رحلتي في موريتانيا دامت نحو تسعة أيام، بدأت من نواكشوط وانتهت منها، عاصمة البلاد التي كانت أشبه ببلدة حتى أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، ثم نمت بشكل مضطرد بعد الاستقلال عام 1960، هي اليوم أكبر مدن موريتانيا وإحدى أهم مدن منطقة الساحل الأفريقي،
لم يكن يسيراً تدبّرُ أمر دخولي إلى موريتانيا، فبعد اتصالٍ بالسفارة الموريتانية في لندن، وحصولي على معلومة خاطئة مفادها أنني كسوري لا أحتاج إلى تأشيرة دخول، لم تكد تمر أيام حتى عرفْتُ، متأخراً، إذ كنت حجزت تذكرة الطائرة، أنني كسوري أحتاج إلى ما هو أصعب وأعقد بما لا يقاس من تأشيرةٍ دخول، ألا وهو موافقة أمنية ليس يسيراً تدبّرُ أمرها.
لجأت إلى زميلين موريتانيين في التلفزيون العربي حيث كنت أعمل، أحدهما عبدالله ولد سيديا زميلنا في لندن، والآخر هو محمد عبد الله ممين، مراسل المحطة في نواكشوط، والذي لم يسبق أن التقيته أو تواصلت معه أبداً. أظهر ممين من النخوة والدماثة حدّاً ليس للتنسيق مع ولد سيديا وحسب، ولكن وصل به الأمر الى أن يصطحب عضوين في البرلمان ووزيراً سابقاً في زيارة إلى الأمن الموريتاني، لاستصدار هذه الموافقة، التي تأخرت إلى ما قبل موعد طائرتي بأربع وعشرين ساعة لا أكثر.
في المطار، كان كافياً إبراز الموافقة الممهورة بتوقيع محمد ولد مكت، المدير العام للأمن الوطني، والموصوف من زميل العمل الموريتاني بأنه الرجل الثاني في البلاد. أما رجلها الأول آنذاك محمد ولد عبد العزيز، فكانت صورته تزيّن لافتات تغزو شوارع العاصمة وتحمل شعار “الشعب يريد مأمورية ثالثة”، وإن كان الشعار استعان بالنصف الأول من إحدى أبرز صيحات الانتفاضات العربية: “الشعب يريد”، فإن هذا الاستعانة إنما أتت في سياق مضاد تماماً لمطلب التغيير الذي نادت به الثورات، ولكن سعياً الى التجديد لدورة رئاسية ثالثة لولد عبد العزيز، بما يخالف الدستور الموريتاني الذي يجيز للرئيس ولايتين كحد أقصى.
نواكشوط… ليه؟
الرحلة التي دامت نحو تسعة أيام، بدأت من نواكشوط وانتهت منها ومرت بها. عاصمة البلاد التي كانت أشبه ببلدة حتى أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، ثم نمت بشكل مضطرد بعد الاستقلال عام 1960، هي اليوم أكبر مدن موريتانيا وإحدى أهم مدن منطقة الساحل الأفريقي، لكنها ليست مقصداً رئيسياً لزوار هذا البلد الأطلسي، إذ تُفضُّل عليها وجهات أخرى، وإن كان المرور منها واجباً في أحيان كثيرة للانطلاق إلى نقاط قصية.
في العاصمة الفقيرة ببناها التحتية، سأبدأ رحلتي، منطلقاً من مقر إقامة بسيط ونادر وجدته عبر موقع Airbnb، بجولة في السوق الكبير- Marche Capitale. يشبه السوق المهترئ أسواقاً أفريقية أخرى، وتتنوع فيه البضائع وتتعدد، بعضها تعرضه محلات ومخازن، وغالبيتها على عربات أو أرصفة يفترشها باعة جوالون، من بعض أنواع الخضار والفاكهة، إلى الملابس التقليدية والأحذية والكتب والأجهزة الإلكترونية الصغيرة، مروراً بالكثير من الأشياء المستعملة، والتي كانت في حالة لا تجعلها صالحة للاستعمال مرة أخرى. في السوق الذي لم يرحب مرتادوه كثيراً بعدسة الكاميرا، يمكن تمييز ملامح من نفوذ تركي بدا طارئاً على المكان، من أهمها محلات بيع الملابس التي حمل بعضها أسماء تدل على بلد المنشأ: تركيا بوتيك، اسطنبول.. الخ، بينما سأمرّ لاحقاً ببوتيك أردوغان في حي آخر بالعاصمة.
