«جزءٌ مني يريد البقاء ولكن جزءًا آخر يريد الرحيل»، «جزء يخبرني أن أتوقف عن فعل هذه الأشياء وجزء يستمتع بفعلها»، نعيش هذا الصراع يوميًّا وكأن هناك مجموعة من الأشخاص داخلنا تُملي علينا الشيء وضده في الوقت ذاته، دون أن نجد تفسيرًا واضحًا لما يدور في عقولنا.
يحكي فيلم «Inside Out» قصة فتاة تدعى «رايلي»، تنتقل هي وعائلتها من مينيسوتا للعيش في سان فرانسيسكو، وتختبر رايلي تجربةً مؤلمةً؛ فهي تفشل في التأقلم مع بيئتها الجديدة وتشعر بالوحدة والحنين إلى حياتها السابقة، وفي هذه الاثناء يكشف الفيلم عن الصراع الداخلي الذي تعيشه رايلي بين نفسها، وبين مجموعة من الشخصيات داخل عقلها، تمثل كل شخصية عاطفة معينة «الغضب والحزن والفرح والاشمئزاز والخوف»، ومن ثم تتشابك الأحداث بين مشاعر رايلي وانعكاساتها داخل وخارج رأسها، ويبرز الفيلم العلاقة بين الشخصيات الداخلية الموجودة في العقل، وكيف يؤثر عدم التوافق بينهم في قرارات رايلي وتخبطها.
بعد رحلةٍ مضنيةٍ في عقل رايلي، نكتشف فيها كيف تتفاعل المشاعر المختلفة، وكيف تتبادل الأدوار في إدارة حياة الفتاة، تنتهى الرحلة بإعادة توزيع الأدوار مرةً أخرى، وتستطيع رايلي أن تعود لطبيعتها، لنكتشف في النهاية أن معاناة رايلي الحقيقية انتهت عندما استطاعت أن تتواصل بشكلٍ جيدٍ مع نفسها.
كلمة السر: التواصل مع الذات
يلقى فيلم «Inside Out» الضوء على فكرة التواصل الشخصي الداخلي للإنسان كيف يرتبط بنفسه، ويتفاعل معها، وكيف يختبر المشاعر المختلفة ويتفاعل مع أفكاره وتتكون شخصيته التي تبدأ في الإعلان عن نفسها عن طريق «السلوك البشري» الذي يساعدنا في فهم ذواتنا والآخرين.
حاول الدكتور ريتشارد شوارتز طبيب ومعالج أسري ومؤسس معهد «أنظمة الأسرة الداخلية» تفسير آلية عمل العقل في تواصل الإنسان مع نفسه؛ فأسس لنموذجٍ أطلق عليه «أنظمة الأسرة الداخلية (Internal Family Systems Model)» يتبنى فكرة أن العقل يتكون من مجموعة من الشخصيات الفرعية المنفصلة نسبيًّا، بوصفه منهجًا نفسيًّا يُساعد في فهم آلية تحكم هذه الشخصيات الفرعية في العقل وفي السلوك البشري، فما هي أنظمة الأسرة الداخلية؟
أنظمة الأسرة الداخلية.. غرباء في عقلك
أنظمة الأسرة الداخلية (IFS) هي أحد أنظمة العلاج النفسي التي جرى ابتكارها من قبل المعالج الأسري دكتور ريتشارد شوارتز، وتُشير أنظمة الأسرة الداخلية وفقًا لموقع «فيري ويل مايند» الطبي، إلى أن الأنظمة العقلية للبشر تتكون من مجموعة من الشخصيات الفرعية، تمثل الذكريات والعواطف المختلفة بالإضافة إلى صدمات الطفولة المبكرة وتشبه فيما بينها النظام العائلي.
