمصباح السحري، علي بابا والأربعين حرامي، السندباد البحري وغيرها وغيرها، وكلها تحمل معاني عميقة عن خفايا النفس البشرية، من الحب والأثرة والطمع والعشق والجشع والشهوة والخير والشر. لقد وعت شهرزاد بذكائها أن الحكايات تعطي صوتا لمن لا صوت لهم، وتصبح قوة تغيير تفتح الأبواب لعوالم جديدة، وتعيد تشكيل المفاهيم والأفكار.
لقد وقعت تحت تأثير جدلية التفاعل مع هذا الكتاب، الذي كتب منذ زمن بعيد، ما أود قوله هو أنني كنت متحمسة لشخصية شهرزاد فعلا، لأنها استخدمت الحكاية أو الخيال – أو لنقل الأدب – أداة تغيير، في زمن بدا فيه الكتاب اليوم، محبطين، وكأنهم تنازلوا عن هذه المهمة، واعتبروا أن الأدب لا يغير، التغيير يتم بالقوة فقط. لكن لا بد من همسة صغيرة، ربما قد تبدو للبعض متناقضة! ماذا أفعل؟ إنه عفريتي الصغير يتحرك، يأبى أن يدعني أهدأ! فهناك الكثير من الأسئلة المحيرة تأبى إلا أن تدور في رأسي! هل كان على شهرزاد أن تناور كل ليلة حتى الليلة الألف على حياتها وعلى حياة كثير من النساء بكل هذا الضنى والعذاب وهي تورطنا بين الواقع والمتخيل، تختفي في الظل، ثم تظهر فجأة في النور، لتحصل على حريتها، وتجعل شهريار يقع في غرامها، وهل حصلت فعلا على حريتها؟
السؤال الأهم، هل كانت شهرزاد ألعوبة شهريار أم العكس؟ هل الحكايات على تضاد مع الواقع ؟؟ ربما! من الصعب الإجابة..

المصدر: 
القدس العربي
USD
  • USD
  • EUR
  • SAR
  • TRY
  • AED