أما أبرز مناطق نواكشوط وأجملها، فهي بلا منازع، ميناء الصيد التقليدي. بلغته بسيارة أجرة حاول سائقها الاحتيال عليّ مستغلاً سوء الفهم الناتج من عملية حذف صفر من العملة المحلية قبل أيام من وصولي. الميناء الصاخب المكتظ بقوارب خشبية ملونة بديعة، يعطي فكرة عن الثروة السمكية الهائلة التي تتمتع بها البلاد، إذ كان بعض الأطفال يلتقطون رزقهم عبر جمع السمك المتساقط من قوارب الصيد متوسطة الحجم خلال نقل العمال والصيادين للشباك الكبيرة الطافحة نحو الشاطئ، والسمك المتساقط لوحده يكفي لأن يعود كل طفل بسلة أو كيس يحتوي على كيلوغرامات عدة من الأسماك، هذا بينما تنافس النوارسُ الأطفالَ على هذا الفيض الاستثنائي. لكن هذا “الجمال” لا يخفي أبداً بؤس أحوال العمال والصيادين والباعة الجوالين والفضوليين الناشطين في المكان. وفي نواذيبو لاحقاً، سأرى سفن صيد حديثة ضخمة قبالة شواطئها، قيل لي إن معظمها تركي.
قبيل سفري، كنت تواصلت مع شاب سوري مقيم في نواكشوط، هو صديق مشترك لأصدقاء افتراضيين وواقعيين، وبعيد وصولي عرفت أن طبيب الأسنان حسام عريان إنما هو سوري الأبوين موريتاني المولد والنشأة والمعيشة باستثناء فترة دراسته الجامعية الوجيزة في حلب، يحمل جنسيتي البلدين ويرتدي عموماً الدراعة الموريتانية، ويتكلم باللهجة الحسانية الدارجة كأحد أبناء البلد. عرّفني حسام كذلك على خاله حيان، والأخير بدا شخصية روائية، حدّثني خلال أمسية في مطعم تافاريت الذي يملكه ويديره عن قدومه إلى البلد شاباً صغيراً في ثمانينيات القرن الماضي من دون تخطيط محكم وغاية واضحة. أخبرني كذلك عن “أيام ذهبية” خلال عمله لسنوات كدليل سياحي لأفواج من السواح الغربيين اعتادوا أن يتجولوا في البلاد بالتزامن مع رالي باريس دكار الشهير، قبل أن تتلقى صناعة السياحة ضربة هائلة إثر هجوم إرهابي عام 2007 أودى بحياة أربعة فرنسيين قرب بلدة آلاك الصحرواية، وتقرَّرَ بعد الحادثة تغيير مسار الرالي نحو أميركا الجنوبية خشية هجمات مماثلة قد تشنها تنظيمات جهادية مرتبطة بتنظيم القاعدة.
الشرق هو الشرق…
مزوّداً بذخيرة نصائح من حيان، انطلقت باتجاه مدينة أطار شرقيّ البلاد، أكثر من ست ساعات أمضيتها في رحلة مرهقة بالحافلة لبلوغ المدينة التي تبعد من نواكشوط نحو 435 كيلومتراً. توقفت قبيل الوصول في واحة ترجيت، التي تقول لافتة فيها حرفياً إنها “ترحب بروادها راجية منهم الالتزام بالحشمة نظراً الى جمهورها ومراعاتها تقاليد الشعب الموريتاني وثقافته”. الواحة التي تشرف عليها أسرة تتوارثها منذ أجيال، تغذيها ينابيع صحراوية وتتوسط مجموعة هضاب صخرية، فتبدو هذه المرتفعات وكأنها تحتضن مئات النخلات المقيمة في ترجيت.
