لقد كشفت احتجاجات طلاب الجامعات الأمريكية المُناصرة للشعب الفلسطيني، والمطالبة بإنهاء الحرب، عن أزمة حضارية متعددة الجوانب، فهي تكشف أولا عن مدى محدودية الفعل العربي، فضلا عن عدم قدرته على أن يرتفع لمستوى الحدث، ناهيك عن جملة التأويلات التي تقرأ هذا المزاج المحايد من لدُن الفعل العربي، على مستوى الفكر والممارسة والخطاب، كما أن ذلك يُشير إلى معضلة تتعلق بالعقل العربي، وقيم ممارسة الحرية والتعبير عن النفس التي لا تنتج إلا عن نظام تعليمي يتبنى قيم الحرية، والديمقراطية، والتفكير، لكن من جهة أخرى فإن القمع الذي تمارسه السلطات الأمريكية، أو الحكومات الغربية عامة، يكشف أيضا عن خلل واضح في تقدير الموقف، فعلى الرغم من تلك الادعاءات بالحرية في الثقافة الأمريكية والغربية عامة، لكن ثمة أيضا إكراهات عميقة تتصل بالعقيدة السياسية الأمريكية، التي تنتج عن عقلية استعمارية تتقنع بقناع واهٍ، فالدعم الأمريكي للكيان الصهيوني لا ينتج إلا عن مصالح عميقة، لا عن قيم حقيقية، وما تهمة معاداة السامية سوى جزء من أدوات هذا التكريس، بوصفها مسوغات وظيفية لا أكثر.
إن الحراك الطلابي الذي شهدته الجامعات الأمريكية، يكشف عن تحول شديد في السردية التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية، التي جعلت من الولايات المتحدة الأمريكية وريثة إرث الاستعمارين البريطاني والفرنسي، ومن ضمن ذلك الإرث سيئ السمعة، الكيان الصهيوني بوصفه قاعدة متقدمة للقوى الاستعمارية في منطقة مهمة جيوسياسيا للغرب، ومن هنا فقد الحاجة لمبررات قيمية فوجد ذلك سانحا في الهولوكوست، الذي شكل مرجعية لهذا الدعم. ولعل الاطلاع على كتاب المؤرخ اليهودي نورمان فينكلشتاين بعنوان «صناعة الهولوكوست: تأملات في استغلال المعاناة اليهودية» سيكشف لنا عن التحول في العقلية الأمريكية تجاه هذا الكيان، ولاسيما بعد حرب 1967 وتفوق الكيان على الدول العربية، حينها أدركت الولايات المتحدة الأمريكية الحاجة الوظيفية لهذا الكيان فتبنت مقولة الهولوكوست، في حين لم يكن لهذه المقولة أي قيمة حقيقية في وعي القيادة الأمريكية، أو أنه لم يكن هذا الخطاب يحتمل القيمة التي نراها اليوم.
وهكذا فإن هذه السردية التي صُممت بعناية بوصفها خطابا بقيت كامنة في وعي المؤسسة الأمريكية، كما الشعب الأمريكي، لكن الأجيال الجديدة التي تجاوزت الخطاب الإعلامي المؤسسي نتيجة قيم التواصل الاجتماعي الجديد، ودور الجاليات العربية المسلمة المهاجرة، بالتوازي مع فظاعة المجازر التي ارتكبها هذا الكيان، خلق لحظة انفصال عن وعي الحرس القديم للأفكار الإمبريالية، وكشف عن نفاق واضح، وتبدى ذلك في مفارقة الادعاءات التي روجتها الثقافة الأمريكية بخصوص حقوق الإنسان، وغيرها، ولاسيما بعد أن اصطدمت مع القيم الإمبريالية التي لا يمكن التضحية بها، ومن هنا، نتج هذا القمع للاحتجاجات الطلابية، التي غابت عن المشهد من عقود، أو من زمن انتهاء حرب فيتنام، كما أنه لا يمكن التقليل من أثر هذه الاحتجاجات كونها شملت إلى الآن 90 جامعة أمريكية معظمها من جامعات النخبة، ما شكل شبه صدمة في دوائر السياسة الأمريكية.
إن مقولة سابقة اعتمدتها في بعض كتبي مفادها، أن مقولات النهضة العربية والتنوير لم تكن سوى نتاج حتمي لأزمنة التحديث لا التقدم أو التنوير الحقيقي، فأي نهضة هذه التي قادت إلى دول شبه مسلوبة الإرادة، وكسيحة!