إذ تتفاعل هذه الشخصيات بعدة طرق مختلفة ومتغيرة بحسب الأحداث والتجارب والخبرات المختلفة التي يمر بها الإنسان حتى تحافظ على «الذات» التي تمثل مركز الوعي لدى الإنسان، ويتم تقسيم هذه الشخصيات الى فئتين عريضتين: واحدة تمثل العواطف والأفكار المؤلمة «الجزء الضعيف»، وفئة تعمل على حماية الأجزاء الضعيفة والنجاة منها «الأجزاء الوقائية».
وتكمن المشكلة عندما تتعارض رغبات هذه الشخصيات مع بعضها بعضًا ومع الذات، وذلك بعد أن تختبر تجارب ومواقف معينة فيحدث خلل في النظام الداخلي، وبالعودة لفيلم «Inside Out»، فإن التجارب والخبرات المختلفة التي نمر بها، والتي تشكل قدرتنا الداخلية على التعاطي مع الواقع بمرونةٍ في أوقات الأزمات على شكل جُزرٍ في عقل رايلي تُمثل كل جزيرة تجربة إنسانية شكلت وعي رايلي وأثرت في طريقة رؤيتها للعالم تمامًا كما في «أنظمة الأسرة الداخلية» إذ يشير نظام الأسرة الداخلية إلى أن جوهر الشخصية مبني على الخبرات الإنسانية التي تمر بها.
مديرون ومنفيون ورجال إطفاء! هؤلاء مَن يتحكمون بك
يسعى شوارتز في نموذج «أنظمة الأسرة الداخلية» إلى فهم الشخصيات الداخلية الموجودة في العقل، وكيفية تفاعلها مع بعضها بعضًا، تلك المهمة التي سبقه إليها سيجموند فرويد في نظريته الشهيرة «التحليل النفسي»، والتي يشير فيها إلى أن النفس البشرية تتكون من ثلاثة عناصر وهي «الهوية والأنا والأنا العليا»، والتي تتفاعل مع بعضها وتُشكل السلوك البشري.
يفترض شوارتز أن كل شخصية داخلية لها خصائصها وتصوراتها الخاصة التي تلعب كلٌّ منها دورًا مهمًا في الحفاظ على الذات؛ وقد قسم شوارتز الشخصيات الفرعية في نموذج «أنظمة الأسرة الداخلية» إلى:
1- المديرون.. رعاة الوعي البشري
ويطلق عليهم أيضًا «الحماة» أو «مقدمي الرعاية»، وهم الشخصيات الفرعية المسئولة عن الحفاظ على المستوى الوظيفي من الوعي، عبر حمايتنا من أي تجارب سيئة أو مشاعر ضارة مثل الرفض والأذى والتنمر والفشل.
2- المنفيون.. مشاعرنا السلبية المخفية تحت الركام
يمثل المنفيون الأجزاء المجروحة بداخلنا بفعل التجارب الصادمة التي تعرضنا لها، وواجهناها بمفردنا دون دعمٍ أو مساعدة، وتظل هذه الشخصيات تحت سيطرة المديرون بعيدة عن باقي أجزاء نموذج «أنظمة الأسرة الداخلية» في اللاوعي، حتى يتم الحفاظ على سلامة الذات؛ لكنها تظهر من وقتٍ لآخر في صورة ألمٍ وخجلٍ وخوفٍ ووحدةٍ.
3- رجال الإطفاء.. حائط الصد أمام «المنفيين»
هؤلاء هم حائط الصد أمام التجارب المؤلمة أو «المنفيين»، الذين يخرجون من اللاوعي إلى الوعي فنتذكرهم ونشعر بالسوء، هنا يقوم رجال الإطفاء بتشتيت العقل لحماية الوعي منهم، ومن استحضارنا لهذه التجربة المؤلمة عن طريق دفعنا إلى الانخراط في بعض السلوكيات الاندفاعية مثل الجنس أو إدمان العمل أو الطعام أو المخدرات أو حتى إيذاء النفس.