بعد شرب كأس من الشاي الموريتاني المعروف بالآتاي، والذي قدمته لي أمٌّ وابنتاها سعياً الى إقناعي بالنزول ليلة في إقامتهن البسيطة قرب الواحة، واصلت طريقي نحو أطار. وعندما بلغتها تلقفني شاب ودود في أواخر العشرينيات من عمره، أدرك من وقفتي ونظراتي الحائرة أنني لا أعرف إلى أين سأذهب تالياً. عليٌّ ولد الشيخ (واسمه هكذا للمناسبة، مع شدة وتنوين على حرف الياء بحيث يلفظ: علييون) أوضح لي أنه دليل سياحي ينتظر أحياناً في المكان الذي ينزل به ركاب الحافلات القليلة الآتية من العاصمة بحثاً عن سائح تائه مثلي. قادني عليٌّ إلى نُزل تديره شابة فرنسية وأمّن لي سيارة رباعية الدفع مع سائق متخصص عارف بمسالك الصحراء كي يقودني في رحلة إلى مدينتي شنقيط ووادان المجاورتين في اليوم التالي، بعد مفاوضات شاقة رست على مقابل مادي هو 150 دولاراً أميركياً، أكد لي كثيرون في ما بعد أنها صفقة رابحة بكل المقاييس بالنظر إلى أسعار البنزين والأجور المألوفة عادة لمثل هذه الرحلات الصحرواية وهذا النوع من السيارات.
موريتانيا… 10 تواريخ أساسية من العصر الحديث
صباح اليوم التالي، كانت السيارة تشقّ رمال الصحراء راسمةً طريقها وسط الكثبان أحياناً، بينما تلوح في الأفق حيناً وتختفي حيناً آخر قوافل جمال وشجيرات شوكية وحمير ورعاة ماعز.
بلغنا شنقيط، المدينة التي عُرفت المنطقة باسمها لقرون طوال، أي “بلاد شنقيط”، والتي توصف محلياً بأنها سابع أقدس مدينة في الإسلام. بدت المدينة بأبنيتها الحجرية القديمة وعمارتها المتقشفة وأزقتها الرملية، قادمة فعلاً من عمق التاريخ، حيث لعبت يوماً ما أدواراً بارزة على طرق القوافل التجارية، عدا عن أدوار اجتماعية ودينية أخرى في فترات متباعدة. وإن كان مسجد المدينة القديم هو أبرز المعالم فيها، فإن شهرة شنقيط مستمدة من مكتباتها التي تضم مخطوطات دينية وعلمية وأدبية تتوارثها العائلات عبر الأجيال.
وفي واحدة من هذه المكتبات الأهلية، قادني سيف الإسلام أحمد محمود في جولة عَرَضَ لي فيها نماذج من الأدوات الأثرية والمحلية، بما يشمل المِحقان، وهي أداة كانت تُستخدم ضمن عادة محلية تعرف باسم “لبلوح” أو “التبليح”، وذلك لإجبار الفتيات على شرب الحليب وتناول النشويات والدهون بهدف تسمينهن، إذ تحظى المرأة الممتلئة بالتقدير والإعجاب مجتمعياً، ولطالما أثارت هذه العادة انتقادات منظمات حقوقية ونسوية قبل أن تبدأ بالاندثار رويداً رويداً. كما عرض لي سيف الإسلام جانباً من المخطوطات المحفوظة في مؤسسة أسرته بوسائل بدائية وضمن ظروف مناخية قاسية، وختم العرض السريع برسالة وجهها لجميع العرب والمسلمين “ألا هبّوا لشنقيط، هذا تراث يضيع، هذه ثقافة نُسيت وطويت، فهل من مجير؟”.
في الطريق بين شنقيط ووادان، عبرنا بمحظرة قرية الرقيوية حيث سُقينا بعضاً من حليب الماعز، والمحظرة هي مؤسسة تعليمية تقليدية لتعليم اللغة العربية والقرآن والشعر والفقه تشبه إلى حد ما كتاتيب المشرق العربي، وهي منتشرة إلى اليوم في كل مكان، من البوادي والصحاري إلى القرى وأطراف المدن ومراكزها، ولا تزال الألواح الخشبية والمحابر وسائل رائجة الاستخدام فيها. لكن لا بد من الإشارة إلى أن جهات حقوقية تتحدث عن انتهاكات متعددة يتعرض لها الأطفال في بعض هذه المحاظر.
وكمثل شنقيط، بدت وادان العتيقة هي الأخرى قادمة من تاريخ غابر بمجرد أن لاحت مدينتها القديمة وأطلالها قبل بلوغها. تجولت فيها وحيداً لدقائق قبل أن يعثر علي شاب من أبناء المنطقة ويطوف بي على بعض أبرز المعالم وسط الآثار والخرائب مقابل بضع أوقيات موريتانية، بينما كانت حيوانات المرموط تنسل إلى أوكارها بمجرد إحساسها بحركتنا.
