اشتهرت الهند بكثرة دياناتها، واختار الهنود آلهتهم من ما حولهم من الظواهر الطبيعية، وصارت كل ظاهرة إلهًا، وتنوّعت في الهند الأفكار والعقائد، وكانوا أكثر ميلًا للرهبنة بهدف السيطرة على القوى الكونية والطبيعية، واعتكفوا في الغابات والكهوف لإتعاب الأجسام لترتقي الروح.
كانت الهندوسية أشهر هذه الأديان وأوسعها انتشارًا، وتتمثّل فيها تقاليد الهند وعاداتها وأخلاق شعبها وصور حياتهم، ولذا تُعد من أصعب الأديان فهمًا واستيعابًا بسبب تنوعها. وفي هذا التقرير نُقدّم موجزًا عامًا لنشأة الديانة الهندوسية، وأهم النصوص المقدسة فيها، وأبرز أفكارها، ونبحث لماذا ارتبط اسمها في السنوات الأخيرة بأعمال العنف ضد المسلمين الهنود.
«الهندوسية».. ديانة تطوّرت وكتبت عبر آلاف السنين
نشأت الهندوسية بلا مؤسس معروف أو مصدر أساسيّ يمكن الرجوع إليه للتعرف على تعاليمها وأحكامها، ما جعلها واحدةً من أصعب الديانات استيعابًا، وذلك لأنه دين تطوّر عن مجموعة من العادات والتقاليد للعديد من الأجيال المتتابعة، وأصبحت هذه التقاليد الهندوسية جزءًا من الدين يلتزمُ الأتباع بقواعده.
أما عن الأساس الذي بنيت عليه الهندوسية، فقد نشأت من عقائد الآريين الهنود بعد هجرتهم إلى شبه الجزيرة الهندية واختلاطهم بالسكان الأصليين، ولذا أصبحت الديانة خليطًا من الفلسفات والأفكار التي عرفت في الهند على فترات متباعدة من التاريخ، مع ثقافة الآريين التي انصهرت داخلها.
ويشير أحمد شلبي، المؤرخ والأكاديميّ المصري، في كتابه «مقارنة الأديان: أديان الهند كبرى»، إلى أن الهندوسية هي أسلوب حياة أكثر مما هي مجموعة عقائد، ويضيف: «تاريخها يوضِّح استيعابها لشتى المعتقدات والفرائض والسنن، وليست لها صيغٌ محددة المعالم، ولذا تشمل من العقائد ما يهبط إلى عبادة الأحجار والأشجار، وما يرتفع إلى التجريدات الفلسفية الدقيقة».
وهو خيرُ شرح لما تعنيه الديانة الهندوسية إذ لا يمكن وضعها في قالبٍ واحد، لأنها في الأساس قائمة على مجموعة من الأفكار والعقائد التي استطاعت أن تضمَّ لها أغلبية الهنود رغم اختلافاتهم. ولذا يقول عنها لويس رينو، أستاذ الأدب الهندي في جامعة «السوربون»، أنها أكثر من مجرد ديانة، بل هي أعمق وأشمل من الدين لأنها تمثل -بحسبه- المجتمع الهندي بطبقاته المختلفة.
وتتقاطع «الهندوسية» مع أساليب العيش والحياة الهندية، لأنها تخلط بين شؤون دنيوية ومقدّسة، وأنتجت مجموعة من المبادئ والاتجاهات الروحية التي تتداخل مع أسلوب الحياة وتحكمه، ولذا يصعب أن يتخلى أحدٌ عن الهندوسية، فهي بحسب رينو توجّه حياة الأفراد وتسيطر عليهم.
ويعتقد أن الهندوسية تطورت عن الأفكار الفيدية القديمة، أما «الويدا» أو «الفيدا»، فهي كلمة سنسكريتية تعني الحكمة والمعرفة، وهو اسمُ كتاب هندي مقدّس ويعد جزءًا من فلسفة الهند القديمة، ولكن حتى هذا الكتاب لا يُعرَف من كتبه، إذ كُتب وطوّر بشكل مستمر خلال فترة زمنية طويلة.
و«الويدات» عبارة عن مجموعة من النصوص والتراتيل وأناشيد الصلاة، ومن نصوص الحماية من السحر والشياطين، وتُوجد في أربع كتب دينية هي: «ريج فيدا» و«ياجور فيدا» و«ساما فيدا» و«آثارفا فيدا».
الإله في الفكر الهندوسي.. واحدٌ بثلاثة وجوه
يختلف تصوُّرُ الإله في الفكر الهندوسي عنه في الأديان الأخرى. إذ يحمل الإله الصفة ونقيضها، فعلى سبيل المثال، نجد فيه نزعة الوحدانية والتعدد في آن واحد. وأعجب الهنود بالظواهر الطبيعية وقواها، واعتقدوا أن الطبيعة يمكن أن تمنحهم من روحها الكامنة وراء كلٍّ من هذه المظاهر الطبيعية، وظنوا أن لكل ظاهرة روحًا ونفسًا، وتقربوا إليها بالعبادة والقرابين.
