لا تُبدي الأوساط المصرية كبير حماس للممر الاقتصادي الذي يربط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)، والذي كُشف النقاب عنه خلال قمة مجموعة العشرين الأخيرة التي عُقدت في مدينة نيودلهي في الهند، بل إن هذا المشروع الذي سينشىء طريقا تجاريا موازيا لقناة السويس، ويربط أوروبا بالهند مرورا بدول الخليج العربي، كالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، يثير مخاوف في مصر بشأن آفاق الممر البحري المصري، والذي يُعتبر أقصر طريق بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط.
ويشعر المصريون، وحتى الناس في الشوارع، بالقلق من أن ممر الهند- الشرق الأوسط-أوروبا يمكن أن يقلل من الاهتمام بالقناة المصرية التي يبلغ طولها 193 كيلومترا، ولا سيما في ظل إجماع واضح في العواصم الغربية على الحاجة إلى التقليل ما أمكن من الاعتماد على الصين، خاصة الآن، في ظل هبوب رياح الحرب الباردة بقوة في هذه العواصم.
سيزيد الممر المحتمل الجديد من الأهمية الجيوستراتيجية لدول الخليج، ويضعها في صلب التجارة الدولية، ويُجبر القوى الكبرى على أخذ مصالحها في الاعتبار في عالم أصبح مُتعدد الأقطاب على نحو أكثر مع اشتداد التنافس بين القوى الكبرى يوما إثر يوم. ولكن الخوف يكمن هنا في أن الممر الجديد سيقلل من أهمية مصر الجيوستراتيجية، في وقت تعتمد فيه هذه الدولة العربية على قناة السويس بشكل أكبر لزيادة الدخل، وللتخطيط الاقتصادي المستقبلي.
تُعتبر القناة في الفكر السياسي المصري ركيزة الثقل الاستراتيجي والسياسي لهذا البلد، وتُلخص هدية الجغرافيا لهذا لمصر، ولكن المصريين دفعوا ثمنا باهظا لحفرها وحمايتها وتطويرها على مدار العقود الماضية.
التقليل من أهمية الممر
سارع العديد من المسؤولين المصريين إلى التقليل من أهمية الممر، وبدا بعضهم متشككا في جدوى تنفيذ الممر. وقال رئيس هيئة قناة السويس، التي تدير القناة، أسامة ربيع، إن المسار الجديد المقترح سيكون طويلا ومكلفا لخطوط الشحن.
وقال ربيع لقناة تلفزيونية محلية يوم 18 سبتمبر/أيلول المنصرم: "بعض البضائع قد تنتهي صلاحيتها أثناء الرحلة من المصدر إلى الوجهة على هذا الطريق الجديد".
وبعد مضي ثلاثة أيام، صرح وزير النقل المصري، كامل الوزير، بأن قناة السويس ستظل أهم ممر بحري في العالم. ومع ذلك، فإن المخاوف الوطنية بشأن الممر تجلّت في عدد من المقالات والأعمدة والتحليلات التي نشرتها الصحف المحلية، وفي الوقت الذي خصصته القنوات التلفزيونية المحلية للتأثيرات المحتملة للممر على مصر عموما وقناة السويس خصوصا.
ركيزة الاقتصاد الوطني
تكمن في أعماق هذه المخاوف الأهمية القصوى لقناة السويس بالنسبة لمصر، وحاضرها ومستقبلها الاقتصاديَين؛ حيث تُعد القناة مساهما رئيسا في الدخل القومي لمصر، وقد حققت ربحا للاقتصاد المصري مقداره 9.4 مليار دولار في العام المالي 2022 / 2023، والذي انتهى في يونيو/حزيران، مقارنة بـ 7 مليارات دولار فقط كانت قد حققتها في العام المالي الذي سبقه.
وتسهم القناة بشكل رئيس بحوالي 5 في المئة من الناتج القومي الإجمالي لمصر و10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وعلى الرغم من أنها تأتي في المركز الرابع من حيث الإيرادات الوطنية، بعد الصادرات، وتحويلات المصريين العاملين في بلدان أخرى، والسياحة، إلا أنَّ قناة السويس تعتبر مركزية للتخطيط الاقتصادي المستقبلي لمصر. فهذه القناة، كما وصفها خبير النقل البحري وائل قدورة، هي محور الاقتصاد المصري.
وقال قدورة، العضو السابق في مجلس إدارة قناة السويس، لـ"المجلة": "يتعلق الأمر بشكل خاص بالخطط المصرية للاستفادة من موقع القناة لتحويل المنطقة المحيطة بها إلى مركز لوجستي رئيس".
وأضاف: "نحن نتحدث هنا عن أهم ممر بحري في العالم، وهو الممر الذي يحمل ما يقرب من 12 في المئة من التجارة العالمية وحوالي 30 في المئة من حاوياته".
لقد استثمرت الحكومة المصرية بكثافة في تطوير قناة السويس في العقد الماضي حتى تتمكن من المنافسة مع الطرق البديلة الحالية أو المحتملة. ففي عام 2015، سمحت القناة بحركة المرور في الاتجاهين، وذلك لأول مرة، منذ افتتاحها عام 1869م، وعلى أثر عام من العمل الشاق، تم خلاله حفر قناة موازية باستثمارات تجاوزت 6 مليارات دولار. وفي السنوات التالية، عُمقت أجزاء مختلفة من القناة للسماح بملاحة السفن ذات الغاطس الكبير.
