تعد أنّا ماري شيمل (1922/2003) أشهر مستعربة ألمانية في القرن العشرين بالقياس إلى الكم الهائل من المؤلفات والمحاضرات حول الإسلام والتصوف خاصة، كما عرفت برحلاتها المكوكية إلى ربوع العالمين العربي والإسلامي فهي باحثة في الميدان، وفي النصوص تمارس الحفر المعرفي، مبتعدة عن الطرح الاستشراقي الذي أدانه إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» محاولة الاقتراب من الإسلام من أجل الفهم من منظور جدلية الأنا والآخر، فمن شروط معرفة الذات التعرف على الآخر، من غير استعلاء وتبخيس له ولإنتاجه المعرفي والحضاري، أولم ينص كلود ليفي ستروس في «مدارات حزينة» على أن الحضارات بنيات مغلقة لا تفاضل في ما بينها؟ فهي ثراء وتنوع، فلا أفضلية لحضارة البشرة البيضاء على حضارة البشرة السوداء، إنما التفاضل في الجانب العلمي مثلا، أو ديناميكية الحياة السياسية، بينما الثقافة معطى جغرافي وتاريخي وإثني. فأنّا ماري لا تنخرط في الطرح الذي يسلم بأفضلية الأبيض على غيره، وبتفوق الحضارة الأوروبية ذات الجذر اليوناني على ما عداها، وكثير من المستعربات الغربيات انخرطن في هذا الاحترام للآخر وتقديره والسعي لإنصافه في بحوثهن مثل الألمانيتين زيغريد هونكه وأنجليكا نويفرت والإيطالية لورا فيشيا فاغليري.
في عام 2004 صدرت سيرتها الفكرية والأكاديمية والحياتية بدرجة أقل «الشرق والغرب حياتي الغرب شرقية» مترجمة إلى العربية، حيث ركزت على مرحلة التحصيل العلمي والفكري والأكاديمي، والتصوف والرحلة العلمية والبحثية والمحاضرات في مختلف الجامعات والمعاهد الفكرية في القارات الخمس، والجامعات التي مارست التدريس فيها في الثقافة الإسلامية والتصوف، وهي سيرة ضخمة نسبيا تقع في 530 صفحة، وكما جاء في العنوان وهو عتبة رئيسية يحيل على الهوية المزدوجة للكاتبة الشرقية والغربية والهوية المركبة، وبقدر ما هي متشظية ومتعبة، بقدر ما هي ممتعة فالهوية ليست شيئا ناجزا، وإنما يصنعها المرء وبعض الهويات الناجزة المغلقة قاتلة، كما كتب أمين معلوف، إن الرحلة إلى الآخر والتعرف عليه ولو عبر النص، شرط لمعرفة الأنا فليس الآخر سوى صورة لنا أو بالأحرى لما كنا سنكونه. إن الهوية سيرورة وصيرورة معا دون أن تكتمل، إنها رحلة بلا شاطئ وتلك متعتها وإغراءاتها معا.
عرّب الكتاب عبد السلام حيدر وكانت الترجمة ضمن المشروع القومي للترجمة، تحت إشراف الراحل جابر عصفور، والترجمة حملت الرقم 754 أي تمت ترجمة 753 كتابا قبل هذا، ما يؤكد أهمية المشروع وكونه قوميا بالأساس، ومن الكتاب الغربيين المترجمين لوسيان غولدمان وماكس فريش ولوركا ونيرودا وراسل وإليوت وطاغور وميلان كونديرا وجلال الدين الرومي وبول فاليري ورينيه جينو، وكانت رؤية المشروع الفكرية الخروج من أسر المركزية الأوروبية، وهيمنة اللغتين الفرنسية والإنكليزية بالانفتاح على اللغات الأخرى في أوروبا والعالم. وطبع الكتاب في الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية بدعم مادي من معهد غوته الألماني.
تضمن الكتاب مقدمة للمترجم عرف فيها باقتضاب بالمؤلفة، وعن أسباب اختياره لهذا الكتاب بالذات، ثم جاء الكتاب في سبعة فصول، الطفولة والصبا (1922/1945) والثاني السنوات الأولى لما بعد الحرب (1945/1952) والثالث عن العيش والتدريس في تركيا (1952/1959) والرابع مشاهد ورحلات أوروبية عارضة (1959/1967) ثم مرحلة التدريس في أمريكا وهارفارد تحديدا، على الجانب الآخر للأطلنطي (1967/1992) والفصل السادس عرضت فيه لرحلاتها المكوكية إلى العالم العربي والإسلامي، أما الفصل الأخير فتحدثت فيه عن مرحلة ما يسمى بالتقاعد، كما عبّرت هي عن ذلك في كونها لا تعترف بالتقاعد فهي باحثة ورحالة إلى الرمق الأخير (1992/2002 ) دون أن تنسى تقديم الشكر لكل من ساعدها في رحلاتها، أو في إنجاز سيرتها الفكرية، وأما الملاحق فجاءت من اختيارات الناشر الألماني، فالملحق الأول لصور مختارة لطفولتها ومرحلة الدراسة ولقاءاتها بأعلام عصرها وتكريماتها والجوائز المتحصل عليها. والملحق الآخر لعناوين مؤلفاتها ومقالاتها ودراساتها وبحوثها، وهي من الوفرة والغنى بحيث تصيب المرء بالاندهاش لهذه الحياة الغنية بالطول والعرض معا، وقد ارتأى المعرب وضع هوامش لكل فصل لشرح وتفسير بعض الغوامض والمفردات والمصطلحات، وهي من صميم الثقافة الجرمانية والأوروبية عامة حتى يتأتى للقارئ الفهم العميق، خاصة والكاتبة عاشت خلال العهد النازي ثم الحرب العالمية الثانية ومرحلة الحرب الباردة وتنقلاتها بين الشرق والغرب وكانت تنأى عن المعسكر الشرقي وتنأى عن الشيوعية وهي المتصوفة المتذوقة والمؤمنة التي زادتها التجارب الروحية غنى وخصوبة كما يشير هذا السفر الضخم.