يُقال إن أصل تسمية المدينة يعود إلى وجود واديين فيها، واد علمٍ وواد تمر. لكن رواية أخرى تذهب إلى أن الكلمة بالأصل بربرية ومعناها التقريبي “ملجأ الوحوش البرية”. أما أشهر معالمها فهو طريق يطلق عليه اسم “شارع الأربعين عالماً”، ويصل بين المسجد العتيق غير المستخدم والمحتاج إلى ترميم مُلِح والمسجد الجديد، محتضناً في ما بين المسجدين منازل قديمة وأضرحة ومكتبات تراثية. وفي الأزقة، جلست بضع نسوة يبعن أشياء تراثية وعملات قديمة ومصنوعات يدوية لسياح غير موجودين.
غادرنا وادان بعدما دعانا صاحب فندق صغير في المدينة لتناول وجبة غداء في مضافته، ووجبة الأرز مع لحم الجمل المفروم لم تكن الأولى ضمن مآكل ومشارب ودعوات بالغة الكرم حظيت بها خلال تجوالي في موريتانيا (كنت الوحيد بين الجالسين الأربعة على الأرض، الذي استخدم ملعقة غُسلت لي على عجل بينما فضّل أهل البلد استخدام أيديهم جرياً على عادتهم).
بعد تفكير مليٍّ، ولأسباب مادية ولوجستية، قررتُ ألا أواصل الرحلة شمالاً باتجاه منجم الزويرات، حيث كان من الممكن أن أستقل أبطأَ وأطولَ وأثقلَ قطار في العالم، في رحلة يومية تطول عشرين ساعة تقريباً، وتنقل خلالها 250 عربة ممتدة لنحو كيلومترين ونصف الكيلومتر، خام الحديد من المنجم باتجاه ميناء التصدير في نواذيبو، وقفلت بدلاً من ذلك عائداً إلى نواكشوط.
نواكشوط كمان وكمان
في توقّفي الثاني بالعاصمة، كانت تجربتي الاجتماعية أكثر غنىً، إذ نزلت لدى الزميل محمد عبدالله ممين، وتعرفت على ملامح من حياة أسرة موريتانية تنتمي إلى الطبقة الوسطى العليا، فممين صحافي ومراسل سبق له العمل مع عدد من وسائل الإعلام العربية البارزة في أكثر من دولة، وزوجته فطمة طبيبة ناجحة تنحدر من عائلة سياسية. (بالإمكان استشفاف ملامح من أوضاع الأحياء الطرفية والأكثر فقراً من رواية دحان لمحمد ولد محمد سالم).
وبالإضافة إلى نهار هادئ أمضيته مع هذه الأسرة الموريتانية الكريمة على شاطئ البحر في منطقة قريبة من نواكشوط، فإن ممين اصطحبني كذلك إلى أمسية لا تنسى في منزل واحدة من أشهر مطربات بلاده لبابة بنت الميداح، وهي إن غنّت وعزفت بثقة، لوحدها أو برفقة ابنتها بثينة، مرتدية لباساً تقليدياً ملوناً من الذي ترتديه الموريتانيات، وقد يكشف الساعدين وجزءاً من الشعر أحياناً، فإنني نُبّهت بصرامة إلى أن مصافحة النساء هنا أمر غير مستحسن.
وفي منزل بنت الميداح تعرفت على قصة سوريّةٍ بدت هي الأخرى استثنائية، فزوج الفنانة الموريتانية ما هو إلّا موسيقي من حلب اسمه عماد الدين الدبش، كان أوفد منذ عقود لتدريس الموسيقى في إطار التعاون الثقافي بين البلدين، قبل أن تقوده الأقدار الى الزواج والاستقرار بشكل نهائي. حكى لي الدبش بعضاً من ذكرياته، منها قراره شبه الاعتباطي بالمجيء إلى موريتانيا بدلاً من دولة شرق أوروبية لأنه فضّل أن يذهب إلى بلد مسلم، ومنها كذلك ذكرياته عن دهشاته الأولى بعيد وصوله، وكيف كانت الأمانات والرسائل تُترك على قارعة الطرقات ليأتي أصحابها ويأخذوها بعد أيام.