أما عن التوحيد فعلى الرغم من أنه بوصفه فكرة تواجدت قديمًا، فإنها لم تبرز في الفكر الهندي إلا في القرن التاسع قبل الميلاد، عندما جمع الكهنة الهنود الآلهة كلها في إله واحد، وقالوا إن العالم انبثق من ذاته، وهو «البراهما»، خالق كل شيء والأصل الأزلي الذي يستمدُ منه العالم وجوده، وعلى الرغم من أن الحواس لا تدركه إلا أن العقل يدركه.
وآمن الكهنة أن هذا الإله له ثلاث صفات، أوّلها «البراهما»، وتعني المُوجد الذي أوجد كل شيء، و«فشنو» وتعني الحافظ لما أوجد، والصفة الثالثة هي «سيفا»، أي المُهلك أو المُفني. ومن هنا دخلت فكرة التثليث في الديانة الهندوسية، فالإله له شكل تظهر فيه كل صفة، واعتبروه تثليثًا في وحدة، ووحدةً في تثليث، فالإله واحد، إلا أنه يظهر في ثلاثة أشكال: خلقٌ وحفظٌ وفناء.
الطبقات في الفكر الهندوسي
انحدرَ كهنة «البرهمية» في القرن الخامس قبل الميلاد من عرق الآريين، وهي مجموعة من الشعوب والقبائل التي سكنت أوراسيا الوسطى وهاجرت منها واستقرت في شمال غرب الهند قبل قرون، وجلبوا معهم أفكارهم وطقوسهم وممارساتهم التي امتزجت بعقائد السكان الأصليين للهند.
وآمنَ الآريون بسموّ عرقهم البشري عن الأعراق الأخرى، ومن هنا نشأت الطبقات والطوائف في المجتمع الهندي، والتي أصبحت فيما بعد جزءًا من «الديانة الهندوسية»، وارتبط «نظام الطبقات» في الفلسفة الهندية بنصٍ مقدس وردَ في مجموعة «شرائع مانو»، وترجع للقرن الرابع أو الثالث قبل الميلاد، ويرجعها البعض للقرن الثامن قبل الميلاد، وأُلّفت عندما بلغت الحضارة البرهمية ذروتها.
وفقًا لهذه الأحكام، يتكوَّن المجتمع الهندي من أربعة طبقات هي: طبقة «البراهمة»، وطبقة «الجنود»، وطبقة «التجار والزراع»، وطبقة «الخدم والعبيد»، ونشأ في الطبقات الثلاثة الأخيرة آلاف الطوائف. تكوّنت طبقة البراهمة من رجال العلم من الكهنة والقضاة والمعلمين، وكانت وظيفة الجنود حمل السلاح والدفاع عن الشعب والبلاد، وعلى التجار والزراع جمع المال من أعمالهم وصرفها على المعاهد العلمية والدينية، أما آخر طبقة من الخدم والعبيد فيخدمون الطوائف الشريفة الثلاثة العليا.
لم تكن طبقات المجتمع الهندي مفتوحةً على بعضها فكلّ طبقة لا تختلط بطبقةٍ أقل ولا تتزوج منها، ولا يمكن لأصحاب الطبقات الدنيا الارتقاء إلى طبقة أعلى في المجتمع، إذ إن هذا التقسيم قرارٌ إلهيّ، في تصوّر المجتمع الهندي قديمًا، ولكن هذا التقسيم ما زالت له آثاره حتى اليوم في المجتمع الهندي المعاصر.
يقول «نص مانو» عن خلق براهما للكائنات: «خلق البرهمي من فمه، والكاشتريا (الجندي) من ذراعه، والويشا (الأثرياء من التجار والزراع) من فخذه، والشودرا (الخدم والعبيد) من رجله، فكان لكل من هذه الطبقات منزلته على هذا النوع»، وبناءً على هذا التفكير كانت الطبقات من خلق الإله الأكبر، وبالتالي فهي أبدية ولا يمكن تغييرها، وهكذا لا يستطيع شخص أن يرتقي من طبقة إلى أخرى.
ويُسمح للرجال من الطبقات الثلاثة العليا أن يختاروا لأنفسهم زوجةً من طبقتهم أو طبقة أدنى، على أن لا تكون من طبقة «الخدم والعبيد»، وورد في «شرائع مانو» أن الرجل إن غلبه الحب وتزوج امرأة من غير الطوائف الثلاثة العليا فستهلك أسرته.
