يستقبل متحف "قصر الباشا" في قطاع غزة -الذي يمزج بين العمارتين المملوكية والعثمانية- عشرات الآلاف من الرواد سنويا، وأغلبهم من الفلسطينيين من مختلف الفئات العمرية. هذا القصر ومرافقه كان خلال فترة حكم المماليك والعثمانيين مُشيّدا على قطعة أرض تصل مساحتها إلى نحو 60 دونما، إلا أنها تقلّصت في فترة الانتداب البريطاني لفلسطين وما رافقه من هدم للمباني التاريخية إلى نحو 600 متر، حسب وزارة السياحة والآثار. ولم يتبق من أبنية هذا القصر -الواقع في حيّ الدرج (شرقي مدينة غزة)- غير جزأين معماريين مُنفصلَين عن بعضهما البعض؛ الأول كان يُسمّى في العهدين الماضيين "سلاملك"، وهو لفظ عثماني يُطلق على الجزء المُخصص للرجال، و"الحرملك" المُخصص للنساء. وما زالت هذه العمارة الإسلامية تحتفظ ببعض تفاصليها العريقة التي تُجسد الحضارة في العهدين المملوكي (1260-1516) والعثماني (1516-1917). ومع مرور الزمن، ونظرا للتغيرات التاريخية التي مرت بها المنطقة، تغيرت وظيفة هذا القصر من إدارة حكم مدينة غزة وسن القوانين إلى وظائف شرطية وتعليمية.
وعام 2010، تم تحويل الطابق السفلي من مبنى "السلاملك" إلى متحف يجمع عددا من القطع الأثرية التي تعود إلى الحضارات السابقة التي توالت على فلسطين. ولم يتم العثور على لوحة تأسيسية خاصة ببناء هذا القصر، لكن يرجح أن تأسيسه تمّ في نهاية الدولة المملوكية، وبداية العثمانية، حسب ناريمان خلّة مديرة المتحف التابع للوزارة.
وتقول خلّة -لوكالة الأناضول- إن "قصر الباشا هو المبنى الأثري الوحيد بغزة الذي احتفظ بتفاصيله القديمة كما هي". وتضيف "لم يتأثر القصر بالتغيرات المناخية بشكل كبير، كما ساعده في ذلك الاهتمام العثماني والتركي بالمباني التي تعود لحضارتهم".
تسلسل تاريخي
على مر العصور، حمل هذا القصر عدة مُسمّيات؛ منها قصر "آل رضوان"، الذي أُطلق عليه في العهد العثماني، نسبة إلى عائلة "آل رضوان"، التي كانت تحكم غزة آنذاك، حسب خلّة.
كما أطلق على القصر اسم "دار السعادة"، لكنه -وفق خلّة- لم يحمل يوما اسم "قلعة نابليون"، كما هو مُشاع، حيث استراح نابليون خلال حملته على بلاد الشام، داخل القصر 3 أيام فقط، ثم أكمل طريقه نحو أسوار عكا.
وفي عهد الانتداب البريطاني (1917-1948)، تم تحويل هذ القصر إلى مركز للشرطة وتم تخصيص غرفتين صغيرتين تحت أرضيته لأغراض التوقيف؛ الأولى كانت خاصة بالنساء والأخرى للرجال.
وتقول خلّة إن "البريطانيين عمدوا خلال فترة احتلالهم لفلسطين إلى تدمير معظم البيوت الأثرية بمدة غزة، إذ تعرّض القصر للتدمير المتعمّد؛ مما أدى إلى تقلّص مساحته".
وبعد صدور قرار تقسيم فلسطين (1947)، خضع قطاع غزة للإدارة المصرية (1948-1967)، وتحديدا في فترة حكم الملك فاروق، وتم تحويل القصر إلى مدرسة للفتيات، وأطلق عليها اسم "الأميرة فريال"، نسبة إلى كريمته.
أما في عهد الرئيس المصري جمال عبد الناصر، فقد تم تغيير اسم المدرسة إلى "فاطمة الزهراء"، حسب خلّة.
وبعد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية تم تهميش هذا المكان، وأصبح مهجورا تماما مثل "الخرابة"، وفق خلّة.
وفي عام 2000، وبعد تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية تقول خلّة إنه تم فصل المدرسة عن المكان، وأُعيد ترميمه عام 2005.
العمارة الإسلامية
تقول خلّة إن هذا القصر -الذي يصل عرض الجدار الواحد فيه لنحو 80-100 سنتيمتر- شُيّد في منطقة كانت تعدّ "الأكثر ارتفاعا في مدينة غزة، مما جعله "مبنى مركزيا وحصنا للولاة".
على جانبي الباب الخاص بمبنى "السلاملك"، نُقش شعاري الأسد، إذ يحمل كل واحد منهما نقوشا عربية، عُرف منها "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وفق خلّة.
وكان السلطان المملوكي الظاهر بيبرس اتخذ -حسب المراجع التاريخية- الأسد شعارا لدولته.
وتقول خلّة إن الأسد المنقوش على الناحية اليُسرى من الباب، خضع سابقا لعملية ترميم للحفاظ على تفاصيله ورونقه.
أما أبواب القصر فقد اتخذت من الأعلى شكل القوس، في حين تم تصميم أسقف المبنيين (الطوابق الأرضية منها) على شكل القباب التي كانت تشتهر بها العمارة المملوكية.
