تخطي إلى المحتوى
مرجع أوكسفورد في سوسيولوجيا الدين: نافذة جديدة على دراسة التدين اليومي مرجع أوكسفورد في سوسيولوجيا الدين: نافذة جديدة على دراسة التدين اليومي > مرجع أوكسفورد في سوسيولوجيا الدين: نافذة جديدة على دراسة التدين اليومي

مرجع أوكسفورد في سوسيولوجيا الدين: نافذة جديدة على دراسة التدين اليومي

يمكن القول إنه في العقود الماضية، وبالأخص بعيد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، انحازت معظم الدراسات والكتب لقراءة الإسلام اليومي من خلال بعض الزوايا المحددة مثل: دراسة الحركات الاسلامية، والجهاديون في المقام الأول، و تدين الشباب، وفي الدرجة الأخيرة رجال الدين، أو الإسلام التقليدي. وعلى الرغم من أن هناك من حاول من الباحثين العرب تجاوز هذه الأطر التقليدية في دراسة التدين، إلا أنه بحكم ما شهدته المنطقة العربية والعالم من تطورات، وبالأخص بعد مرحلة الانتفاضات العربية، لم تسمح الأجواء بإطلاق أسئلة جديدة في تتبع الديني واليومي. ولذلك تأتي ترجمة كتاب «المرجع في سوسيولوجيا الدين» الصادر بجزئين عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ترجمة ربيع وهبة، ليسد فراغا على الصعيد المعرفي العربي وعلاقته بدراسات الدين والتدين. إذ يحمل المرجع عشرات المقالات التي تعرف بالمقاربات الجديدة في حقل دراسة الدين والتدين، وهي مقاربات لم تحظ ربما بالاهتمام الكافي في عالمنا العربي، في ظل كما ذكرنا انشغال المنطقة بدراسة الجهاديين والتسلف، وأيضا في ظل غياب مراكز بحثية تعنى بجمع إحصائيات حول الإسلام اليومي وظواهره. كما أن الكتاب يظهر للباحث والقارئ العربي بأن أي تتبع للتدين اليومي في العالم العربي، لم يعد ممكنا بمعزل عما يجري من تحولات داخل الساحات الدينية في باقي أنحاء العالم (من بكين إلى الولايات المتحدة الأمريكية). إذ تعيش هذه الساحات أيضا أسئلة جديدة تتعلق بعودة الروحاني، ومحاولة الاستفادة من الفكر الديني والأخلاقي في قضايا تتعلق بالبيئة والجريمة والجنس، بالإضافة إلى أن الباحثين في التدين والأخلاقيات في العالم مشغولون بأسئلة شبيهة باسئلتنا، ولذلك فإن أي حديث عن الإسلام أو الفكر الإسلامي المعاصر في المنطقة العربية، لم يعد ممكنا دون مقارنته بتجارب دول مسلمة وغير مسلمة في إندونيسيا وماليزيا وباكستان والهند والبلقان. فعلى امتداد عقود ربما، ظل المثقف العربي المعاصر بعيدا عن النقاشات التي تجري حول الدين واليومي في بلدان مسلمة أخرى، إن لم نقل إن معرفته بالإسلام اليومي في تلك البلدان ضعيفة.

مرجع أكسفورد للدين

يرى القائمون على المرجع أنه في العقود الماضية حاولت العلمانية القول إن الدين راكد، ما جعل قسما كبيرا من الباحثين لا يتنبهون لفكرة قدرة الدين على إعادة تعريف نفسه، والتآلف مع أشكال أخرى كثيرة من الحياة، مع قدرته في الوقت نفسه على استعادة تميزه وحفظ هويته، ولذلك يعتقد المشاركون في المرجع أن عامل المقدس لا يعد مجرد أمر بدائي أو مجرد أمر عفى عليه الزمن من القرن التاسع عشر، بل هو يواصل احتلاله مثلما هو الحال في الصراعات على الاستقلال العرقي والوطني، والولاء للقبائل والطوائف، وفي قضايا حقوق الإنسان والحروب الداخلية على أشياء مثل حرمة الأجنة البشرية، والزواج، والتصنفيات التقليدية القائمة على التمييز بين الجنسين.
يقف أول فصول الكتاب عند فكرة المهرجانات والاحتفالات الدورية، ويرى أن هذه الاحتفالات ما تزال تحتفظ بوظيفة حافظة تكاملية ذاكرية، وهي تشكل بحد ذاتها بنية أساسية لمعظم الأنظمة الدينية. ويمكن أن نجد عامل الجيشان، إما من خلال الجماعة الدينية لطقوس، مصممة رقصاتها بتواتر، بحيث تخلق نشوة انفعالية في صور تعبر عن انخراط شخصي، أو في فترات مميزة، مثل شهر رمضان، حيث العروض الاجتماعية القوية للمشاهدات غير المعتادة تكثف الدافعية والالتزام الجماعي.