تقديم القرابين والعودة من الموت.. أهم معتقدات الهندوسية
كان القرن الخامس قبل الميلاد هو نقطة الانطلاق التي انبعث منها «الفكر الفلسفي الهندي» والتي أسسها الكهنة البرهمية في وسط شمال الهند، واحتوت أفكارهم على مجموعة من العقائد والطقوس والمفاهيم التي أسست لما نعرفه اليوم بالديانة الهندوسية، وفي السطور التالية نتناول أهمها.
·القرابين: «بها تستمر الطبيعة في عملها»
الكهنة البرهميون كانوا من العرق الآري، وكانت لديهم ديانة قديمة قائمة على مجموعة من الطقوس من بينها تقديم القرابين، وهو طقسٌ له نصوص خاصة داخل الفيدا، عبارة عن مجموعة من الشعائر والصلوات تتلى أثناء وضع القربان في النار، وانتقلت هذه الطقوس مع الكهنة من بلادهم إلى الهند، وأصبحت جزءًا من الديانة الهندوسية. وعلى الرغم من أن «القرابين» قد تبدو للوهلة الأولى طقسًا لتحقيق أهداف أُخروية في عالم الآخرة أو في عالم آخر، فإنها تُقدّم لأسبابٍ دنيوية صرفة مثل أن يستمر عمل الكون والطبيعة على أكمل وجه. وتقدّم القرابين عادةً إلى أحد عناصر الطبيعة، مثل الشمس، والمطر، والبرق، والرياح، ويطلق على ما تُقدم له القرابين اسم «ديفا»، ولا يطلبُ مُقدِّمُ القربان شيئًا من الديفا سوى أن يقوم بوظيفته الطبيعية حتى يستمر النظام الكوني. وتقدم القرابين على يد مجموعة من الكهنة المتخصصين الذين ينفذّون الطقس نيابةً عن الأشخاص، ويعقد التقريب في مكانٍ مخصص فيه نار في منتصفه، ويُلقى القربان في النار مع تلاوة بعض النصوص والأناشيد من كتاب الفيدا، والقربان عادةً عبارة عن أطعمة، مثل الحبوب المطهوة بالزيت.
·الكارما: «الجزاء من جنس العمل»
كلمة «كارما» في الأساس سنسكريتية وتعني «الجزاء»، ونظام الجزاء في الفلسفة الهندية يقوم على أن أي فعل، خيرًا كان أم شرًا، لا يمر دون جزاء، وكل أعمال البشر الاختيارية، والتي بإمكانها التأثير في الآخرين، لا تمرُّ دون ثواب أو عقاب، إذ إن نظام الكون الإلهي قائمٌ على العدل الصارم والذي يقضي بجزاء لكل عمل. وفي التصوير الهندوسي يشبهُ هذا إلى حدٍ كبير نظام الكون، فالطبيعة في عملها لا تترك كبيرة أو صغيرة تمر دون رد فعل وعواقب.
وبناءً على ذلك جاءت «الكارما» والتي تعنى بتحقيق العدل، والتي تمر في دورات لا تترك فيها كبيرة أو صغيرة من أعمال الناس بلا إحصاء، وبعد الإحصاء يأتي الحصاد، بأن ينال كلٌ جزاء أعماله في هذه الحياة. ولأن الهندوسيين لاحظوا تأخّر الكارما أحيانًا عن عملها في الحياة الواحدة، إذ من الممكن أن يموت ظالم دون أن يلقى جزاء ظلمه، فقد آمنوا بـ«تناسخ الأرواح»، والتي تتيح للفرد أن يلقى جزاء عمله في حياة قادمة.
تناسخ الأرواح: «عن مفهوم الولادة الثانية»
التناسخ هو تكرار ميلاد الفرد، فالروح تخرج من الجسد وتتجول بعد الموت وتعود مرةً أخرى إلى العالم الأرضي في جسدٍ آخر، ويرجع سبب إيمان الهندوسيين بـ«تناسخ الأرواح» إلى اعتقادهم أن الميول الإنسانية خُلقت من أجل أن تستوفى، وإن لم يستوفها الإنسان في هذه الحياة فلن ينجو من تكرار المولد لينتقل إلى حياة ثانية وثالثة ولا نهائية حتى يستوفي ميوله. ويعتمد مفهوم «تناسخ الأرواح» في الهندوسية بشكلٍ أساسي على «الرغبة أو الشهوة»، وأنّ لكل نفس أهواءً يجب أن تُشبعها وتستوفيها لتنعتق من العودة إلى الحياة في أجساد أخرى، وبذلك تتخلص الروح من تكرار المولد. وبحسب المعتقدات الهندوسية، لكلّ نفس مجموعة من الميول والأهواء ومجموعة أخرى من الديون التي عليها أن تدفع ثمنها من خلال «الكارما»، ولذا لا تنعتق النفس من تكرار المولد ما لم تدفع ديونها من جزاء عملها وتصل إلى حالة من إشباع الرغبات حتى تكتفي بذاتها، وتصبح النفس في هذه الحالة كاملةً لا رغبات لها تشبعها، ولا ديون عليها توفيها، وعندها فقط تتحرر وتتحد بالبراهما، وهو الخالق والمُوجد، وتصبح جزءًا من جسده الإلهي.
