تسير حياتنا في كلّ يوم على عقارب ساعة يزداد وقع تكاتها حيناً بعد الآخر، فلا نلبث أن نخرج من صيحةٍ، حتّى ندخل إلى موضة أخرى أكثر جنوناً. بالطبع عند التحدّث عن الجنون لا بدّ من ذكر كافيين أيّامنا المتمثّل بوسائل التواصل الاجتماعي والسوشال ميديا التي أصبحت إدماناً لا يقاوم، يتسلّل كشبح خفيّ بين الأعمار حتّى غدا إدمان الصغير قبل الكبير. منابرُ مشرعة بأسلحة أقوى من البارود، لرخص ثمنها وسهولة تداولها كالنار في الهشيم. حتّى يومنا هذا لم يظهر بعد أيّ رادعٍ استطاع أن يقف في وجه هذا الفيضان، ليبقى صغارنا وطلابنا ضحيّة تأثير هذا المارد على قدراتهم الذهنية، وصحتهم النفسية، ومهاراتهم الاجتماعية.
السوشال ميديا تلقي مستخدميها في شباك القلق الرقمي
يمكن لوسائل التواصل الاجتماعيّ بحدّ ذاتها أن تسبّب القلق، إذ يتم تدريب روّادها على مقارنة أنفسهم بالآخرين لا شعوريّاً، سواء بملاحقة عدد الإعجابات، أو عدد المتابعين الذين حصلوا عليهم، وهذا غالباً ما يؤدي إلى شعورهم بعدم الكفاءة واليأس. كذلك أصبحت مظاهر التنمر الإلكتروني، والتشهير الاجتماعي أمراً متداولاً للغاية ضمن بوابات العالم الافتراضي، في محاولةٍ لتقييد مستخدمه بسلاسل عدم تقدير الذات، والإحساس بالرفض الاجتماعي مما يخلق أزمة بين الشخص وذاته ومجتمعه، وهذا ما يوصلنا إلى ما يسمّى بالقلق الرقمي.
ترويج تطبيقات إنستغرام وفيسبوك لوهم السعادة الزائف
"أنت لست سعيدًا بما فيه الكفاية"، "يمكن أن تكون السعادة التي ترغب بها قاب قوسين أو أدنى"، عباراتٌ وتوجيهات تلقى هنا وهناك لبرمجة عقولنا وفق قوالب استهلاكيّة مضلّلة لمفهوم السعادة. بإمكان أذهاننا أن تكذب علينا بتلفيق حدسنا حول الأشياء التي ستجعلنا سعداءً، نستخدم ذلك الشعور البديهي في متابعة تلك الأشياء البراقة على تطبيقات إنستغرام وفيسبوك، التي تزرع في عقولنا فكرة أنّ تحصيل أموالٍ أكثر يعني القدرة على شراء آخر إصدار من جهاز آيفون الجديد، وإمكانية السفر حول العالم وتناول أشهى المأكولات ومواكبة آخر صيحات الموضة. الكثير من تلك البديهيات التي ترسمها عقولنا، يظهر العلم أنّها ليست صحيحة تماماً بل مصمّمة لأجندة الثقافة الاستهلاكيّة التي تدفعنا لشراء سلع ومنتجات غير ضروريّة، وتقيس ثقافة إنجاز الفرد بمقاييسها اللاإنسانية، لتخدم مصالح الرأسمالية وما ترمي إليه من أهدافٍ تدميريّة للعقل والنفس البشريّة.
تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الصحة النفسيّة للطلبة
تقول Cori McAbee مدرّسة اللغة الإنكليزية في إحدى مدارس مقاطعة روثرفورد في ولاية نورث كارولينا: "قد يعتقد المرء أنّ التنشئة الاجتماعية القائمة على التواصل المستمرّ ستجعل المراهقين يشعرون بأنّهم أكثر ارتباطاً من أيّ وقت مضى، غير أنّ العكس هو الصحيح. فقد أصابت وسائل التواصل الاجتماعي طلابي بالشلل عندما يتعلق الأمر بالتفاعل المباشر مع بعضهم البعض". لذا قد يكون التعريف الرائج للسوشال ميديا بحدّ ذاته مضللاً. وفقاً لنتائج الدراسات، كلّما زاد الوقت الذي يقضيه الأطفال على وسائل التواصل الاجتماعي كلّما أصبحوا أكثر عزلة وقلقاً، فهناك علاقة بين استخدام الهواتف الذكية وانخفاض الانخراط في الحياة الاجتماعية والرضا عنها.
