هذا السؤال وبعيدا عن شرعيّة طرحه، وعن الأسس العقدية والإدراكية التي يرتكز عليها، فإنّه قابل لأن يكون من المواضيع المفكّر فيها. فمن جهة تحتاج النصوص المقدّسة إلى أن تقرأ بغير اللغة الأصلية التي كتبت بها، لا بحكم أنّها رسالات موجّهة إلى مجموعات واسعة من البشر لغاتها مختلفة، بل لأنّ بعضها كتب بلغات قديمة زالت، أو هي قيد التغيّر. قبل الخوض في ترجمة النصوص الدينية، يمكن تصنيف هذا الضرب من الترجمات ترجمة إلى ثلاثة أصناف رئيسية، اعتمادا على نوع النص المترجم:
النوع الأول هو ترجمة النصوص المقدسة الكبرى، التي تشمل النصوص السماوية مثل القرآن الكريم والإنجيل والتوراة، ويمكن أن نضيف إليها النصوص الدينية غير السماوية مثل الفيدا للهندوسية والتيبيتية للبوذية والأبستاق للزرادشتية وغيرها، وهي تُعتبر مراجع أساسية في دياناتها.
وتواجه مترجم هذه النصوص جملة من الصعوبات أوّلها المحافظة على المعاني الثواني، التي تكمن خلف المعاني الأوّل، وثانيها إيجاد المقابل المعجمي أو الاصطلاحي الدقيق في اللغة الهدف، وثالثا المعرفة بالسياقات الثقافية والتاريخية الأصلية التي تمثّل أسسا في فهم النصّ الديني، وهذا لا يتوفّر أحيانا في النصوص المصدر، إمّا لتعدّدها أو لعدمها ولبعد النصّ التاريخي وانقطاعه عن أسباب قوله. وعلى الرغم من ذلك تطرح ترجمة كلّ نصّ من النصوص المقدّسة إشكالات خاصة بذلك النصّ، وبطبيعة اللغة المصدر التي كتب بها والأسلوب المعتمد فيه ودرجة استعاريته، أو رمزيته وغيرها من المسائل اللغوية والأسلوبية.
الصنف الثاني من الترجمات الدينية تتعلق بكتب الإلهيات التي تتناول الدراسات الفلسفية والدينية المعمقة، بما في ذلك التحليل العقائدي والنقاشات اللاهوتية المختلفة، وفيها نجد كتب التفسير والجدل الدائر حول مسائل دينية وكلامية وغيرها. وتتناول هذه النصوص مواضيع فلسفية وعقائدية معقدة، ما يتيح للمترجم بعض المرونة في تفسير الأفكار بدقة مع مراعاة المصطلحات التقنية اللاهوتية. ويمكن القول إنّ صعوبة الترجمة في هذا السياق تتمثل في خصوصية الخطاب الاصطلاحي الذي يتطلب من المترجم معرفة بالنصوص الأصلية والمشروحة، وبأساليب التفسير أو الجدال المعتمدة وبالتعامل بين الديني وغيره من المعارف المتفاعلة معه مثل الفلسفة والمنطق وغيرهما. فعلى سبيل المثال، فإنّ ترجمة كتاب الخلاصة اللاهوتية Summa Theologica لتوما الأكويني (1226-1274) الذي يزاوج بين الفلسفة الأرسطية والمذهب الكاثوليكي تكمن صعوبتها في التعامل مع مفاهيم فلسفية معقدة ومصطلحات تقنية قد لا تكون لها مرادفات دقيقة في اللغة الهدف، بالإضافة إلى صعوبة الملاءمة بين ترجمة الأفكار الفلسفية والنقاش العقائدي. فالترجمة تتطلب توازنا بين مراعاة المعاني الحرفية والسعي إلى التحرر منها في الحين ذاته. فليس من اليسير أن تنقل الفكرة بشكل واضح دون فقدان الدقة المطلوبة. وقد يتطلب الأمر ملاحظات، أو تعريفات للمصطلحات.
فعلى سبيل المثال فإنّ ترجمة مصطلحات مثل «transubstantiation» (أي استحالة خبز القربان وخمره إلى جسد المسيح ودينه) تحتاج إلى شرح دقيق لأنها تعبر عن مفهوم ديني فيه شيء من روح الفلسفة، ولا سيما في التمييز بين المادة والحوادث.