خطة مصر هي تحويل منطقة قناة السويس إلى مركز لوجستي/صناعي رئيس يجذب عشرات المليارات من الدولارات من الاستثمارات الأجنبية، ويوفر عشرات الآلاف من فرص العمل للمصريين
وعلى الرغم من تقلبات التجارة الدولية والتباطؤ الاقتصادي الدولي، والذي نجم في البداية عن انتشار فيروس كورونا، ومن ثم الحرب في أوكرانيا، فإن هذه التحسينات تؤتي أُكلها وتساهم في زيادة الإيرادات اليومية للقناة، وعدد السفن التي تبحر في الممر. وبصرف النظر عن هذه التحسينات، تقوم مصر أيضا بإنشاء سلسلة من الموانئ على طول القناة لمواكبة التنوع المتزايد في التجارة الدولية، بما في ذلك ميناء شرق بورسعيد، وهو مركز للتجارة العابرة للقارات، وميناء السخنة عند المدخل الجنوبي للقناة؛ فقناة السويس تُخدِّم على حقول النفط والغاز الموجودة في المنطقة. وتتمثل خطة مصر في تحويل منطقة قناة السويس إلى مركز لوجستي/صناعي رئيس يجذب عشرات المليارات من الدولارات من الاستثمارات الأجنبية، ويخلق عشرات الآلاف من فرص العمل للمصريين، وهو ما سيؤهلها لدفع النمو الاقتصادي المنشود في مصر خلال السنوات المقبلة.
حسنة الإعداد
قد يكون الإعلان عن ممر الهند- الشرق الأوسط- أوروبا خلال قمة مجموعة العشرين الأخيرة في الهند قد شكّل مفاجأة للجمهور المصري ووسائل الإعلام في مصر. سوى أن المخططين الاقتصاديين ومخططي النقل في هذا البلد ربما لم يأخذهم هذا الإعلان ذاته على حين غرّة.
وحقيقة الأمر هي أن مصر تحاول منذ زمن بعيد زيادة جاذبية قناة السويس وأهميتها وعمليتها كحلقة وصل سريعة بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. وجاء ذلك في البداية على خلفية ظهور طرق بديلة محتملة للقناة، بما في ذلك قطار الشحن الإسرائيلي السريع المقترح الذي ينطلق من إيلات على البحر الأحمر إلى حيفا أو عسقلان الواقعتين على البحر الأبيض المتوسط.
وفي 20 سبتمبر/أيلول، وصف وزير النقل المصري هذا الخط الجديد بأنه "قناة سويس جديدة على السكك الحديدية".
وسيمتد الخط من العين السخنة الواقعة على البحر الأحمر إلى الإسكندرية والعلمين ومرسى مطروح التي تقع على البحر الأبيض المتوسط لمسافة قدرها 660 كيلومترا.
مخاوف حقيقية
إنّ مكمن الخوف الحقيقي في القاهرة أن تتأتى تأثيرات "إيميك" على قناة السويس عن التحول المتوقع في الاهتمام التجاري في الدول الغربية إلى الهند في المستقبل مع بناء الممر الجديد، وذلك بدلا من الاهتمام التجاري الحالي بالصين.
وأضاف أن "الولايات المتحدة تريد تحويل الهند إلى مصنع العالم، وهو الأمر الذي سيضع هذا البلد في مركز التجارة الدولية، بدلا من الصين الآن".
وقناة السويس هي المحطة الرئيسة في مبادرة الحزام والطريق الصينية التي طورتها الحكومة الصينية عام 2013 والتي تتضمن استثمارات في عشرات الدول.
وتستثمر الصين بكثافة في مصر، خاصة في منطقة قناة السويس. وهي أكبر مستثمر على الإطلاق في ممر القناة.
وأنشأت الصين بالفعل منطقة صناعية في ممر قناة السويس، وتستضيف هذه المنطقة عددا كبيرا من المصانع والشركات الصينية التي تُصنِّعُ منتجاتها محليا وتشحنها إلى السوق العالمية، مستغلة موقع مصر الاستراتيجي كحلقة وصل بين جميع القارات.
وبصرف النظر عن الصين، يجذب ممر قناة السويس كذلك استثمارات بمليارات الدولارات من دول أخرى والتي تعمل أيضا على إنشاء مناطق صناعية خاصة بها، وتسعى للاستفادة من قرب المنطقة من موانئ التصدير، وكذلك من قرب مصر من الأسواق الدولية.
ومع ذلك كله، لا يزال يتعين علينا الانتظار لنرى ما إذا كان اهتمام المستثمرين بقناة السويس بالإجمال سوف يتراجع مع ظهور طريق تجاري جديد في الأفق.
ويُسبب هذا الاحتمال الخوف، أقله في مصر، ويُحفز على المزيد من العمل لإبقاء القناة ذات أهمية بالنسبة للتجارة الدولية.