من زاوية أخرى، يناقش الكتاب فكرة سوسيولوجيا الدين لدى ماكس فيبر، وبالأخص أطروحته حول الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية، ففي السنوات الأخيرة، حاول العديد من الباحثين السير وراء فيبر، من خلال الحديث عن خلق إسلام سوق، أو إسلام ليبرالي (تركيا مثلا) كمدخل للإصلاح والتغيير في المنطقة. كما أن هناك من حاول دراسة دور الهندوسية كمفتاح لتخلف الهند، أو الكونفوشوسية كمفتاح لنجاح تايوان وكوريا الجنوبية واليابان، لكن المشاركين في الكتاب يرون أن هذه الرؤية الفيبرية لم تعد دقيقة بالضرورة، انطلاقاً من أن فيبر لم يتحدث عن الأخلاق البروتستنانية كشرط واحد فقط للتقدم، بل وضعها ضمن شروط، وبالتالي لا يكفي الحديث عن تسامح مذهب، أو دين معين، مع بعض القواعد التجارية للقول إن هذا الشرط كاف لحصول التقدم.

الهجرة والدين

وسيلاحظ القارئ للمرجع، أن المجلد الأول تقريبا قد اهتم بمراجعة نظريات فيبر ودوركهايم للدين، في حين خصص المجلد الثاني لمقاربات جديدة حول الحقل الديني، ودعوة الباحثين للخوض فيها، كما في مثال الفصل الخاص بتدين المهاجرين، وهو موضوع ربما بات يمس العالم العربي كثيرا في السنوات الماضية، في ظل موجة الهجرات التي عاشها العرب، والتي خلقت أسئلة جديدة حول علاقة الإسلام بثقافة المجتمعات المهاجر لها. يعتقد أحد المشاركين في المرجع، أن المهاجرين يستخدمون ديانتهم ليس باعتبارها وسيلة للتكيف مع المحيطات الجديدة فحسب، بل أيضا كوسيلة لتمييز أنفسهم عن هذه المحيطات من خلال التشبث بما يفهمونا على أنه جوهر دينهم. فهم يتجمعون عادة حول خصائص دينية ولغوية وإقليمية مشتركة، ويؤسسون مجتمعاتهم الدينية والثقافية الخاصة بهم، وغالبا ما تكون المنظمات الدينية هي أول روابط أو جمعيات يؤسسها المهاجرون. ولذلك يمنح الدين أو الالتزام الديني المهاجرين هويات منزوعة الصفات الإقليمية في بعض النواحي، أو حتى هويات فوق الإقليمية، يمكنها تقليل أثر التشرد والإحساس بالغربة والعنصرية والإحباط المرتبط بترك المنشأ. وهذا يفسر ما تم رصده من تحول المهاجرين إلى مزيد من التدين عند الهجرة، فقد رصد أن المهاجرين الصوماليين على سبيل المثال، في بريطانيا وكندا، يجمعون بين التوافق مع الغرب وصور أقوى من التوحد مع الإسلام. وبهذا يمكن لدين المهاجرين أن يصبح وسيلة للتعبير عن حنينهم لطريقة حياتهم قبل الهجرة، ما يجعل الدين بديلا عن الوطن، ومشاعر الارتباط بمنطقة المنشأ، التي يعبر عنها جوهريا في أشكال التدين، وقد تستمر على مدى تاريخ الهجرة الممتد عبر قرون. ويشكل الحفاظ على المعتقدات والممارسات الدينية أو تأكيدها عند الهجرة استراتيجة مهمة قد يستخدمها المهاجرون للوصول إلى الموارد الثقافية، أو الاجتماعية أو السياسية المتضمنة في علاقاتهم مع أنصار الدين نفسه، سواء أكانوا مقيمين في المكان نفسه، أو في مكان آخر.
مع ذلك، فعندما تتعارض المعتقدات والممارسات الدينية بشدة مع المشاعر، أو القوانين الأخلاقية في مكان الإقامة الجديد، يصبح المهاجرون تحت ضغط الرغبة في التخلص من العناصر المسيئة، التي تمثل انتهاكات لمعتقداتهم. ويمكن للمهاجرين حل مثل هذا الصراع في الولاءات عبر تطوير تفسيرات جديدة حول سبب تغير بعض بنود المعتقدات والممارسات الدينية، بما يتيح لهم الحفاظ على دينهم والمحافظة على العناصر الدينية الجوهرية التي يتقاسمونها مع مشاركي دينهم القاطنين في أماكن أخرى.