·وحدة الوجود: «الاتحاد بالبراهما»
«وحدة الوجود» في الفلسفة الهندية امتدادٌ للتأمل الكوني، إذ اهتم الهنود بالطبيعة وكيف تعمل قوى الكون، وتوصلوا من تأملاتهم إلى أن «الكون كان في البداية مجردَ وجود واحدٍ فقط دون ثانٍ»، وبالتالي لا يوجد سوى «موجود» واحد فقط، ولا يوجد ما هو مغاير لهذا «الموجود»، وآمنَ الهنود كما آمنت بعض المذاهب الصوفية بـ«وحدة الوجود»، واعتقد الهندوس أن الإنسان ما هو إلا امتدادٌ للكون، الذي يمثل امتدادًا للموجود الوحيد، «البراهما»، خالق كل ما هو موجود. وعلى سبيل المثال، نجد في كتابات «الأوبانيشاد» القديمة بعض النصوص التي تشير إلى وحدة كل ما هو موجود.
«الهندوسية».. من أكثر الديانات تسامحًا إلى الطائفية والعنف
على الرغم من أن دستور الهند اليوم ينصّ على أنها دولة علمانية ويمنع بوضوح خلط الدين بالسياسة، فإن هذا لم يمنع تسييس الهندوسية، وهذا نتيجة لظهور «الهندوسية» في إطارٍ قومي، إذ نشأت بعض الجماعات الهندوسية المتطرفة، يسمون «الهندوتفا»، أي أيديولوجية القومية الهندوسية، ودعت لتأسيس دولة قومية هندوسية. تصاعد التيار القومي في زمن الاستعمار البريطاني، متمثلًا في تأسيس المنظمة الهندوسية القومية «راشتريا سوايامسيفاك سانغ» عام 1925، واختصارها «أر إس إس» وقد ساعدت في صعود هوية طائفية هندوسية جديدة.
ولأن «الهندوسية» تختلف في نظامها عن الديانات الأخرى، وليس لها قيادة مركزية أو موحّدة كما في المسيحية مثلًا، أقامت تلك المنظمة نفسها لتصبح مُفسّرة للمعاني اللاهوتية للهندوسية، وتضم ما لا يقل عن 4 ملايين متطوّع يشاركون في تدريبات شبه عسكرية.
واعتبرت الحركة السيخية والبوذية وغير ذلك من المعتقدات الهندية جزءًا من الهندوسية، أما المسيحية والإسلام فتعاملوا معهما باعتبارهما ديانات أجنبية وافدة من الخارج، وكانت أغلب أعمال العنف التي جرت منذ اغتيال المهاتما غاندي عام 1948 وحتى يومنا هذا، ناتجة عن مناصري «الهندوتفا» في الهند.
ومن أشهر الأحداث التي شارك فيها أنصار الهندوتفا، هدم مسجد بابري عام 1992، مسجدٌ قديم أسس في القرن السادس عشر، مدَّعين أن تحته مهد الرب رام، ورام إله يُستشهد باسمه في أعمال العنف الهندوسية ضد المسلمين، وهو أحد أكثر الآلهة شعبية في الهند نظرًا لأنه بطل إحدى الملاحم الأسطورية التي انتصر فيها على خصومه للفوز بقلب الأميرة سيتا.
وعلى الرغم من أن هذه الحوادث تعد حديثة نسبيًا، فإن استخدام الديانة الهندوسية سياسيًا قديم قدم نشأتها، إذ كانت السياسة مترابطة مع الدين منذ البداية، وهذا واضحٌ في معتقدات الطبقات الاجتماعية، إذ استخدم الدين لتبرير الواقع السياسي، واستُخدم ضد سكان الهند الأصليين ودياناتهم السابقة للهندوسية، إذ استُبعدوا من نظام الطبقات الهندوسي منذ نشأته، وكانوا يعاملون معاملة سيئة ويتعرضون للاضطهاد إبان حكم الملوك الهندوس.
ومن الجدير بالذكر، أن عدد سكان شبه القارة الهندية حوالي مليار شخص، يدين 85% منهم بالديانة الهندوسية، و10% من المسلمين، و2.5% من المسيحيين، أما البقية فينتمون إلى أقليات دينية أخرى مثل السيخ والبوذية، ومن بين تلك الأغلبية الكبيرة للهندوس، توجد قطاعات كبيرة من المتعصبين والمتطرفين يقدرون بالملايين.