الصنف الثالث والأخير هو ترجمة الدراسات المتعلقة بالأديان، سواء أكانت مناهج علمية أم فلسفية، وتشمل البحث في جوانب الدين المختلفة وتحليلها، مثل التاريخ الديني، وعلم الأديان، والفلسفة الدينية. هذه النصوص غالبا ما تكون بحثية أو تحليلية، مما يسمح للمترجم بأن يعالجها بحرية ووضوح، مع تركيزه على نوع مخصوص من الجمهور القارئ هو العلمي أو العالم. وتحتاج الترجمة إلى معرفة متخصصة في علم الأديان والفلسفة والتاريخ، أو غيرها من الفنون ذات الصلة لضمان دقة المفاهيم والمصطلحات. ويمكن في هذا المجال إدخال شروحات، أو توضيحات ضمن النص، أو في الحواشي لتيسير إيصال المعرفة والبحث العلمي بأكبر قدر من الدقة والوضوح إلى القارئ، يضاف إلى ذلك مراعاة في اختلاف الخلفيات الثقافية. فعلى سبيل المثال فإنّ ترجمة كتاب أكاديمي عن تاريخ الأديان، أو فلسفتها يمكن أن يجابه بالتعامل مع مصطلحات علمية متعددة التخصصات (تاريخ، علم اجتماع، فلسفة). وهناك رهانات أسلوبية أخرى تتمثل في أن تكون اللغة أكاديمية واضحة وسلسة، وأن تحترم حدود الحرية في إعادة صياغة الجمل لتسهيل الفهم، بالإضافة إلى إمكان إضافة ملاحظات أو شروح لتوضيح بعض الأفكار. ففي ترجمة فصل عن مقارنة بين ديانات مختلفة يطلب من المترجم توضيح الفروق والدقائق المصطلحية بطريقة منهجية وغير متحيزة.
إنّ الترجمة الدينية تحتاج أن يكون المترجم عالما بالتقاطعات الفعلية والضرورية بين الأديان والفلسفة والاجتماع والأدب والفنون، وعليه أن يعلم أكثر من أيّ مترجم آخر أنّ الانتقال بين ضفاف اللغات للعبور بالنصّ الأصل سيكون فرصة لإضاءة المرافئ حتى تحسن استقبال النصوص الوافدة.
إنّ الترجمة الدينية ليست نقلا آليّا للمفردات، بل هي جسر بين العوالم الروحية والثقافية. فمترجم النصوص الدينية لا يتعامل مع نصٍّ لغوي فحسب، بل مع نظامٍ رمزيّ متكامل مؤلف من معتقدات وطقوس وتصوّرات عن الله والإنسان والكون. ولهذا فإنّ خطأً واحدا في اختيار كلمة، قد يبدّل المعنى العقديّ أو يُحدث التباسا في الوجدان الجمعيّ. فمترجم النصّ الدينيّ يحتاج إلى أن يكون عالِما بالأنثروبولوجيا الدينية والفلسفة المقارنة واللغة الأدبية، لأن النصوص المقدّسة عادة ما تُصاغ بلغة رمزية وشعرية تحمل أكثر من طبقة دلالية واحدة. مثال ذلك أنّه عندما يترجم مفاهيم مثل القدر، أو الحرية أو الروح ويعبر بها بين الثقافات الإسلامية والمسيحية والبوذية، فلا يمكن للمترجم أن يتجاهل الخلفية الفلسفية التي تشكّل معنى هذه المفاهيم في كل دين. يضاف إلى ذلك أنّ كلمة الروح مثلاً في التصوف الإسلامي، تشير إلى «النفَس الإلهي»، بينما قد ترتبط في اللاهوت المسيحي بعقيدة الثالوث الأقدس. وهي في الفكر الشرقي تشير إلى مبدأ الحياة الكونية. ومعلوم أنّ الزكاة إن ترجمت إلى لغة أخرى فإنّه من العسير أن تنقل إليها المعاني الدينية والأخلاقية والاجتماعية التي لها في الإسلام.
إنّ النصّ الديني حين يعبر من لغة إلى أخرى، فإنه يعبر من ضفة ثقافية إلى ضفة أخرى. والمترجم وهو ينجح في العبور فإنّه يترجم عن قدرته على جعل النصّ الراحل إلى ثقافة أخرى واجدا في أرضه الجديدة طيب المقام بأن يحتفظ بقداسته وفرادته، ويظلّ مفهوما للقارئ الجديد. ومن جهة أخرى فإنّ نصوصا دينية فنّية ذات طابع صوفي مثلا، لم تنجح ترجماتها إلاّ حين استطاع مترجموها أن يغوصوا في أبعادها الروحية لذلك كانت تجربة لويس ماسينيون مع الحلاج وعشقه تجربة مميزة استطاعت أن تحافظ على اتقاد روح النصّ الأصلي، ولم يخب نورها في ضفافها الأخرى.