فهي الشاعرة كذلك والعارفة بلغات الشرق وهاوية الموسيقى بمختلف إيقاعاتها، وطالما فتنت بمقولة تنسب لمولانا جلال الدين الرومي (الموسيقى هي صرير فتح أبواب الجنة) ابنة مدينة إيرفورت ووحيدة أبويها التي ترعرعت مدللة في حمى الشعر والموسيقى والفن وجمال الطبيعة في ألمانيا، وتوجهت في دراساتها العليا نحو معهد اللغات الشرقية في برلين، وهي تحت تأثير ريلكه المعجب بالشرق وفريدريش روكرت مترجم مقامات الحريري والقرآن إلى اللغة الألمانية، وإليه يعزى الفضل في تعرف الألمان على أدق وأجمل ترجمة للقرآن، وكان الألمان قبله يترجمون القرآن عن لغة وسطى عادة كالفرنسية أو الإنكليزية، حتى جاء روكرت وترجم عن العربية مباشرة وكان علاّمة زمانه في العربية وعلومها، دون أن يسافر إلى بلد عربي ولعل الشهرة في الشرقيات التي حصل عليها غوته صاحب «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» قد ظلمت روكرت فكسفت شمسه مع أنها أكثر سطوعا وقد وصفته شيمل بالقنطرة بين الشرق والغرب، كما ترجم روكرت شعر مولانا جلال الدين الرومي وكتب يوما (شعر العالم هو تسالم العالم ) وقد كتبت عنه شيمل (وقد حاولت منذ فترة صباي مرة بعد أخرى أن أعرف ليس في الغرب، وإنما في العالم الإسلامي أيضا بعمل هذا الوسيط الذي لا يكل بين الشرق والغرب) ولاحقا نالت جائزته عام 1965.
هكذا إذن كانت الطالبة المجدة والشغوف بالثقافة العربية والإسلامية بادئة بكتاب «الخراج» لأبي يوسف ومهتمة بالعصر المملوكي، من خلال مؤلفات ابن تغري بردي وابن إياس، مع الإعجاب إلى حد الوله بشعر وطريقة مولانا جلال الدين الرومي ، ومستحضرة في الوقت نفسه، محاضرات عن الإسلام لجولد تسيهر، واحتكاكها بأقطاب الاستشراق أمثال روزنتال، غوستاف فون جرونباوم، وقارئة بشغف «عذابات الحلاج» لماسينيون والمختارات الصغيرة من ديوان الرومي لنيكلسون، لتكشف للقارئ توجهها نحو الذوق والانفعال العاطفي والإيمان القلبي والتوتر الروحي في التطلع نحو النور الأزلي، لا كما مارسه ابن عربي كثقافة، لكن كما أوصى به الرومي في «الفراشة واللهب» ولخصه غوته في قوله «مت وكن». فالصوفي يرى في الموت رحلة للالتقاء بالمحبوب، بعد أن يطرح عنه رداء الدنيا، إن في الفناء الوجود وفي الموت الحياة، فليس إلا النور الأزلي مطلبا، وليس إلا التطلع إليه وعشقه والشغف به، وانتظار تلك اللحظة التي تنتقل فيها الروح نافضة عنها الحجب، ملقية بشغفها في حضرة محبيها كتهالك الفراش على النور، كما وصف مولانا الرومي، وهذا هو التصوف التي عشقته وتذوقته ومارسته، وبهذا المعنى تفهم كمؤمنة موحدة تؤمن بالبعث والحساب، لا بالمفهوم الشعائري والطقوسي الذي يختصر زخم الروح وتوترها في تفريعات فقهية وشعائرية غالبا ما يجردها المرء من مضمونها الروحي ومقصدها الأسنى.