تجربة أخرى كان لمضيفي محمد ممين الفضل بخوضها، وهي شرب حليب النوق الطازج، على أطراف نواكشوط. وهي تجربة مرت بسلام على رغم تحذيرات سابقة بأنه قد يسبب لي ارتباكاً معوياً. وبرفقة العائلة المضيفة كذلك، ذهبت إلى عشاء نظمته أستاذة جامعية، تضمن عرضاً موسيقياً قدمته فرقة محلية وبدا فيه واضحاً مزيج التأثيرات العربية الإسلامية والأفريقية على الموسيقى، وأُرغمت خلاله على تناول الماعز المحشي بيدي العارية هذه المرة ومن دون استخدام أي أدوات طعام.
أما النشاطات التي مارستها منفرداً، فتضمنت أداء صلاة في مسجد ابن العباس أو ولد عباس بألوانه الخضراء والسماوية الهادئة، والذي بدا جميلاً بالمقارنة مع مساجد ثلاثة مررت بها مصادفة وأعطتني فكرة عن أشكال من النفوذ والتأثير الثقافي تمارسها دول قريبة وبعيدة، وهي مسجد الملك فيصل بن عبد العزيز المعروف باسم المسجد السعودي، ومسجد الحسن الثاني المعروف كذلك باسم المسجد الكبير أو مسجد المغرب، ومسجد قطر.
زيارة المتحف الوطني الموريتاني القريب للمسجد كانت تجربة مغايرة، إذ كان المتحف خالياً تماماً من الزوار، فتجولت بهدوء في أروقته بعدما دفعت 50 أوقية موريتانية (نحو 1.25 دولار أميركي) ثمناً لتذكرة الدخول. يحتوي المتحف الذي شُيّد بناؤه بدعم صيني بالسبعينيات، على مجموعات أثرية وإثنوغرافية متنوعة، من أهمها مصنوعات يدوية من الحفريات في كومبي صالح، العاصمة السابقة لإمبراطورية غانا، وأوداغوست، وهي مركز تجاري مهم على طريق القوافل لأكثر من خمسة قرون، عدا عن آثار من الحقبة الإسلامية وفترة دولة المرابطين ومخطوطات ومعرضين دائمين.
موعد الرحلة إلى الشمال
اتجهت شمالاً، هدفي الأول بلوغ المحمية الوطنية لحوض أرغين أو أركين. في الحافلة المتجهة إلى نواذيبو، استمعت الى جدال حاد طال معظم الطريق بين مسافرتين. تمحور النقاش حول مقارنة بين الرئيس محمد ولد عبد العزيز والرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع. تعرف موريتانيا عموماً قدراً من الحريات السياسية وحريات التعبير لا تعرفه أي دولة عربية أخرى.
توقفت في مدينة مرتجلة اسمها “الشامي”، تأسست قبل سنوات قليلة وسرعان ما تمددت بسبب استقطابها عشرات العائلات والأفراد العاملين في التنقيب عن الذهب، من داخل البلاد وخارجها، وتحديداً من السودان والسنغال وبلدان أفريقية أخرى عرفت هي كذلك خبرات في التنقيب عن المعدن الأصفر.
كان يجب العثور على وسيلة لبلوغ المحمية التي تبعد عن الشامي أكثر من ساعة بالسيارة، سينقذني هذه المرة شاب اسمه محمد مدو، أخبرني أنه خضع يوماً لدورة تدريبية في مجال السياحة قدمتها منظمة هولندية. أخذني من يدي وطرق أبواباً وأبواباً وهو يبحث عن أي شخص متّجه الى المحمية. طالت المهمة من دون نجاح بداية، أدخلني منزل أسرته حيث يقيم مع زوجتيه وأطفاله وسقاني كأساً من الزريق أو الزريك، وهو مشروب شائع مصنوع من الحليب البارد واللبن المخفف بالماء مع إضافة السكر. أخيراً عثر محمد على تاجر في طريقه للمحمية، وأوصاني أن أذهب إلى منزل أخيه علي مدو المقيم في المحمية مع عائلات أخرى عدة من قبيلة الإيمراغن تعمل في الصيد ونشاطات متفرقة أخرى.
وصلت قبيل حلول الظلام، منعني الخجل من البحث عن علي مدو، فنزلت في خيمة ضمن مجموعة من الخيام المخصصة للزوار والسياح. تبعد هذه الخيام الخالية عشرات الأمتار عن البلدة الشاطئية الصغيرة، أمضيت فيها ليلتي وحيداً وسط أصوات العواء. استيقظت في منتصف الليل على ضوء ساطع، أطللت برأسي من الخيمة لأكتشف أن هذا الضوء الساطع ما هو إلا القمر بينما كانت النجوم تملأ مشهداً خلّاباً، حيث كشف ظلام الأرض المطبق هنا عن أنوار السماء بطريقة مذهلة.