الدين والتلفزيون

ظل الدين لمدة طويلة سمة من سمات البث الأمريكي، وكانت البرامج الدينية من بين أولى البرامج التي ظهرت في الأيام الأولى للمذياع، وعلى مدار القرن العشرين، أصبح مجاز «الواعظ الاذاعي» ملمحا معياريا للثقافية الأمريكية. ومع ظهور التلفزيون التجاري في الخمسينيات، نزح الدين أيضا إليه، ونشرت آنذاك أول دراسة بارزة عن الدين والإعلام الإلكتروني، غير أن العلاقة بين الإعلام الرسمي السائد والدين، ظلت تمثل إشكالية ومثار خلاف بعض الشيء، إلى أن اصاب هذه العلاقة تغيرا تاما إبان السبعينيات، أفضى إلى تفجر الانتباه إلى الدين والإعلام، لكن هذا الانفجار لن يكون لمرة واحدة، فبعد الاهتمام بدور وسائل الإعلام في نشر الخطاب الديني، انتقل العمل المعاصر حول الإعلام والدين إلى ما وراء مسائل الدور الذي قد يؤديه الإعلام و»التوسط الإعلامي» في صميم البناء، أو إعادة البناء أو الصيانة أو تراجع عدد من الممارسات المؤسسة والجماعية والفردية والتفاعلية. فهو ينظر في فكرة أن العالم الرقمي قد يشكل الأساس لطرائق جديدة كاملة لكيان الدين وممارسته.

القرابة والدين

ولعل من أمتع الفصول وأغناها هو الفصل الخاص بعلاقة الأسرة بالدين. ففي دراسات اعدت في الولايات المتحدة حاولت تتبع الإيمان داخل ثلاثة أجيال، وما الذي يحافظ على الاستمرارية الدينية عبر الأجيال، إنها سلطت الضوء على أن الجيل الثالث، الذي عادة ما ينظر إليه على أنه يمتلك أدوات أخرى للحصول على المعرفة الدينية، ما يعني عدم اهتمامه بالمعرفة الدينية الأسرية، ما يزال يتأثر بالتوجيهات الأسرية، ما يعني أن دور العوائل والمؤسسات التقليدية لم ينهر بعد. وهذه النتيجة لا تقطع فقط مع فكرة الانقطاع بين جيل الآباء والابناء، بل أيضا تقطع مع فكرة السوق الديني التي طرحها اوليفيه روا قبل سنوات، والتي اعتقدت أن وسائل التواصل الاجتماعي قد باتت هي المهيمنة في صناعة وتكوين المعرفة الدينية لدى الأجيال الجديدة، بينما يكشف عدد من الدراسات السوسيولوجية الحديثة، أن الأسرة ما تزال تلعب دوراً أساسيا في خلق التوجهات الدينية لدى الأجيال الشابة.

المصدر: 
القدس العربي