يحدث الخلل النفسي عادةً عندما تتداخل الأدوار بين الشخصيات الثلاثة، ويسعى كل منهم إلى فرض سيطرته على الآخر، الأمر الذي ظهر جليًا في فيلم «Inside Out»، عندما حاولت «جوي» السيطرة على بقية مشاعر رايلي، والتحكم بها، الأمر الذي يؤدي إلى عواقب وخيمة.
لكن.. كيف يساعدنا نموذج «أنظمة الأسرة الداخلية» في فهم الذات؟
يُعد الهدف الأساسي من استخدام أنظمة الأسرة الداخلية بوصفه منهجًا علاجيًّا، هو إحداث التناغم بين أجزاء العقل المختلفة «المديرون والمنفيون ورجال الإطفاء» من أجل حماية الذات (الوعي)، والتي تُعد جوهر كل شخص، ويُوضح ريتشارد شوارتز في دراسةٍ أجراها بالتعاون مع باحثين آخرين بعنوان «استخدام نموذج أنظمة الأسرة المتعددة لعلاج اضطراب ما بعد الصدمة بين الناجين من صدمات الطفولة المتعددة: دراسة تجريبية»؛ آلية عمل برنامج أنظمة الأسرة الداخلية في عدة نقاط منها ما يلي:
1- فهم الذات.. اترك كل فردٍ في داخلك يؤدي دوره
يسعى نموذج «أنظمة الأسرة الداخلية» إلى دعم الشخصيات الثلاثة «المديرين ورجال الإطفاء والمنفيون» والتي تشكل العالم الداخلي للأشخاص عن طريق مساعدة كل شخصية من الشخصيات الثلاثة في أداء دورها للوصول إلى هدف نهائي وهو «فهم الذات»، وإنشاء نظامٍ داخلي موثوق به وصحي ومتناغم يتم تنسيقه بواسطة الذات.
2- التعاطف مع الذات.. إياك ولوم نفسك
يركز نموذج «أنظمة الأسرة الداخلية» على تعزيز بيئة داخلية آمنه، قادرة على معالجة الأحداث والذكريات المؤلمة، وتحمل الصدمات وتعزيز الشفاء، وأن أهم آلية لتحقيق هذا الهدف هي «تحقيق التعاطف مع الذات»؛ إذ كشفت الدراسة أن غالبية الأشخاص الناجين يظهرون درجة عالية من لوم الذات، وأن مساعدتهم على التعاطف مع أنفسهم قللت إلى حدٍّ كبيرٍ معدلاتِ إصابتهم بالاكتئاب والقلق والتوتر.
3- زيادة الوعي الداخلي.. كن على تواصل مع ذاتك
يحفز العلاج بأنظمة الأسرة الداخلية قدرة الأفراد على ممارسة المراقبة الواعية للذات، والاتصال بالأحاسيس الجسدية من أجل زيادة الوعي لتحمُّل المشاعر والتجارب السيئة.
4- التصالح مع ندبات الماضي.. دع هذا الألم يمر
يساعد نموذج أنظمة الاسرة الداخلية في معالجة وإعادة صياغة التشوهات المعرفية، التي ترتبط عادةً بتجارب الطفولة المبكرة الصادمة بطريقةٍ صحيةٍ تخفف من الشعور باللوم وجلد الذات
في النهاية يبقى أن نُشير إلى أن نموذج «أنظمة الأسرة الداخلية» يقول إن كل شخص لديه قدرة داخلية متأصلة على الشفاء تساعده على التعايش بطريقةٍ صحيةٍ، وفقًا لموقع «جود ثيربي» المعني بالصحة النفسية، إذ يستخدم نموذج «أنظمة الأسرة الداخلية» لعلاج مجموعة واسعة من حالات الصحة العقلية، والجروح النفسية مثل الرهاب والذعر والقلق العام والاكتئاب وبعض الأمراض الجسدية والسلوكيات القهرية.