غير أن الملحوظة الأخيرة تقودنا إلى البحث عن أسباب انطلاق هذه الاحتجاجات من هذه الجامعة تحديدا، التي ينتمي معظم طلابها إلى عائلات ميسورة، مقابل ضعف المشاركة، أو بروز الاحتجاجات في الدول العربية بصورة عامة، والجامعات العربية خاصة، ولعل هذا يمكن تبريره بمعضلة انشغال العقل العربي، الذي شكلته الأنظمة والسلطات التي غالبا ما كانت تمارس تشكيل التعليم بتكوينه الوظيفي، بمعزل عن تطوير العقل العربي، وكي يتحقق ذلك فإن على التعليم في العالم العربي أن يتخطى سياسة تكريسه، بوصفه للحصول على وظيفة فحسب، أو أنه ملاذ للخروج من الأزمات الاقتصادية المتتالية، التي صنعتها الإدارات المعنية بعدم تشكيل أي بعد نهضوي في العالم العربي استجابة لعاملين الأول: هيمنة القيم الإمبريالية التي تحول دون خلق قوى وطنية، يمكن أن تهدد الهيمنة الإمبريالية، ثانيا هذه القوى ينبغي أن تتصل عضويا بالسلطات غير المكرسة ديمقراطيا، ومن هنا فإن عوامل تشتيت العقل العربي نتج عبر حرف التعليم عن غاياته الحقيقية، ومنها تشكيل العقل الحر الناقد، بالتجاوز مع تكثيف الجانب الوظيفي، من منطلق أن أي عقل حر، وناقد سيشكل تهديدا للقيم البالية؛ ولهذا فإن نتاج الجامعات الأمريكية ليس سوى نتاج نظام تعليمي حقيقي، بل إن طلاب جامعات النخبة أظهرت أن التغيير ربما ينتج عن عقل مدرك لا محاصر بالنمط الوظيفي القائم على تحصيل شهادة فحسب، فلا جرم أن يصطدم العقل الحر في لحظة ما مع سردية إمبريالية تعتمد لغة المصالح، ولا شيء آخر.
ومن ناحية أخرى فإن ضعف تشكيل العقل العربي، ربما ينتج في بعض الدول عن التخمة التي قد تقود إلى الكسل المعرفي، وتعطيل التفكير، وبهذا فإن كلتا الممارستين ستنتجان الوضع عينه، لكن المقصد سيؤدي دائما إلى نسق مضمر أنتجته القوى الاستعمارية، كما أنه لا يمكن أن نتجاوز حقيقة أن العقل العربي يُعاد تشكيله تبعا للمرحلة، والغاية، والسياقات، وفي ظل غياب الوعي الناتج عن القيم التعليمية القائمة على التفكير الحقيقي فإن هذا العقل سيبقى ضمن منظومة إعادة التشكيل، لكن ضمن صيغة سلبية.
إن ما يحصل في الجامعات الغربية والأمريكية خاصة، يمكن أن يعني تصارع سرديتين، الأولى تلك التي تتبناها السلطة، ومن خلفها الإعلام المملوك في معظمه للقوى الصهيونية، كما أن السردية المضادة تنهض على وعي جديد، فالحرب التي تشهدها غزة تبدو الأكثر دموية، وخرقا لمعنى القيم الإنسانية، ولا يمكن لأي عاقل أن يتجاهلها، غير أن ضعف التلقي العربي لها قد يعود لانشغال العقل العربي بذاته المترنحة تحت وطأة الفقر، والجوع، والحرب، والخوف، والتهجير، والاقتتال الداخلي، ما يعطل إمكانية التفكير، وربما هذا يدفعنا إلى الإيمان أو القول بأسف بأن التغيير سيبقى مرتهنا في عالمنا العربي من الخارج، وليس نتاج دينامية حيوية داخلية، وهذه لا يمكن أن تتحقق إلا بثورة فكرية يقودها تعليم حقيقي ومثقفون حقيقيون، ومعنى المثقف الحقيقي فعل معقد، ونموذج إشكالي، يحتاج إلى زمن وتضحيات، كما أنه ينتج في أزمنة تكسوها العتمة التي تكون حافزا للبحث عن شيء من ضوء، فهل يمكن أن تكون غزة عاملا حقيقيا في إخراج العقل العربي من سباته، والبدء بالتفكير في التغيير عبر جدلية توليد الأفكار، وتبني سردية جديدة، ولاسيما بعد إفلاس السردية العربية، وسلبية الوعي نتاج تراكم إدارة سيئة منذ رحيل الاستعمار إلى الآن.
إن مقولة سابقة اعتمدتها في بعض كتبي مفادها، أن مقولات النهضة العربية والتنوير لم تكن سوى نتاج حتمي لأزمنة التحديث لا التقدم أو التنوير الحقيقي، فأي نهضة هذه التي قادت إلى دول شبه مسلوبة الإرادة، وكسيحة! أو أنها مرتهنة للقوى الخارجية، ويمكن القول إنها ساكنة، فإسهامها في الحضارة البشرية المعاصرة يكاد يكون متواضعا، على الرغم من انقضاء زمن طويل على رحيل الاستعمار، غير أن العقل العربي ما زال مستعمرا: خارجيا من خلال فعل التشكيل تبعا للقوى الكبرى، وداخليا نتيجة الارتهان للخطابات العنصرية، والفساد، والإقصاء، وقمع الحرية، ومحاربة التفكير، وبذلك يمكن القول إننا أقرب إلى البحث عن ممارسة ما نعته الروائي الكيني نغوغي واثينغو تحت عبارة عنوان كتابه «تصفية استعمار العقل» فالمعضلة تكمن في العقل لا شيء آخر.