وطوّر العثمانيون على العمارة المملوكية، فأدخلوا تعديلات على القباب (أسقف المباني)، التي دعّموها بجرار فخارية من المنتصف، وفق خلّة.
وتقول إن "الطوابق الأرضية من القصر أنشئت خلال فترة حكم الدولة المملوكية، في حين طوّرت الدولة العثمانية هذه العمارة وأنشأت الطوابق الأولى منها، ودمجت العمارتين مع بعضهما البعض".
وتوضح وجود اختلاف في نوعية الحجارة المستخدمة في الطابقين؛ إذ استخدم المماليك في بناء الطابق الأرضي الحجارة الرملية أو الكركار، لكن العثمانيين استخدموا "الحجارة الصخرية والجيرية في تشييد الطابق الثاني".
وعن غرف القصر، قالت خلّة إن مبنى السلاملك يضمّ 5 غرف: 3 منها في الطابق الأرضي، وكانت واحدة منهم تشكّل غرفة السلطان في العهد المملوكي، وهناك غرفتان في الطابق الأول.
وفي العصر العثماني، شكّلت أيضا الغرفة الكبيرة في الطابق الأول مقرا للسلطان، في حين كانت الغرف الصغيرة تُخصص للوزراء والأعيان.
وما زالت غرفة السلطان -التي تم تأسيسها في العهد العثماني- تحتفظ بحجارتها الأرضية الأصلية المصنوعة من الرخام، فضلا عن احتفاظ عتبات الأبواب برخامها الطبيعي أيضا.
وأما مبنى "الحرملك" فقد ضمّ غرفتين في الطابق الأرضي، وغرفة مُرفقة بقاعة مكشوفة في الطابق الأول.
كما احتوى القصر على غرفة صغيرة تحت الأرض، كانت تستخدم في عهد المماليك والعثمانيين للدفاع عن القصر.
وتقول خلّة إن منسوب أرضية القصر كان أعلى في السابق، إلا أن "عوامل الزمن والتعرية تسببت في انخفاضها قليلا".
وداخل غرف القصر، اهتم كل من المماليك والعثمانيين بتأسيس خزائن تشبه في تصميمها شكل الشبابيك، كانت تُخصص لتخزين الملابس أو الأغراض الأخرى.
وعن النقوش التي زيّنت جدران القصر من الخارج، فقد تنوعت بين الزخارف الإسلامية النباتية وأبرزها "نبتة السنبلة"، والهندسية وأبرزها "السداسية والثمانية"، حسب خلّة.
ورغم الاهتمام السابق بترميم القصر والاحتفاظ بتفاصيله، فإنه ما زال بحاجة لـ"عمليات ترميم لضمان بقاء حجارته متماسكة".
وأضافت خلة أن "عدم ترميم المباني الأثرية عموما بغزة، بسبب الحصار وتداعياته الاقتصادية وإعاقة عمل المؤسسات الأجنبية الفاعلة في هذا القطاع؛ أدى إلى تآكل الحجر الأثري وانهيار بعضه".
وأشارت إلى أن عددا من المؤسسات الدولية أسهمت في ترميم المكان، لافتة إلى أن مؤسسة "تيكا" التركية دعمت مشروعا -سيتم تنفيذه في الفترة القادمة- لإصلاح حديقة القصر وتغيير مدخله.
"قصر الباشا" في قطاع غزة، يمزج بين العمارتين المملوكية والعثمانية (الأناضول)
متحف القصر
في متحف القصر، الذي خُصص قبل ما يزيد على 10 سنوات، يتم عرض قطع أثرية فريدة تعود للعصور "اليونانية والرومانية والبيزنطية والإسلامية".
وفي إحدى زوايا المتحف، تم عرض قطعة فخارية رسم عليها طائر "البجعة"، قالت خلّة إنها تعود للعصر "الفلستي".
وفي زاوية أخرى، عُرض في المتحف مخطوط "مزامير داود" الذي يعود عمره لنحو ألفي عاما، وكتب باللغة الأرمنية القديمة، الأقرب للعبرية، حسب خلّة.
وتضيف "هذا المخطوط من المخطوطات الوحيدة في العالم، حيث يضم تسابيح وتهاليل وترانيم سيدنا داود (…) ولم يتم ترميمه أو ترجمته".
وفي السياق، فقد اشتمل المتحف على مخطوط للقرآن الكريم، وصل إلى غزة من العاصمة العراقية بغداد، وهو مصنوع من ورق البردي ويعود للفترة العثمانية، حيث نسخت عليه جميع سور القرآن الكريم، وفق خلّة.
محفوظات ومقتنيات داخل متحف "قصر الباشا" في قطاع غزة (الأناضول)
وقالت إن "السور الكبيرة نُسخت منها الآيات العشر الأولى، كما نُسخت السور الصغيرة كاملة، في حين لم يتم التعرف على طول المخطوط لحاجته للترميم".
وعن زيارة هذا المتحف، قالت خلّة إن الزيارات الأجنبية لهذا القصر نادرة جدا، مقارنة بالمتاحف الأثرية في الخارج، وأرجعت ذلك إلى ظروف الحصار الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ أكثر من 16 عاما.
بينما تنشط السياحة الداخلية لهذا القصر -وفق خلّة- حيث تقصده المؤسسات والمراكز التعليمية والثقافية والأكاديمية والمؤسسات الدولية العاملة في قطاع غزة.