ركّز تقرير الصحة العقلية للأطفال الصادر عن معهد Child Mind لعام 2018، على القلق والتوتر الملموسين عند الأطفال، كما سلّط الضوء على الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في حياتهم، من خلال إقحام أنفسهم بلا وعيٍ منهم بمقارنات خاطئة لا تجلب لهم سوى المزيد من المشاعر السلبية. كما توصّلت جين توينج أستاذة علم النفس في جامعة ولاية سان دييغو إلى استنتاجات مماثلة في دراستها التي أجرتها عام 2017، حيث اكتشفت أنّ الطلاب الذين يقضون وقتاً أطول في استخدام الهواتف الذكية، والأجهزة الإلكترونية يصبحون أكثر اكتئاباً وأقلّ رضاً عن حياتهم مقارنة بالطلاب الذين ينخرطون في النشاطات التفاعلية الحقيقية على أرض الواقع. كما وُجد أنّ المراهقين الذين يقضون 5 ساعات أو أكثر على الإنترنت يومياً كانوا أكثر عرضةً لخطر الانتحار والأفكار الانتحارية بنسبة 71% مقارنةً بأولئك الذين أمضوا أقلّ من ساعة في اليوم.
ضرر جسيم على الصحّة الجسدية تسببه السوشال ميديا
تسبّبت وسائل التواصل الاجتماعي بحدوث الإدمان بشكلٍ لا يصدّق، إذ ينطلق الفرد في رحلته على هاتفه بحجة التحقق من إشعاراته فقط، ليغرق بعدها في ساعات من الانغماس اللاواعي. كما يخفي استخدام الأجهزة الإلكترونية تأثيراً ضاراً، ولا سيما إذا ما تم استخدامها قبل وقت النوم، حيث يخدع الضوء الأزرق المنبعث من أجهزتنا أجسادنا ليتم الاعتقاد بأنّ ضوء النهار مازال يسطع في الخارج، ممّا يزعج إيقاعاتنا الطبيعية، ويحول دون حصولنا على قسط كافٍ من النوم، وما يترتب على ذلك من تعب جسدي، وقلة الانتباه والتركيز، والتشتت والأرق، وعدم الاتزان النفسي. إلى جانب ما يتسبّب به النظر المطول إلى الأجهزة من إجهادٍ للعين وإضعافٍ للقدرة البصرية.
فوائد لا تحصى لا يمكن تجاهلها
لا يمكننا إنكار الفوائد الإيجابيّة التي انهالت بها وسائل التواصل الاجتماعي على مختلف ميادين حياتنا، نذكر منها:
- تسهيل تكوين الصداقات والعلاقات الإنسانية.
- تعزيز التعاطف الإنساني.
- السماح بتواصل أسرع عابرٍ للمسافات، جعل من الكرة الأرضية قريةً صغيرة.
- مساعدة روّادها على مواكبة الأخبار، وسماع آخر المستجدات بسرعة أكبر.
- مساعدة الطلاب فى الحصول على تجربة تعليميّة أفضل في المدارس والجامعات.
- مساعدة العاطلين عن العمل في إيجاد فرص عمل ووظائف مناسبة.
- السماح لمختلف أقطاب الناس بالوصول إلى آخر الأبحاث الأكاديمية.
خطوات عمليّة للتقليل من التشتّت والقلق
بالرغم من الفائدة المجنية من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، لكن بقيت مسألة التشتت أمراً لا يمكن التغاضي عنه، باعتبارها العدو الأوّل للإنتاجية، وممارسة العمل العميق الهادف. انطلاقاً من أهمية الحفاظ على جودة الإنتاج، كان من المهم إعادة تعريف علاقتنا بوسائل التواصل الاجتماعي بطريقةٍ تمكننا من الاستفادة منها، والتقليل من تأثيراتها الضارة علينا، يتحقّق ذلك من خلال:
- حاول أن تعتمد في استخدامك على قاعدة WWW، وهي لماذا (Why) أي ما الغرض والهدف من التقاطك لهاتفك؟، لماذا الآن (Why now) هل لديك شيء لتفعله بهاتفك الآن أو هل كنت تشعر بالملل أو القلق أو لديك الرغبة في فتح هذه التطبيقات؟ وأخيراً، ماذا بعد (What Else) أي ماذا بعد فتح هذه التطبيقات، هل ستكون سعيداً ومشحوناً بطاقة إيجابية أم أنك ستعود بحالة من القلق والتوتر؟ وهل هذه التطبيقات ستسليك فعلاً، أم أنّ التواصل مع صديقك سيكون أكثر إمتاعاً؟
- تجنّب متابعة الإشعارات الصادرة عن تطبيقات السوشال ميديا، وإذا كان بالإمكان إقفالها، والاكتفاء بواحد أو اثنين منها.
- استخدام الهاتف في أوقاتٍ محدّدة من اليوم، مع الانتباه للوقت المهدور في استخدام هذه التطبيقات، ومحاولة التقليل منه.
- حذف حساباتك غير النشطة في وسائل التواصل الاجتماعي.
- تحديد الأهداف من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال سوف أستخدم الفيسبوك فقط لمتابعة شخص معين، أو شركة معينة.
بهذه الطرق وبقليلٍ من الإرادة ستكون قادراً على الوقوف في وجه هذا السيل الجارف لسعادتك وراحتك، فالاعتدال والتروّي هما حكمة عصرنا الحالي، فخير الأمور أوسطها.