شخصياً، قد يكون حوض أرغين هو إحدى أجمل المناطق الطبيعية التي زرتها وأكثرها خصوصية. تمتد رمال الصحراء حتى تلتقي بمياه المحيط الأطلسي، فيما ساهمت خصوصيات بيئية ومناخية وجغرافية في تحويل هذا المكان إلى منتجع هائل لعشرات آلاف الطيور المهاجرة من مسارات مختلفة عبر العالم. تمتد المحمية على آلاف عدة من الكيلومترات المربعة براً وبحراً وتتضمن نحو 15 جزيرة صغيرة تتخذها الطيور مكاناً لإقامتها وتعشيشها.
بالإمكان التنقل قريباً من هذه الجزر عبر قوارب شراعية، تستخدم كذلك للصيد، ويُمنع في المنطقة استخدام القوارب ذات المحركات. للرحلة سعر ثابت بغض النظر عن عدد المسافرين، يتراوح بين 75 إلى 100 دولار أميركي على ما أذكر، فكان أن تمنيت لو أن ألد أعدائي شاركوني هذه الرحلة وتكاليفها.
رافقني في رحلتي بالقارب الشراعي علي مدو ورجل في الخمسينيات، والأخير أخبرني أنه كان في عداد فرقة عسكرية موريتانية ساهمت في جهود حرب الخليج الثانية إلى جانب جيش صدام حسين، فنظام ولد الطايع من الأنظمة العربية وغير العربية القليلة التي أيدت العراق في حربه. واقتصرت مهام البعثة الموريتانية، وفق ما شرح لي قائد المركب، على أداء بعض مهام حرس الحدود في المناطق الشمالية من البلاد بعدما سُحب الجنود العراقيون باتجاه الجبهات جنوباً، كما ذكر لي أنه قابل أحد القادة العسكريين من أقارب صدام، ولم يكن متأكداً مما إذا كان علي حسن المجيد.
كان بالإمكان مشاهدة المئات من طيور الحوصل أو البجع Pelicans والغاق Cormorants والنحام أو الفلامنكو وعشرات الأنواع الأخرى، عدا عن بعض الدلافين التي وجهت تحية سريعة للقارب، بينما أتاح لي رفيقا الرحلة الوصول إلى نقاط أبعد استجابة لطلبي ومن دون أي نفقات إضافية اعتزازاً وترحيباً بالضيف “العربي”، على حد تعبيرهما. أما وجبة الغداء فكانت سمكاً التقطه من المياه بلحظته بمطلق السهولة والسلاسة قائد رحلتنا، وشُوي على ظهر المركب وتم تناوله من دون ملح أو ليمون أو أية إضافات.
شمالاً إلى الشمال الغربي
ودعني علي مدو بكأس من الزريق في منزله المتواضع المليء بالكرم والأطفال، وعدت برفقة تاجر آخر باتجاه مدينة الشامي ومنها الى نواذيبو، العاصمة الاقتصادية للبلاد وثاني أكبر مدنها من حيث عدد السكان.
على الطريق لفتتني كثبان رملية من صنع الإنسان تتناثر في الصحراء كما كانت تتناثر خيم البدو من رعاة الإبل في مناطق أخرى. وعندما استفسرت من رفاق الطريق عن هذه الكثبان، أوضحوا لي أنها ناتجة من التنقيب عن الذهب الذي ينفذه أحياناً منقبون هواة بأدوات حديثة أو بدائية (كنت شاهدت في نواكشوط محلات متخصصة ببيع معدات التنقيب)، وسمعت منهم قصصاً عن الجنون الذي قد يصيب هؤلاء الباحثين عن الثروة خلال عمليات التنقيب التي قد تطول بلا جدوى، إذ تمتد الحفر في باطن الأرض بشكل يشبه امتداد جذور الأشجار، وقد تقود هذه الامتدادات التي تسمى بعروق الذهب إلى حوادث مؤسفة وتبعات نفسية في بعض الأحيان.