إن أفضلية أنا شيمل هي بحثها الشامل في الإسلام، نصوصا وعمرانا وفنونا ورقصا صوفيا وتخطيط مدن وجماليات، ما يؤكد النظرة البانورامية للإسلام التي شكلتها، من خلال القراءة والتذوق والتأمل والرحلة. ولربما كان الحس الصوفي هو الذي عصمها من ويلات الحرب العالمية الثانية وآلامها، وسقوط برلين وتلقي خبر مقتل والدها أثناء المقاومة، وابتعادها القسري عن والدتها لتكتشف وجودها حية أخيرا، وتلتقيا بعد غياب، فقد أخذها الجنود الأمريكيون مع 26 امرأة أخرى إلى مركز تجميع لتشيد بلباقة الجنود ومتعجبة في ما بعد من القسوة أثناء حرب فيتنام، التي كانت محل تنديد عالمي، وكان الذوق الصوفي والإيمان بالغيب عاصمها من الشيوعية، فقد نأت عنها طيلة حياتها حتى ما يعرف بالكتلة الشرقية لم تحتك بها مكتفية بالغرب والعالم الإسلامي، ومارست التعليم الجامعي في ماربورغ ثم بون لتعمل في تركيا وتسمع المناداة عليها باسم «جميلة» وفي جامعة أنقرة تنفتح على التصوف الإسلامي مع يونس أمره، لتحج إلى قونية حيث ضريح مولانا جلال الدين الرومي الذي نزح إليها هو كذلك والتقى بشمس الدين التبريزي، الذي كتب «قواعد العشق الأربعون» تلك التي حولتها الكاتبة التركية الشهيرة إليف شافاق عام 2010 إلى رواية كبيرة، وقد رأت البئر التي يقال إن التبريزي قتل ورمي فيها، كما رأت الرقص المولوي والدراويش بأردية الرقص البيضاء.
حياة غنية خصبة عاشتها بالطول والعرض، متحملة في صبر ومقاومة مشاق الرحلة والمحاضرات والندوات الفكرية، وقد صدق الطبيب الذي قال لها مرة «إنك مثال لانتصار الروح على الجسد».
بين هذه الصفحات الكثيرة ينتقل القارئ بين الشرق والغرب، وفي ربوع العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، ملتمسا إعجاب الكاتبة بروائع المعمار والفنون الإسلامية والمنمنمات والزخارف والمساجد والرقص الصوفي، دون أن تغيب لمسة التصوف والذوق الصوفي عنها، ونفحة الإيمان وهي التي ظلت تردد جملة هردر (نعرف من خلال الشعر الأزمان والأمم معرفة أعمق بالتأكيد من تلك التي تتم عن طريق تاريخ السياسة والحروب المخيبة والحزينة) وجملة القديس أوغسطين (المرء يستطيع أن يفهم شيئا ما فقط على قدر ما يحبه). والقارئ لسيرتها كذلك يكتشف نزعة التفاؤل وهذه خصيصة صوفية، فعلى الرغم من الأحداث الجسام التي نالت العالمين العربي والإسلامي، بدءا بحرب الخليج، والحرب على أفغانستان التي أدانتها، ومشاكل التنمية والفقر والنزاعات العرقية، أو الدينية كحرب لبنان الأهلية، ثم أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول إلا أنها كانت متفائلة بالعنقاء التي تنبعث من الرماد، فالصوفي يقبل بالألم ويستعذبه، فالأرض يشق صدرها لتطرح فيه البذرة، والسنبلة تحصد والعجين يعرض للنار ليكون الخبز، وهكذا هي الحياة الوجود في التلاشي والوجود في الفناء ومن الألم يعرج المرء إلى النور الإلهي الأزلي. ألم يقل ماكس رويشنر (المرء يعرف فقط الناس الذين يحبهم، أو يتصادق معهم المشاعر، ترى أعيننا كل شيء أكثر ثراء وأكثر تنوعا وتدرجا، إنها ترى جوهر الآخرين في وفرته التامة وقيمته الكاملة). وهكذا غابت في النور الأزلي عام 2003 حاضرة بنصوصها وحبها وفهمها للعالم العربي والإسلامي، دون خلفية تبشيرية أو نزعة استعمارية، أو عقدة استعلاء، وكان الحب الإلهي ملهما في ما قامت به.
سيرة فكرية جديرة بالقراءة وهي تشكل موسوعة في أسماء المستعربين في أوروبا وأمريكا، ومؤلفاتهم والشخصيات الإسلامية الفاعلة، وفي العمران والنصوص الإسلامية، خاصة نصوص التصوف وهي بذلك تدعو إلى حوار الحضارات بدل صدامها، لأن التنميط والتوحيد الذي تريده الهيمنة الأمريكية يقضي على التنوع والثراء، كما أن ردة فعل اليمين الأوروبي تقوض دعائم التناغم داخل المجتمعات الأوروبية ذاتها، أما دعواهم بانحطاط الحضارة الإسلامية فليست سوى ردة فعل نفسية وعاهة فكرية يجدر بهم التداوي منها بالبحث الحر النزيه والروح الموضوعية، ولعل أنا ماري شيمل بمقارباتها للفكر الإسلامي خير من يرد عليهم.