لم أوفق كثيراً في محطة نواديبو، واقتصرت الرحلة على تجوال في شوارع المدينة وفي محمية الرأس الأبيض التي تأوي في كهوفها البحرية آخر صنف وأكبر تجمع من عجول البحر المهددة بالانقراض. وعلى رغم تجوالي وانتظاري وحيداً على امتداد جرف المحمية، إلا أنني لم أتمكن من مشاهدة العجول. بينما تعطلت الرحلة لوقت طويل في مناسبتين، قبل الوصول إلى المحمية وبعده، بسبب غوص عجلات السيارة في الرمال الخادعة، ومجاهدتنا طويلاً، أنا وسائق التاكسي الشاب، في محاولتنا لإخراجها من الرمل.
قبيل العودة، دُعيت مراراً وبشكل صادق من مارّين عابرين للغداء أو المبيت وغيرهما، أما على أعتاب المدينة مغادراً، فشاهدت القطار الطويل البطيء وهو يبلغ أطرف نواذيبو محمّلاً بالحديد، بينما تعرضت للتوبيخ الشديد من إحدى المسافرات في رحلة الإياب، بعد توقف الحافلة الصغيرة لأداء الصلاة وعدم مشاركتي بها، فاضطررت للجوء إلى التبرير الكاذب بأنني قَصَرت وجمعت صلاتي الظهر والعصر كوني “على سفر”، وإن كان تبريراً غير مقنع بالنسبة إليها، إذ أشارت إلى أن المذهب المالكي لا يُقرّ هذا، فأجبتها بأنني شافعي المولد ولله الحمد والمنّة.
المحطة الأخيرة
ختاماً، توجهت إلى محمية جاولينغ الوطنية في أقصى الجنوب على ضفاف نهر السنغال، تأسست هذه المحمية عام 1991 بعد أضرار كبيرة سببتها سنوات من الجفاف وإنشاء سد ألحق أضراراً كبيرة بدلتا النهر وبالوظائف البيئية للمنطقة.
نجح القائمون على المحمية في استعادة أنواع من الغطاء النباتي وفي خلق بيئة مناسبة للأسماك، بينما يعشش في المحمية الكثير من أنواع الطيور النادرة والمحمية دولياً، كما تعيش فيها الخنازير البرية والتماسيح وحيوانات أخرى. أما التجول في المحمية فيكون حصراً برفقة دليل محترف يعمل فيها، تضم عدة عمله مجموعة من المناظير لرصد الطيور، أما رسم الدخول فهو 2000 أوقية موريتانية (50 دولاراً تقريباً).
تقع المحمية غير بعيد عن مدينة روصو، وتقطن فيها أقلية سوداء كبيرة، يقول بعض الناشطين الحقوقيين إنها تعاني أشكالاً مختلفة من التمييز والعنصرية. يتكون المجتمع الموريتاني من الناحية العرقية بشكل رئيسي من غالبية عربية من “البيضان” (وهؤلاء ينقسمون بدورهم جهوياً وقبلياً) وأقلية وازنة من المواطنين السود المعروفين كذلك بالحراطين، والتي تعني “حر ثاني”، أي الشخص الذي نال حريته بعد فترة من العبودية أو الذي يأتي في المرتبة الثانية بعد الشخص “الحر” من البيضان. في عام 1981، أصبحت موريتانيا آخر دولة في العالم تلغي العبودية. وفي 2016 أصدرت منظمة العفو الدولية تقريراً أشار إلى أن 43 ألف شخص، أي حوالى واحد في المئة من السكان، يرزحون تحت وطأة الممارسات الاستعبادية. علماً أن تطورات إيجابية في هذا الملف شهدتها الأعوام الأخيرة.
انتهت رحلتي وأنا أشعر ببعض الأسف لفشلي في الذهاب إلى مدينة ولاته الصحراوية، أو زيارة بحيرة مطماطة العجيبة التي تعيش فيها سلالة من التماسيح، على رغم أن مساحتها لا تتجاوز الـ100 متر مربع وتقع على بعد نحو 200 كم من أقرب نهر. لكن ما خفف من الأسى أن طائرة العودة القادمة من العاصمة الغينية كوناكري تأخرت لساعات، ما جعلني أفوت الطائرة الثانية التي ستقلني من باريس إلى لندن، فحصلت بالتالي على تعويض مقداره 600 يورو، وهو يزيد على ثمن تذكرة الذهاب والإياب بين لندن ونواكشوط، وبتّ من يومها أصلي للعلي القدير أن تتأخر طائرات الإياب ساعات كافية كي أكون مؤهلاً للحصول على تعويض، لكن صلواتي لم يُستجب لها منذ تلك الرحلة.